السياسة المؤسسة ثقافياً

المراكمة على فعل متعدد الأوجه تقوَّى خلال سنوات الحرب
محمد عبدالوهاب الشيباني
October 12, 2024

السياسة المؤسسة ثقافياً

المراكمة على فعل متعدد الأوجه تقوَّى خلال سنوات الحرب
محمد عبدالوهاب الشيباني
October 12, 2024
اللوحة للفنان التجريدي الروسي فاسيلي كاندنسكي

خلال القرن العشرين وفي بلد أكثر مناطقه معزولة عن العالم، وتستبد به سلطة دينية منكفئة ومتخلفة (المملكة المتوكلية)، ارتبط سؤال التحول السياسي بالفعل الثقافي، فالرعيل الباكر من المعارضين السياسيين تشكّلوا في حواضن ثقافية (على تقليديتها) قبل سنوات مديدة من تبلور ظاهرة الأحزاب السياسية الوطنية. 

قبل قيام حزب الأحرار اليمنيين في عدن في 1944، الذي كان المثقفون عماده الرئيس (النعمان رئيسًا، الزبيري مديرًا)، كان هناك أكثر من شكل ناشط في الحياة العامة، ومنها ما كان يسمى بهيئة النضال، التي عدّها الكثيرون أول اتجاه معارض منظَّم يظهر في عاصمة الإمام بعد هزيمة القوات العسكرية غير المنظمة والمدربة أمام القوات السعودية في تهامة، وتوقيع اتفاق الطائف مع السعودية، واتفاق الصداقة مع الإنجليز في العام ذاته 1934، وكان من أبرز رموز هذه الهيئة: أحمد المطاع، وحسن الدعيس، ومحمد المحلوي، وغيرهم.

وفي إب، كانت هناك جمعية الإصلاح، ومن رموزها: القاضي عبدالرحمن الإرياني، والمؤرخ محمد علي الأكوع، والقاضي عبدالكريم العنسي، والأستاذ عبده محمد باسلامة، ولاحقًا كان أغلب ضحايا فشل ثورة 1948 الدستورية، من المثقفين، الذين تخضب بدماء بعضهم سيف الإمام، وامتلأت سجونه في حجة وصنعاء وتعز، بالعشرات منهم.

تأثير ثورة يوليو 

منحت ثورة يوليو المصرية بتأثيرها العربي الواسع، مساحةً جديدة للمثقفين للملمة صفوفهم، والتأطر في كيانات شتى، تجمعها الرغبة في التغيير، وكان أنموذجها شباب البعثات الطلابية في المدن المصرية، الذين توزعوا سياسيًّا على جملة الأحزاب الناشطة في ذلك الوقت: البعث، و"حدتو" (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني)، وحركة القوميين العرب، والإخوان المسلمين.

أول كيان طلابي يمني موحد وُلد في القاهرة في العام 1956، وكان من أبرز مؤسسيه: أبوبكر السقاف، وعمر الجاوي، وإبراهيم صادق، ومحمد عبدالولي، وسعيد الشيباني، وهم مثقفون وأدباء معروفون، كان لهم الإسهام الواضح في خطاب الحداثة الأدبية على مدى عقود طويلة.

أبرز القيادات الحزبية القومية في أواخر الخمسينيات (حزب البعث وحركة القوميين العرب)، كانوا من المثقفين الذائعين (علي عقيل بن يحيى، عبدالعزيز المقالح، سلطان أحمد عمر، وفيصل عبداللطيف، ومحمد سعيد مسواط، وعبدالله فاضل فارع، وغيرهم). أما مؤسس اتحاد الشعب الديمقراطي، وهو أول حزب يساري في اليمن، في العام 1961، فهو المثقف والمفكر الراحل عبدالله عبدالرزاق باذيب. 

وما بعد سبتمبر 1962 وأكتوبر 1963، انخرطت في العمل السياسي أسماء وازنة جاءت من خلفيات ثقافية وأدبية، وصارت بعض هذه الأسماء في مواقع قيادية لأحزاب قومية ويسارية أو منشغلة بالشأن العام من خارج الأطر الحزبية، وقائمة الأسماء طويلة، يتبادر منها إلى الذهن: عمر الجاوي، محسن العيني، أحمد قاسم دماج، عبدالفتاح إسماعيل، محمد أحمد النعمان، محمد عبدالولي، خالد عبدالعزيز، سلطان الصريمي، عبدالله الملاحي، يوسف الشحاري، عبدالباري طاهر، أحمد سالم عبيد، علي عبدالرزاق باذيب، زكي بركات، علي مهدي الشنواح، عبدالله سلام ناجي، د. محمد علي الشهاري، يحيى البشاري، محمد عبدالله الفسيل، وغيرهم.

التدمير الذي جرى للمعالم التاريخية والمواقع الأثرية بفعل القصف الممنهج خلال سنوات، وكذا تدمير بعض المؤسسات الثقافية، وإغلاق البقية، وإفلاس بعض المراكز، إلى جانب العمل على استنهاض أدوات أدبية تقليدية، والترويج لها، وتكريسها خدمةً لمشروع الحرب بدلًا عن خطاب الحداثة الأدبي، ونعني هنا ظاهرة الزوامل والشيل، والتضييق على المطربين ودارسي الموسيقى من الجنسين- كلها تختزل عناوين المرحلة.

فماذا يعني هذا؟

يعني باختصار، أنّ المثقفين اليمنيين كانوا هم رأس الحربة في خطاب التحول منذ تسعين عامًا، وكانوا في صلب خطاب الحداثة السياسية والثقافية، غير أنّ بنية السلطة وأدواتها وأجهزتها خلال ستة عقود، سرعان ما حوّلت الفعل الثقافي إلى تابع هزيل للسلوك السياسي واستحواذاته، ثم عطلت أدوات الثقافة المؤثرة وأفرغته من حوامله التغييرية، وقامت بتنميط المثقف غير القريب منها بصورة (البوهيمي والمشرد البائس)، وتحويل المؤسسات الثقافية إلى دوائر تدجين وظيفية وبيروقراطية يديرها جلاوزة من غير المثقفين، تذهب موازناتها لغير دعم أوجه الثقافة (فنون وأدب ومعمار وصناعة كتاب وسينما وجوائز ثقافية وتفريغ الأدباء)، وما كانت تنفقه السلطة السياسية باسم الثقافة، يساوي صفرًا حقيقيًّا قياسًا بما تنفقه على مصلحة شؤون القبائل، على سبيل المثال.

التراكم الثقافي الذي أحدثته المؤسسة الرسمية في الشطر الجنوبي من اليمن، خلال قرابة ربع قرن (مسرح، سينما، فنون، صناعة كتاب)، قضت عليه توجهات سلطة ما بعد 1994 بنزوعها الإلغائي والظلامي، إذ عمدت خلال عقدين تاليين إلى إفراغ الكيانات الثقافية من رمزيتها التاريخية (اتحاد الأدباء، ونقابة الصحفيين، واتحاد الفنانين)، وجاءت سنوات الفوضى والحرب الأخيرة لتكريس انقسام المثقفين بين متراسَي الحرب؛ تارة على أساس سياسي، وتارة أخرى على أساس مناطقي وجهوي، وهو الأخطر والقاتل.

التدمير الذي جرى للمعالم التاريخية والمواقع الأثرية بفعل القصف الممنهج خلال سنوات الحرب، وكذا تدمير بعض المؤسسات الثقافية (مؤسسة السعيد)، وإغلاق البقية (اتحاد الأدباء، ومؤسسة العفيف، والمنتديات الثقافية المختلفة)، وإفلاس بعض المراكز (مركز عبادي)، إلى جانب العمل على استنهاض أدوات أدبية تقليدية والترويج لها وتكريسها خدمة لمشروع الحرب، بدلًا عن خطاب الحداثة الأدبي، ونعني هنا ظاهرة الزوامل والشيل، والتضييق على المطربين ودارسي الموسيقى من الجنسين- كلها تختزل عناوين المرحلة.

لكن بمقابل كل ذلك، لم يزل الكثير من الأدباء والمثقفين اليمنيين يقاومون حالة التجريف هذه بالكتابة والنشر وإصدار الكتب وإنتاج الأغاني والمسلسلات والأفلام (المرهقون، لعمر جمال) ونشوء دُور نشر ومؤسسات ثقافية تهتم بصناعة الكتاب واستمرارها في زمن الحرب في داخل اليمن وخارجها (أروقة، وعناوين، ودار حضرموت، والدار اليمنية، ومكتبة خالد بن الوليد وغيرها).

وعلى نماذج هذه المقاومة متعددة الأوجه، يمكن العمل على استنهاض الفعل الثقافي الخلاق من بين ركام الحرب، وعطب السياسة والشحن الظلامي، والتعويل في ذلك سيكون على جيل شاب، قاسى من الحرب وارتداداتها القاتلة، لكنه صار متخففًا جدًّا من ضغائن المتحاربين ومن تاريخ الثأر السياسي ومن حمولات المنطقة والمذهب، والأهم أنه متخففٌ من كل شيء له علاقة بأدوات الارتكاس والإظلام المعرفي. 

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English