عرف الإنسان الفخار وامتهن صناعته وتشكيله، من الصلصال منذ استقر وصنع منه مستلزماته اليومية من أواني متنوعة بأشكال عديدة لتتواءم مع حاجته لتلك القطع والأواني لحفظ الماء، وإعداد الطعام وصناعة الخبز، وفي الزمن المتأخر صارت للفخار استخدامات جمالية متعددة مثل التحف والتماثيل الصغيرة وأصص النباتات والزهور في المساكن.
وجد الفخار في كل الحضارات الإنسانية، ووجدت بقاياه في الأضرحة، والقبور، كما هو الحال في المدافن الفرعونية، وفي حضارة المايا والأزدك، وعند الصينيين، الذين تفننوا في تشكيله، وتطويره وتلوينه بالنقوش والزخارف، فكان فن الخزف امتدادًا للفخاريات والصلصاليات رغم تباعد القارات في ما بينها، وكذا في الجزر المعزولة، ويكاد يكون هو السمة المشتركة التي وجدت في كل الحضارات في أسيا وأفريقيا، وأوروبا والأميركيتين، وأستراليا وفي كل مكان وجدت فيه حضارة إنسانية.
صناعة الفخار
مرت صناعة الفخار بمراحل كثيرة منذ آلاف السنين، وتناقلتها الحضارات البشرية، وطورتها، وأدخلت عليها تحسينات كثيرة. ومنذ كان الصنع يدويًا بكل مراحله وصولًا الى الآلات والمكنات والتصنيع التجاري الذي أنتج حالة واسعة من التشكيلات، ولمختلف الأغراض بما في ذلك السيراميك والصيني، وقبلهما الياجور والطوب المحروق.
وتبدأ صناعة الفخار من اختيار الطين المناسب ونخله، وعجنه، فهناك تُرب مناسبة لإنتاجه، ومناطق معينة اشتهرت بصناعته لا سيما عند ضفاف الأودية، وفي المصبات، حيث تنقل الأودية مكوناتها من منابعها، ومن المرتفعات لتشكل خامة مناسبة ومثالية لصناعة الفخار، كما يسهم الحرق في إعطاء الفخار الصلابة المطلوبة، واللون الأحمر الفاتح المعروف به. وتوضع المحارق في أماكن محددة، وبشكل دائري في أغلبها، و تتعرض القطع الى حرارة عالية تتكفل بجعل الطين متماسكًا وصلبًا بما يكفي للاستخدام، وتحمُّل النقل وعوامل الطقس والمناخ، وحفظ السوائل والطعام ومقاومة التأكل عبر سنوات عديدة قد تمتد إلى قرون. ولا يزال البعض في المناطق الريفية المحافظة على صناعة الفخار تستخدم الأيدي البشرية في عجن الطين وتشكيله، دون استخدام الآلات المحورية الدوارة التي تسمى دولاب. ويستخدم بعض الحرفيين المهرة أيديهم في تشكيل الفخار دائريًا كما هو الحال في صناعة التنور، أو الموفى. وقد شاهدت نساء في أرياف جنوب تعز قبل عقود يشكلن الطين لصناعة التنور، أو الموفى بشكل دائري مدهش، برص قطع الطين فوق بعضها وتسويتها بقطعة خشبية من الداخل والخارج تمهيدًا لعملية حرقها.
وفرت الآلات المحورية البسيطة، أو الدولاب الذي يدار بواسطة الأقدام ويوضع عليه الطين، الكثير من الجهد والمشقة، في صناعة الفخار، وفي ضبط الأشكال، وأبعادها، ودقة صنعها، وملمسها. لا سيما في صناعة الجرار، والمزهريات.. ومختلف أنواع المنتجات الفخارية. رغم قدم هذا الاكتشاف الذي يعود الى أزمنة قديمة ودهور سحيقة، إلا أن انتشاره كان محدودًا ولا يمتلكه إلا أرباب المعامل الكبيرة ومعظم الأرياف اليمنية كانت بل ولا تزال تشكل الفخار يدويًا دون امتلاك ألآلات محورية، أو دواليب وهذا يعود الى إمكانياتهم البسيطة. وخبراتهم التقليدية المتواضعة والبدائية..
كما أن المنتجات الفخارية في معظمها مزينة بالأصباغ والنقوش والرسوم، الشعبية، المتجذرة في الفن البدائي الشعبي والفطري البسيط وقد تطلى بمادة زيتية لامعة كما هو الحال في الفنجان الحيسى..والجفنة المخصصة للفتة والتي نجدها متربعة في أبواب المطاعم..
وقد تطلى بعض الفخاريات كالمدرة المخصصة لعمل "السلتة" بالأصباغ السوداء الشبيهة بالقطران كما تمر بعض القطع الفخارية بمراحل لاحقة مثل "الملحة" التي يتم دهنها بزيوت طبيعية من نخاع عظام الثيران لعدة مرات حتى تكون جاهزة للاستخدام.
تواجه المنتجات الفخارية مشاكل كثيرة كغيرها من المشغولات اليدوية، والمنتجات الشعبية، المعرضة للاندثار، والزوال في مناطق كثيرة، من العالم مع التقدم الصناعي، ورواج السلع، والمنتجات الحديثة، والبديلة من الألمنيوم، والحديد، والبلاستيك، والنحاس ومختلف المنتجات الحديثة، حيث روجت لها وسائل الإعلام لتعظيم نزعة المستهلك نحو كل جديد ومبهر الشكل، بغض النظر عن المخاطر الصحية التي ترافق استخدامه، وضياع النكهات المميزة لما يقابلها من المنتجات الفخارية، كما أن خفة وزن المنتجات الحديثة وسهولة حملها وتوزيعها وأحجامها، جعلها تجد رواجًا كبيرًا ويجهل الكثير مخاطرها الصحية لا سيما البلاستيك والألمنيوم، على الصحة بعكس المنتجات الفخارية الصحية والتي تظفي على أطعمتنا جودة ونكهة لا يمكن وصفها. إنها تمنح الطعام لذة ورائحة وجودة في الطهي، فنستطيع شم الطعام المطهو بالفخار وعلى نار طبيعية، لمسافات بعيدة، وحين يحضر إلى المائدة، يفتح بنكهته الشهية، ويشرح الأنفس، كما أن للماء في الأواني الفخارية في الكوز، والجرة والمدلات، طعمًا آخر وعذوبة لا يمكن وصفها. بل أن دراسات حديثة ذهبت إلى أبعد من ذلك في الثناء على جودة الماء في الفخاريات واكتسابه صفات صحية، والحفاظ على خصائصه دون تغيير، بعكس الأواني البلاستكية والمعدنية.
إنقاذ هذه الحرف الأصيلة والمتأصلة في هويتنا الثقافية والاستهلاكية يتطلب جهدًا كبيرًا ودعمًا حكوميًا متواصلًا في الترويج لهذه الحرف في كل وسائل الإعلام، وعبر وسائل التواصل والصحف والدوريات، وفي الشوارع والتجمعات، وإعلام الناس بجودتها ومنافعها الصحية وأبعادها الثقافية، كما ينبغي قيام جهد مجتمعي وشعبي رديف للجهود الحكومية في توعية المجتمع، ونشر الأبعاد الجمالية والتراثية للمشغولات، والحرف التقليدية والتمسك بها.
طين الضرورة في اليمن
وفي اليمن عرف الإنسان الفخار، وتشكيله، وزخرفته، وكان من الضروريات التي لا يخلو منها بيت، لا سيما قبل معرفة الأواني المعدنية والبلاستيكية التي طغت على حياتنا العصرية، وسرعت زوال الأواني الفخارية من حياتنا، ونزوع السواد الأعظم من الناس الى الاستبدال بها الأواني المعدنية والبلاستيكية الخرساء والجامدة التي روجت لها وسائل الأعلام الحديثة، لتعظيم النزعة الاستهلاكية السريعة في العالم التي توجهها قوى رأس المال المسيطر على كل جوانب حياتنا.
وقد يسمى عامل الفخاريات مَدَّار، والمِمدارة من الأحياء الشعبية في عدن، والتي أخذت اسمها من تلك المهنة التي كانت رائجة في الزمن الماضي قبل ظهور الأواني البديلة، والتي حجمت وحدت من الانتشار الواسع للفخار.. وكذا المَدرة التي اشتق اسمها من اسم المهنة الشاملة.
وكانت في كل قرية مِمدارة (معمل لتصنيع الفخار) في كل مكان، وفي مختلف الأزمنة. ولدى كل التجمعات البشرية في أصقاع الكوكب، بينما في الزمن المعاصر تم تهميش جماليات الفخار وفوائده الصحية، وجودة الأطعمة التي تحضر فيه، كما أثبت العلم ذلك بما فيها حفظ المياه والسوائل كالعسل والسمن والحليب.. وطهو الطعام، و صناعة الخبز ( في التناوير الطينية.)
وفي اليمن عمومًا وتهامة خصوصًا لا تزال الفخاريات حاضرة رغم كل المعوقات التي اعترضت صناعتها وبيعها، والترويج لها. وهناك مناطق تخصصت أكثر من غيرها في تصنيع الفخاريات مثل منطقة حيس في محافظة الحديدة التي اشتهرت بتلك الصناعات، وكذا في مناطق باجل، والمراوعة وبُرع و زبيد والسُخنة، وغيرها وخولان، صعدة، وحراز، وتعز، سامع وشرعب. وشبوة، والمهرة، وذمار، وسقطرى. فنسمع بالفنجان الحيسي للقهوة، الذي أخذ اسمه من مكان تصنيعه، وكذا نجد التنور، أو ما يعرف بالمافي، أو الموفى، وأشكالًا أخرى، كالبرمة الملَّحة (الإناء الذي يصنع بواسطتة اللحوح) المَعشرة، والمَشهُف القشوة، البوري، المجمرة الجرة، والكوز، والمدرة والجمنة، والفنجان والجفنة، وأصيص النباتات.. والمبخرة والزي، والمقلى وغيرها. وهناك فخاريات سميت على مكان صناعتها، سنجد الصعدي والخولاني والحيسى، والبرعي، والمروعي، والحضرمي واللحجي، ومناطق آخرى. أطلق على المشغولات بمكان نشأتها.
في الأسواق الشعبية في تهامة على وجه الخصوص هناك مكان خاص لسوق الفخاريات يتم فيه عرض تلك المصنوعات النابضة بالجمال، والمعطرة بالأصالة. وللسوق الشعبي أو ما يسمى "وعد" يوم محدد يلتقي فيه المتسوقون ويتم تبادل السلع والمنتجات، والبيع والشراء.. ويكون لسوق الفخاريات مكان محدد وزاوية معينة. في معظم الأحوال نراها مرصوصة بشكل متناسق، ليشتري منها المتسوقون حسب رغباتهم.. وهذا نمط قديم للتبادل، منذ زمن المقايضة ليظل الفخار سلعة أصيلة، وتحف شعبية تنبض بالحياة، وتعزز قوة الإنماء للهوية وللمكان، وتستمتع بها أحداقنا، وعيوننا في مربضها في زوايا الدار وفي وسط المائدة.. حيث يكون للطعام فيها نكهة لا توصف، ورائحة تنبض بجودة الطعام ولذته.
ختامًا
إنقاذ هذه الحرف الأصيلة والمتأصلة في هويتنا الثقافية والاستهلاكية يتطلب جهدًا كبيرًا ودعمًا حكوميًا متواصلًا في الترويج لهذه الحرف في كل وسائل الإعلام وعبر وسائل التواصل والصحف والدوريات، وفي الشوارع والتجمعات وإعلام الناس بجودتها ومنافعها الصحية وأبعادها الثقافية، كما ينبغي قيام جهد مجتمعي، وشعبي رديف للجهود الحكومية في توعية المجتمع، ونشر الأبعاد الجمالية والتراثية للمشغولات، والحرف التقليدية والتمسك بها.
كما ينغي دعم المعامل والمشاغل للحرف التقليدية، وإقامة دورات تعليمية للأجيال الجديدة ،ونقل الخبرات التراكمية لتلك المهن الى براعم تحفظها من الضياع في المستقبل، وعمل معارض منتظمة في مختلف المدن ودعمها لعرض المشغولات والمنتجات الفخارية وغيرها من المهن التقليدية وتسليط وسائل الإعلام والرأي العام على أهمية تلك المهن بما فيها الفخاريات وتسهيل تصديرها إن أمكن، باعتبار ذلك نوعًا من التشجيع وتشغيل الأيدي العاملة بهذه المهن بما يشكل دعم منقطع النظير.
في ظل الأوضاع الراهنة، وبالغة السوء، يجب تدارك هذه الحرف اليدوية، والمهن التقليدية، المعرضة للاندثار، بتكثيف الترويج لها ولفت أنظار الناس الى أهميتها في تكوين هويتنا وموروثنا، والبحث عن جهات تستطيع توفير الدعم والمساندة لإنقاذها من الزوال.