يلعب القطاع الخاص دورًا محوريًّا في تنمية المجتمع، ويشكل مع الدولة والمجتمع المدني مثلث الاستقرار والازدهار في معظم شعوب العالم، وفي اليمن يبرز دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي والتجاري بالشراكة مع القطاع الحكومي؛ فقبل الحرب كان يساهم بحوالي 54% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما القطاع الحكومي كان يساهم بالنسبة المتبقية، وترتفع هذه النسبة على مستوى بعض القطاعات لتصل إلى أكثر من 90% في قطاعات الزراعة والخدمات.
وخلال العقود الماضية ظل القطاع الخاص يعاني من اختلالات هيكلية، مثل سيطرة نمط الشركات العائلية ومحدودية الشركات المساهمة، مما يجعل نشاطها شبه مغلق وقابل للانهيار في حالات الأزمات والحروب، وغلبة المنشآت الصغيرة والتي تشكل حوالي 95% في القطاع الصناعي، إضافة إلى ضعف البنية التحتية من الكهرباء والمياه والاتصالات والنقل، وندرة العمالة الماهرة، وهشاشة الوضع السياسي والأمني.
ورغم ذلك، استطاع القطاع الخاص وضع بصماته في النشاط التجاري وتوفير معظم السلع الغذائية والاستهلاكية، وكذلك السلع المعمرة، عبر قنوات التجارة الخارجية مع معظم البلدان، مما ساهم في استقرار الأسواق والأسعار وتلبية معظم احتياجات الناس، وتمكن من إنشاء قطاع صناعي حديث رغم اعتماده على المواد الخام المستوردة من الخارج، كما ساهم في تطوير قطاعات عديدة، مثل الاتصالات، والبناء والتشييد، والسياحة "الفنادق والمطاعم"، والصحة والتعليم وغيرها.
رغم كل تحديات الحرب، يمكن القول إن مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي ارتفعت إلى أكثر من 80% رغم تحقيق معدلات نموّ اقتصادي سالبة، بسبب تراجع النشاط في القطاع النفطي وتوقف معظم مؤسسات القطاع العام عن أعمالها مقارنة بما كان عليه الوضع قبل الحرب.
وخلال السنوات السبع الماضية، واجه القطاع الخاص تداعيات أزمة الحرب والحصار، واستطاع التكيف والصمود والاستمرار في أعماله التجارية والصناعية والخدمية، رغم الصعوبات التي أفرزتها الحرب والمتمثلة في الخسائر المادية التي طالت منشآته المختلفة بسبب الغارات الجوية والحرب البينية، إضافة إلى تراجع فرص الاستثمار في القطاعات الإنتاجية والخدمية، وأصبحت بيئة الأعمال طاردة للاستثمارات المحلية والأجنبية، والتوجه نحو المضاربة بالعقارات وارتفاع أسعارها بنسب عالية، وانكماش نشاط القطاع المصرفي في معاملاته مع العالم الخارجي وعجزه عن تسهيل حركة الاستيراد للسلع المطلوبة، وتشطير البنك المركزي وانعكاساته على سعر صرف العملة الوطنية؛ مما أوجد حالة مستعصية من عدم اليقين لدى المؤسسات والشركات الخاصة، وزيادة أعباء المبادلات المالية بين مناطق صنعاء ومناطق عدن، فضلًا عن تصاعد حجم الجبايات في مناطق صنعاء بصورة جمارك إضافية وضرائب وزكاة ورسوم عديدة أخرى، وتشير التقارير إلى أن تلك الجبايات تضاعفت إلى قرابة عشرة أضعاف مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب، وللأسف فإن تلك الأموال تضاف إلى قيمة السلع وتكون على حساب المواطن المسكين والمستهلك النهائي والمنهك ماديًّا ومعنويًّا.
كما أن ظروف الحرب أفرزت فئة طفيلية من القطاع الخاص يزدهر نشاطه أثناء ندرة السلع الضرورية من خلال التهريب الجمركي والتهرب الضريبي بدعم من جهات نافذة بالسلطة، ويجني أرباحه من معاناة الناس وآلامهم.
ورغم كل تحديات الحرب، يمكن القول إن مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي ارتفعت إلى أكثر من 80% رغم تحقيق معدلات نموّ اقتصادي سالبة، بسبب تراجع النشاط في القطاع النفطي وتوقف معظم مؤسسات القطاع العام عن أعمالها مقارنة بما كان عليه الوضع قبل الحرب، وتمكن القطاع الخاص خلال فترة الحرب من تقديم معالجات عملية لضمان استقرار الأسواق لمعظم السلع والخدمات، عبر توفير السلع الغذائية وغيرها من السلع، وجعلها متاحة بالمدن والأرياف، ولم يحدث أي ندرة أو شح في عرضها، رغم القيود المفروضة على الموانئ والمطارات والبنوك، إضافة إلى قدرته على نقل البضائع بين مناطق عدن ومناطق صنعاء واستمرار الإمداد والتموين لكافة السلع إلى كل التجمعات السكانية، بالرغم من الدمار الذي طال الجسور والطرقات الرئيسية، بل إن بعضها تحول إلى مناطق اشتباكات وصراع، واستخدم طرقًا بديلة كانت أساسًا طرقًا ريفية وغير مهيئة لشاحنات النقل الكبيرة، ودفع كل الجبايات غير الرسمية في النقاط الأمنية المنتشرة حول نقاط التماس لأطراف الصراع.
كما عمل على تسهيل الاستيراد من الخارج عبر بعض بيوت الصرافة، والتي أضحت تقوم بمهام البنوك في مبادلات التجارة الخارجية، كما تمكن القطاع الخاص من القيام بمهام حيوية كانت قبل الحرب حكرًا على مؤسسات القطاع العام الحكومي، معتمدة على دعم مالي حكومي كبير، الكهرباء والنفط مثالًا، فعندما انهارت منظومة الشبكة الكهربائية الموحدة التي كانت تقدم الخدمة لمعظم السكان، عمل القطاع التجاري على توفير وسائل الطاقة الشمسية البديلة لجميع الناس في الحضر والريف، بل ساهم في توفير خدمة الكهرباء من خلال المولدات الخاصة في معظم المدن، وفقًا لمبدأ التكلفة والعائد، كما ساهم في توفير المشتقات النفطية وفقًا لأسعار السوق العالمي بسبب إلغاء الدعم الحكومي لهما.
وإجمالًا، يحسب للقطاع الخاص قدرته على الصمود في ظل الحرب المدمرة، وقيامه بإدارة الأعمال والأنشطة التجارية والصناعية والخدمية، رغم المخاطر والصعوبات الداخلية والخارجية، فعلى حكومة صنعاء مراجعة سياساتها المالية القائمة على فرض الجبايات والإتاوات، والذي يولّد بيئة مثبطة وطاردة للقطاع الخاص؛ لأن في ذلك عبئًا ثقيلًا يقع بالأخير على كاهل المواطنين، والذين يعانون أسوأ المعاناة، وقد ينفد صبرهم عاجلًا أو آجلًا، خاصة أن الحكومة عاجزة عن تبرير تلك الجبايات، ولو بصرف نصف راتب شهريًّا لموظفي الدولة.
وبالمقابل، فعلى حكومة عدن مراجعة سياساتها الاقتصادية القائمة على تمويل نفقاتها من مصادر تضخمية تتمثل في الإصدارات النقدية المتكررة، والذي قاد إلى نتائج كارثية في انهيار قيمة العملة الوطنية وارتفاع متصاعد لأسعار السلع والخدمات، والضحية في ذلك هو المواطن الذي أضحى مكتويًا بنار الغلاء كل صباح ومساء.
كما أن على الطرفين في صنعاء وعدن أن يعلموا أن أزمة الحرب دخلت في عالم النسيان لدى المجتمع الدولي وأن عليهم أن يتحملوا مسؤوليتهم التاريخية ويبادروا إلى وقف نزيف الدماء وانهيار الاقتصاد وإفقار الناس، وتبني استراتيجية الخروج من أوحال الحرب، ووضع أسس سليمة للسلام والاستقرار لكل شرائح المجتمع، بما فيها القطاع الخاص، وعامة الناس في عموم البلاد.