بمبادرات شخصية، أو مجتمعية، يُضيف اليمنيون إلى روحانية شهر رمضان، عادات ومظاهر أخرى جميلة، فيها الكثير من صور الإنسانية، والتراحم والتكافل الاجتماعي، ومن ذلك، موائدُ الإفطار الجماعيّ، التي تعكس كرم اليمنيين وجُودهم، خاصةً في رمضان.

في كل عام خلال أيام شهر رمضان، اعتاد العم سالم (56 عامًا)، على دعوة أكبر عدد ممكن، من الصائمين بعد صلاة المغرب، لتناول وجبة العشاء، في منزله وسط مدينة إب، يقول لـ"خيوط"، إنه يرجو بهذا العمل، وجهَ الله تعالى، ونيلَ الأجر والثواب في هذا الشهر المبارك، ينافسه في الأجر، جارُه عبدالله (46 عامًا) الذي يدعو، هو الآخر، الناسَ لإفطار جماعي في فناء منزله.

لمبادرات الإفطار الجماعي في اليمن، أكثر من طريقة وشكل، مثل موائد الإفطار التي تُفرَش في الساحات المفتوحة، وعلى امتداد الشوارع، كذلك وجبات الإفطار التي تُقيمها الأُسَر المقتدرة في منازلها، وتدعو إليها الجيران، وعابري السبيل، والبعيدين عن أُسرهم.

باصات لنقل الصائمين

في مدينة إب، لا يقتصر الأمر على دعوة المصلين في المساجد المجاورة، فبعض العائلات المقتدرة خصصت في رمضان هذا العام، باصات لنقل الناس من مساجد بعيدة، لتناول العَشاء عندها.

شاب يعمل في مدينة إب وأهله في القرية، يتحدث لـ"خيوط" متعجبًا: "والله جاؤوا أخذونا بباص من مسجد في السوق المركزي إلى عشاء في بيت بمفرق جبلة!".

يعلق الكاتب كمال البعداني، قائلًا: "في إب، يتسابق الجميع على أخذ الناس من المساجد، من أجل تناول وجبة العشاء في بيوتهم، وبعضهم يخصص باصات أمام المساجد من أجل ذلك، ويحدث تنافسٌ عجيب في هذا الأمر".

في مدينة إب، "لن تجد في رمضان مطعمًا واحدًا مفتوحًا"؛ هكذا يقول أبو طه، وهو أحد المواطنين، يُعقب: "والسبب أنّ أهل إب فاتحون بيوتهم، يتنافسون في جمع الناس وأخذهم لتناول الفطور والعشاء".

من كل بيت وجبة

هذه واحدة من الطرق المنتشرة، في القرى والأحياء والحارات الصغيرة، حيث يَجلبُ كلُّ شخص، من منزله، وجبةً معينة، ثم يجتمعون في مكان واحد، ويتناولون سويًّا طعامَ الإفطار، ويدعون أيضًا من ليس لديه القدرة على المشاركة، ويستمرّون هكذا طيلة أيام شهر رمضان.

يتحدث لـ"خيوط"، الشاب محمد (21 عامًا)، وبيده طبق "الشفوت"، واصفًا مشاعره وهو يشارك أبناء الحي طعامَ الإفطار، يوميًّا، يقول: "للإفطار الجماعي مذاقٌ مختلف، ونكهة خاصة، وذكريات تظل عالقة في الأذهان، نتذكر هذا العام ما قمنا به في رمضان السابق، ونكرّره في رمضان الحالي".

فطور في المساجد

وإلى المساجد، يُحضِر بعضُ المصلِّين معهم، الفطورَ للصائمين؛ من تمر، وقهوة، وماء، وشُربة، ونحوها، فيتشاركون الطعام، والشراب، والدعاء.

وفي مساجد صنعاء القديمة، يجتمع المصلون في باحاتها قبيل أذان المغرب، يجلسون في حلقات دائرية ويفطرون معًا.

وفي مأرب شرق البلاد، يقول أبو الأقيال الماربيّ (اسم مستعار): "من عاداتنا في رمضان بمحافظة مأرب وأغلب محافظات اليمن، أن يجتمع الرجال مع فطورهم الخفيف في المسجد، ويفطرون سويًّا ثم يصلّون المغرب".

"ارحبُوا على الحاصل"

يقول صاحب الضيافة متواضعًا، وهو يرحّب بضيوفه، على وجبة الإفطار بمنزله: "ارحبوا على الحاصل"، فيردّون: "حاصلكم كثير"، وهي من المقولات الشعبية المتداولة بين اليمنيّين، في رمضان، وبقية شهور السنة، توحي بالتواضع، وكرم الضيافة، وليس الغرضُ التفاخرَ، أو التباهيَ في تقديم ما لذّ وطاب، من الأطعمة والمشروبات. 

فطُور سَفريّ

ومن مظاهر إفطار الصائمين في اليمن، طرقٌ أخرى فرضتها الظروف والحالة المعيشية الصعبة للكثير من الأسر، بسبب الحرب وتدهور الوضع الاقتصادي، حيث تقوم الكثير من العائلات والمبادرات، بتوفير وجبات إفطار للصائمين المُعْوِزين، من خلال تحضير هذه الوجبات ولفها في أكياس حافظة، ومن ثم توزيعها قبيل موعد أذان المغرب على بيوت العائلات الفقيرة والمُعدِمة، فيما تقوم عائلات أخرى بتحضير وجبات إفطار متنوعة، وترسل أبناءها لتوزيعها في الجولات ومفارق الطرق الفرعية والرئيسية، على المارّة وسائقي السيارات.

تساهم الجمعيات الخيرية أيضًا في إقامة موائد الإفطار الجماعي، وتربطها بنشاطات أخرى. في هذا العام مثلًا، نظّمت جمعية اسمها "جمعية أطفال الأرض" إفطارًا جماعيًّا ونشاطًا ثقافيًّا وترفيهيًّا لـ(500) يتيم ويتيمة في محافظتي مأرب وتعز.

من العادات الجميلة القديمة المتجددة، بمحافظة شبوة، وخاصةً في المناطق الريفية التي يعمل سكانها في الزراعة وتربية الحيوانات، أن تقوم الأسر بتخصيص واحدة أو اثنتين من المواشي، لذبحها وإقامة مأدبة إفطار جماعي، للجيران، والمسافرين وغيرهم، ويجري ذلك على كل الأسر بالتناوب طيلة أيام رمضان.

تيس رمضان

هذه واحدة من العادات الجميلة القديمة المتجددة، بمحافظة شبوة، وخاصةً في المناطق الريفية التي يعمل سكانها في الزراعة وتربية الحيوانات، حيث تقوم الأسر بتخصيص واحدة أو اثنتين من المواشي، لذبحها وإقامة مأدبة إفطار جماعي، للجيران، والمسافرين وغيرهم، ويجري ذلك على كلّ الأُسَر بالتناوب طيلة أيام شهر رمضان.

أطول مائدة إفطار

في 5 رمضان، نفذّت مبادرة شبابية في مدينة عدن (جنوب اليمن) إفطارًا جماعيًّا على امتداد ساحل المدينة، ولاقت المبادرة تفاعلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى إنّ قيادات في الدولة، بينهم رئيس الحكومة، شاركوا في هذا الإفطار، وعلّق الأديب والكاتب المعروف خالد الرويشان، قائلًا: "إفطار جماعيّ ضخمٌ وفخم بطول الساحل، في عدن".

وفي خور المكلا بحضرموت (شرق اليمن)، أُقيمت هناك بدايةَ شهر رمضان، أطولُ مائدة إفطار جماعي بالمحافظة.

وفي العاشر من رمضان، أُقيم في مدينة مأرب إفطارٌ جماعي، شارك فيه عدد كبير من المواطنين، وتخلل هذه الفعالية، وقفة تضامنية مع ضحايا جريمة تفجير منازل مواطنين في مدينة رداع بمحافظة البيضاء، يوم 19 مارس الجاري 2024، التي خلّفت نحو 15 قتيلًا، غالبيتهم من النساء والأطفال، وأُصيب آخرون، في هذه الحادثة المأساوية.

وفي محافظة الحديدة غربي اليمن، نظمت مبادرة ''شباب تهامة'' يوم 16 رمضان، أكبر إفطار جماعي في مديرية الخوخة، للعام الثالث تواليا.

وإلى محافظة تعز، فقد شهدت المدينة يوم الخميس 18 رمضان، فعالية الإفطار الجماعي الثاني بالمحافظة، بمشاركة مجتمعية واسعة، وقد كانت الفعالية -وفق القائمين عليها- مائدة محبة، وخير للجميع بلا استثناء، وفرصة للقاء، والتكافل، ونبذ الخلافات.

إفطار جماعي في الخارج

عادات اليمنيين في رمضان، ينقلونها معهم إلى الدول التي يذهبون إليها، ففي ماليزيا رعت السفارة اليمنية في كوالالمبور هذا العام، إفطارًا جماعيًّا أقامته الجالية، ونظّمه اتحاد الطلبة، وحضره 1500 من المواطنين اليمنيين، رجالًا ونساءً وأطفالًا.

نقاش على فيسبوك

في اليمن، غالبية الناس يعتبرون موائدَ الإفطار الجماعي في شهر رمضان، عادات وتقاليد قديمة جميلة، تتجدّد كلَّ عام، وهي من أعمال الخير والبركة؛ لكن ومع انتشار المبادرات التي تقوم بتنظيم أطول موائد للإفطار الجماعي، وتنافُس بعض المحافظات في ذلك، إضافة إلى تناول وتغطية تلك الفعاليات بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، رأى آخرون أن بعض تلك الموائد والتجمعات، أصبحت للتباهي ولغرض النشر الإعلامي.

شارك مُعِدّ المادة في نقاش على موقع فيسبوك، بسؤال طرحه حول الغرض الأساسي من إقامة أطول موائد للإفطار الجماعي في عدة محافظات يمنية، وكانت الإجابات متباينة.

أحمد الحميري، استبعد أن يكون الهدف هو التباهي، وإنما عادات حِبية، يحضرها الفقير وعابر السبيل، يوافقه نواف الشيبري، فهي كما يقول، للوحدة واللمّة، تتآلف فيها القلوب، بطيبة وأخوّة وكرم.

أمين الحسامي، وابن ناجي، ووحيد الشارحي، وصالح الداعري، يقولون إنّ الغرض هو التباهي والنشر الإعلامي، كذلك شاكر السامعي الذي سأل متعجبًا: "وإلا لماذا يصورون؟!". أيضًا عبدالله دبوان، يعتقد أنّ موائد الإفطار، هي للنشر والتصوير، ويسأل: "هل تقام كل يوم بهذا الشكل؟". عفاف حسين، وقطرة ندى (اسم مستعار)، يردان بالقول: "لا تَباهيَ في الموضوع. خذوا الظاهر، واتركوا النوايا لله". بدوره محمد اليحيوي يرد: "إذا كان للتباهي فلن يخسر هذه المبالغ على شان صورة!".

رسام المري، وأبو فضل حرمل، يرون في الإفطار الجماعي عادات وتقاليد قديمة، الهدف منها اكتساب الأجر والخير، وهذا رأي عبدالكريم زاهر، الذي يقول إنها أعمال خيرية بغض النظر عن النية، يتفق معهما أبو خالد الحميري بقوله: "مهما يكن فهو عمل خيري ممتاز".

أما أبو صابر، فله رأي مختلف؛ يقول: "إنّ في موائد الإفطار الجماعي نوعٌ من التفاخر وإيضاح ما اشتهر به اليمنيون من كرم"، وهي -بحسبه- رسالة للعالم أنّ اليمنيين لا يزالون يتباهون بكرمهم. يعلق أمجد حزام قائلًا: "إذا كانت هذه العادة جرت من قبل ظهور السوشيال ميديا، وما زالت مستمرة إلى اليوم، فإنّ الناس تبحث عن الأجر في هذا الشهر الفضيل، وليس الشهرة".

مروان البعداني، يقول إنّ الغرض هو حثّ الناس على العمل الخيري، إضافة إلى أنها مناسبة لِلَمِّ شمل الناس والتعارف، وبذات الرأي يعلق علي إسماعيل قائلًا: "الهدف هو الرغبة في إعادة الأُلفة والمحبّة بين أفراد المجتمع، في زمن الفرقة والتشطير"، كذلك محمد اليماني، الذي يؤكّد أنّ موائد الإفطار الجماعي، تأتي ابتهاجًا برمضان ولإعادة الأُلفة. وختامًا مع ربيع الصبري، الذي يُعدّد فوائد لهذه الفعاليات،

منها: التآلُف، والتعارف، وزرع المحبة، وتشارُك العيش والملح بين الناس، إضافة إلى أنّها تحمل رسائل إيجابية للأطفال، تعلمهم دروسًا في الأخوّة، فضلًا عن الفائدة الأساسية؛ وهي مشاركة المُعدمين، والفقراء، والمحتاجين، في هذه الموائد".

‍