ترتبط حياة الكثير من اليمنيين في الريف والمدينة بالأمثال الشعبية، ولكنها تطغى على المنطق في الريف بشكل لا متناهٍ، وخاصة حياة الفلاحين والعمّال وكبار السن وحتى التجار منهم، على حد سواء، وتمضي حياة هؤلاء على منطق المثل الشعبي بيقين ثابت قد يوازي المعتقد في أحايين كثيرة، وبالقدر الذي تعد فيه بعض الأمثال الشعبية منطقية وإيجابية لدى البعض، يرى آخرون أنها تؤثر على حياة الناس وسلوكياتهم سلبًا، في إشارة إلى أنّ هناك أمثالًا لا تتفق مع المنطق، وليست إيجابية أيضًا.
وارتباط الأمثال الشعبية بحياة الريفيين لا يقتصر على حال واحد، بل يتجاوز ذلك ليشمل جُلَّ الأحوال التي يعيشها الناس بحلوها ومرها، منها ما يتعلق بالحرث وفصول العام الأربعة كلًّا على حِدة، ومنها ما يخص الأوضاع المتعلقة بالسياسة والربح والخسارة والسفر، إلى جانب الأمثال المعنوية تلك التي تواسي هموم الناس ومشاكلهم الحياتية، وتساعدهم في تجاوز الظروف الصعبة التي يعيشونها اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وأثناء الحروب والأزمات في آن معًا.
كما أنّ هناك أمثالًا شعبية سائدة في المجتمع اليمني تعمل على تأجيج نار الخصومة من الناحية الاجتماعية بين الطبقات، من حيث الجنس واللون والمهنة والمكانة والمنطقة والمستوى التعليمي، ومن جهة أخرى تؤجج العنف بين أبناء الأرياف والمدن؛ الأمر الذي يؤدي إلى تفكك النسيج الواحد الذي تدعو إليه فلسفة علم الاجتماع، وتسعى المنظمات الدولية للتخفيف من وطأته ومحاربته في المجتمع الواحد، رغبة منها في خلق فرص للتعايش وتقبل الآخر بشفافية عادلة دون ازدراء وتعالي طرفٍ على طرف أو إنسان على إنسان.
يرى خبراء في الدراسات اللغوية أنّ معظم الأمثال في العالم كله، وليس في اليمن فحسب، قيلت وفق وقائع حقيقية أو وقائع ملحوظة، ولذا هي تصب في المجمل حول أخطائنا ولا يعني ذلك تأييد الأخطاء، فالأمثال تقال لأخذ العبرة، وليس لتبرير الفعل.
وبالتزامن مع اتساع رقعة الأحداث التي تشهدها البلاد بسبب الحرب الدائرة منذ سبعة أعوام، إلى جانب الانقسام الطائفي والسياسي والمؤسسي والثقافي والحزبي والعشائري، برزت أمثال شعبية تضاعف لغة العنف وخطاب الكراهية بين الأول المؤيد لطرفٍ ما والأخير المعارض له، وهكذا يتلاشى ويخفت ضوء البلد الهش شيئًا فشيئًا.
دور سلبي
وتعد الشبكات الاجتماعية ساحة افتراضية للعنف، حيث تسهم في تصاعد خطاب الكراهية بين اليمنيين، وتنعكس تأثيراتها بشكل سيئ على واقع الحياة بين الشباب والناشطين وحتى الأكاديميين والنخبة المثقفة، فعلى سبيل المثال لا الحصر: تأييد البعض للحكومة المعترف بها دوليًّا يدفعهم للتنمر والسخرية بأمثال فضفاضة وحاقدة وكلمات غير أخلاقية على معارضيهم في سلطة صنعاء والعكس.
وأبرز هذه المواقع: فيس بوك، وتويتر، ورغم أن سياستهما تسعى لحظر خطاب الكراهية وحجب أصحابها إلا أن الكثير يحترف خوارزمياتها ليوصل رسالة العِداء للطرف الآخر بأكثر من طريقة، وقد تصل تأثيرات خطاب الكراهية في هذه المواقع وغيرها إلى الأسرة الواحدة وحتى الأصدقاء والطلاب في المدارس والجامعات، وتمس بعضُ الأمثال شرفَ وكرامة الإنسان والحريات، وهو ما يعقّد ماهية التأقلم والوئام بين اليمنيين ككل.
"اللي تقدر على ديته اقتله": واحدٌ من عشرات الأمثال التي تشجّع على العنف وتدفع البعض لفعل ما يحلو له، وخاصة مع غياب الدولة وانتشار السلاح بشكل عشوائي في أوساط العامة، وقد تكون، في هكذا أحوال وغيرها، الكلمةُ أحدَّ من السيف، وتأثيرها يغلب العقل والمنطق.
نماذج
وفي هذا السياق، سلطت منصة "خيوط" الضوءَ على بعض الأمثال الشعبية المتداولة والتي يرى كثيرون أنها تشجع على العنف أوساط اليمنيين، وتعزز من سلبية الخطاب الذي يُغيِّب التأقلم والوئام في المجتمع اليمني.
"الطُمه يعرفك": واحد من الأمثال الشائعة التي تشجع الفرد على ممارسة العنف، وتغيب السلوك الحضاري المجتمعي الذي يدعو للسلام والترفع عن انتهاك كرامة الإنسان مهما اشتد الخلاف مع الآخر، ويشير المثل إلى ضرورة ممارسة العنف بغية بروز السلطة الشخصية والقيمة العنجهية، وهذا واحد من الأمثال الكثيرة التي تعارض المنطق ومفهوم التعايش.
أما على مستوى التأثير السلبي لتلك الأمثال مناطقيًّا، فوجدت "خيوط" الآتي: "الريمي لو فهم يموت"؛ هذا المثل الساخر له نتائج بالغة السوء اجتماعيًّا، ودلالاته ترسخ في أذهان الناس غباء أبناء المنطقة، إلا أن البعض يعلق بأن المثل خاطئ، فريمة تتمتع بنخبة من المثقفين والشعراء والصحفيين، ولها صيتها في الأدب والفن والحياة.
ومن ضمن الأمثال التي تستفز بها الأسر اليمنية أبناءها، دون إدراك لما يحدثه القول: "عذاب البغل سنة" يمارس هذا القول تجاه الابن الذي يفشل في أمرٍ ما يخصّ الشأن العائلي ثم يجبر على القيام به مرة أخرى محاولًا إتقانه لتفادي استحقار أرباب الأسرة له، ويذكر أنه يمارس في المدرسة أيضًا من قبل المعلمين والمعلمات مع الطلاب الفاشلين في حل واجباتهم، هنا تكمن المشكلة الأشد قسوة، حيث إن الإيحاءات التي يستقبلها الابن أو الطلاب تؤثر على اهتماماته كون البيئة التي يحاول بها الفلاح قاسية، ويشير علماء النفس إلى أهمية توفير بيئة ناعمة للتعليم والطموح وتنشئة الأبناء على السلوك الحميد.
وفي ظل فشل مخططات التنمية التي تتبناها السلطات والمسؤولين، وظهور خطاب التحدي والتوعد في مواقع التواصل الاجتماعي من قبل الساسة وقادة الحرب اليمنية، لجأ الكثير من الشباب إلى استخدام المثل الشعبي في مقالات النقد والتعليقات الساخرة.
ويعد هذا المثل: "الهدرة هدرة جمل، والعمل عمل نعجة" نموذجًا لأسلوب النقد الشعبي، ويحمل دلالات كثيرة، يعبر بها الناس عن استيائهم من خطابات السياسيين والقادة أو للسخرية منهم واستفزازهم.
وفي هذا الصدد، يرى إبراهيم طلحة، شاعر ودكتوراه في الدراسات اللغوية، أن معظم الأمثال في العالم كله، وليس في اليمن فحسب، قيلت وَفق وقائع حقيقية أو وقائع ملحوظة؛ ولذا هي تصب في المجمل حول أخطائنا، ولا يعني ذلك تأييد الأخطاء؛ فالأمثال تقال لأخذ العبرة، وليس لتبرير الفعل.
ويواصل حديثه: "بالإشارة إلى أن جمال المثل في كونه تلقائيًّا هكذا من غير إضفاء الجمال والصبغة الأخلاقية عليه، فنحن إن لم نعرف مواطن القبح فلن نعرف ولن نكشف مواطن الجمال".
ويشير إلى أن الأمثال الخاطئة تقتضي توضيحات في دراسات وليس تعديل الأمثال نفسها، أو من الممكن نقض المثل أحيانًا بمثل آخر، حتى تتشكل في وعي المتلقي فكرة عامة عن أغراضها.
ويطرح طلحة مثالًا حول نقض المثل بآخر ويشير إلى مثل شعبي، يقول: "اطلب الفقير ابن الغني ولا تطلب الغني ابن الفقير"، هذا المثل لا يصح على إطلاقه، فممكن أن يشار إلى مثل يوازنه، ومن ذلك "إن كان جيبك ملان الكل يخضع لك، وإن كان جيبك عطل يكرهوك أهلك".
ويضيف أن الأمثال يجري استحضارها في ميادين العمل السياسي والإعلامي والثقافي والاجتماعي، وكثيرًا ما كنا نسمع الأمثال من أفواه الرؤساء، كما أننا نسمعها في بعض التقارير الإعلامية، وتلصق بالذاكرة.
كتب ودراسات
وفي دراسة تتبع فيها محمد الحمامصي شخصية المواطنين من الطائفة اليهودية في المثل اليمني في كتاب "ذاكرة الزنار" للباحث عبدالحميد الحسامي، ركز فيها على صورة اليهودي الإيجابي والسلبي في المثل الشعبي باليمن، تفيد تفاصيل الكتاب بأن المثل يتميز بتلقائيته وبُعده عن الرقابة الرسمية، والاعتبارات السياسية، أي إنه صوت المجموعة، لذا يقدم صورة اليهودي بكل أبعادها دون تجاهل البنية الفنية التي احتضنت تلك الصورة.
بحسب ما كتب البردّوني فإن الشعب يحب التغيير من الجذور، ويتصور البديل نقيضًا نوعيًّا لسلفه، وهذا مشهور في الحياة العامة، فالإنسان يلاحظ ضخامة الفرق بين الصباح والمساء، ومدى اختلاف الأبناء عن الآباء، ويعزز رأيه بمثل شعبي متداول في اليمن "ما يجي مثل أبوه إلا الحمار"
ويرى المؤلف أن المثل الشعبي سجلّ مهم لحياة الشعب وحركته في الحياة، حيث إنه يعطي صورة حية ناطقة وصادقة لطبيعة الشعب، بما فيها من تيارات واتجاهات ظاهرة وخفية على حد سواء.
وكان للمؤرخ والشاعر عبدالله البردّوني دورًا كبيرًا في هذا السياق، حيث خصص الفصل السابع من كتابه "فنون الأدب الشعبي في اليمن" عن (الأمثال) طارحًا الكثير من المواضيع المرتبطة بالأمثال الشعبية والإشاعة والحقيقة وعصير التجارب الشعبية والحس الاجتماعي، بالإضافة إلى العامل الزمني والمال والرجال والمرأة والعادات والأخلاق، والثورة، والجبن والغنى والفقر وعن الأصيل والدخيل فيها، والأمل والأجل وغيرها، خلاف نظرية الحكم، ومسؤولية الكلمة.
وفي السياسة، كتب البردّوني: عندما يلاحظ الشعب أن البديل لا يختلف عن سلفه -في إشارة منه لتكرار نظام الحكم في البلاد- يردد اليمني مثله المشهور "ديمة قلبنا بابها" أو "اقلع بصلي واغرس ثومي".
وبحسب ما كتب البردّوني، فإن الشعب يحب التغيير من الجذور، ويتصور البديل نقيضًا نوعيًّا لسلفه، وهذا مشهور في الحياة العامة، فالإنسان يلاحظ ضخامة الفرق بين الصباح والمساء، ومدى اختلاف الأبناء عن الآباء، ويعزز رأيه بمثل شعبي متداول في اليمن "ما يجي مثل أبوه إلا الحمار". ويشير المثل إلى رفض الامتداد المتشابه للحكم، ويدعم الثورة على رتابة الحياة، وتكرار ألوانها، وبمقدار ما هو رفض للقائم فهو تصور لجمال ما سيقوم، لأن الرفض ينطوي على تبني البديل المغاير للمرفوض والمختلف عنه روحًا وشكلًا وفقًا لرأي المؤلف.
ويعرف إبراهيم الفارابي المَثَلَ في كتابه "ديوان الأدب" على أنه "ما تراضاه العامة والخاصة في لفظه ومعناه، حتى ابتذلوه فيما بينهم وفاهوا به في السراء والضراء، واستدروا به الممتنع من الدر، ووصلوا به إلى المطالب القصية، وتفرجوا به عن الكرب والمكربة، وهو من أبلغ الحكمة لأن الناس لا يجتمعون على ناقص أو مقصر في الجودة أو غير مبالغ في بلوغ المدى في النفاسة".