عندما يستعرض رجال الدين عضلات ألسنتهم، ويلهبون حناجرهم، صياحًا، حين تشرئِب أعناقهم في خُطب الجمعة، في مُحاضراتهم، وكتبهم، وعلى صفحاتهم، وأينما كانوا، فغالبًا ما يكون حديثهم عن المرأة.
على مرّ العصور كانت المرأة، وما زالت، هي الماهيَّة التي يستقي منها رجال الدين قوت قوَّتهم، فالمرأة هي مصدرهم الذي يعودون له كلَّما سُحب البساط من تحت أقدامهم.
وهو الأمر الذي تحدث عنه عبدالله إبراهيم في الجزء الأول من كتابه (موسوعة السرد العربي)، وخلُص إلى أنّ "الذكورية العربية، التي اصطنعت قوتها على أُسس دينية، تنامت في العصور المُتأخرة تغطية عن العجز الذي ضربها في الصميم، مقارنة بالأدوار الفاعلة التي كان يُمارسها الذكور في القرون الأولى"، وقياسًا على واقعنا العربي الحالي عندما سقطت الحكومات العربيَّة، واندلعت الحروب، نشط الدعاة والشيوخ المتشددون وانتفخت أوداجهم؛ وبدلًا من توجيه خطابهم لرأب الصدع، وإحلال السلام، ومواجهة الفساد، اكتفوا بدورهم كحرَّاس على الفضيلة، ودسَّوا أنوفهم في كل مدينة، وشارع، وزقاق، وفي كل بيت بحثًا عن المرأة. باختصار، يلعب رجال الدين، بكَرْتِ المرأة دائمًا، فهي وورقتهم الرابحة التي يهفو إليها أتباعهم.
على صفحة بروفايل عضو مجلس النواب، التابع لحزب التجمع اليمني للإصلاح، عبدالله أحمد علي العُديني، شعار يتساءل فيه: "أين ذهب هذا الشعار وأين اختفى؟ إما أن يصل الحكم إلى أيدي المؤمنين أو يصل الإيمان إلى قلوب الحاكمين".
وعندما تتصفح حساب العُديني على الفيسبوك، تجده لا يبحث عن الطريقة التي يُوصل بها الإيمان إلى قلوب الحكَّام، ولا يسعى إلى إيصال الحكم إلى أيدي المؤمنين، والذي يبدو أنه وصل لهم.
العُديني الذي يرى أنّ المرأة ليس من حقها أن تمتلك هاتف لمس، يُبيح لنفسه استخدام هذا الهاتف، لمَ لا؟! فهو لا يخاف على نفسه من الفتنة، ذكوريته تُعطيه حصانة، هو رجل يعني هو منزّه عن الخطأ.
في منشورات العُديني، ومشاركاته، لا تحضر اليمن، لا تحضر كذلك مدينة تعز إلَّا إذا تعلَّق الأمر بجلباب أو تبرج، لا يتذكر العُديني القضايا العادلة في بلده، والتي تحتاج إلى وقفة حقيقية من المؤثرين على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم. لا تُثير حفيظته المرأة التي "تُسارب"؛ لتعبّئ الماء، أو دبة (قنينة) الغاز. أو تلك التي تقف على قارعة الطريق تسأل الناس حاجتها، لا تعنيه تلك الثكلى التي قضى زوجها أو ابنها في الحرب.
لكن عندما يجد امرأة تشذّ عن الطريق الذي رسمه لها، وتخرج النساء عن سلطة الشيخ، يُتاخمن بحصونهن، قصره الزجاجي، فإنه ينتفض وتدب في قلبه الغيرة على الدين.
كيف يُمكننا فَهم هذه التوليفة غير المتوازنة بين الدين، والعادات والتقاليد، والمرأة، وفق تناقضات الفكر والفكر المضادّ؟
العُديني ليس فردًا حتّى نعالج فكره وفق أُطر مُحددة، لكنّه منظور مُجتمعيّ تفشَّى بشكل ملحوظ وتعاظم خلال سنوات الحرب، وهذا ديدن المجتمعات التي تعلو فيها السلطة الذكوريَّة، ولنا في أفغانستان وإيران، نموذجًا.
في كتابها (الحريم الثقافي بين الثابت والمتحول)، تقول سالمة الموشي: "لا نستطيع أن نتفهم قضية ما إلَّا إذا تتبعنا تاريخها وفعل التجذر العميق فيها، لن أعتبره حكمًا قيميًّا، أو تقويمًّا، بقدر ما هو تتبع لنظام غائي البعد في مفهومه النسقي الثبات، واللانمو، نظريًّا وحركيًّا، ليس ضمن اشتراطات منهاج سلطة المتعلم فقط، بل باعتبار الذات الأُنثوية فكرة ثابتة لا تمتلك حركتها".
عُدَّت المرأة منذ قرون، شخصيَّة ميّتة زمنيًّا، لا تتطور، لا تتأثر بالتحولات التي تجري في المجتمعات إلّا بالمقدار الذي يُسمح لها بذلك، والسبب في ذلك يعود إلى آليات اشتغال الفكر المُتعالي (الديني) والمتمركز حول المرأة.
العُديني وغيره من رجال الدين المُتشدّدين، نصبوا أنفسهم كمراقبين على حياة المرأة اليمنيَّة، كيف يجب أن تعيش، وأي المذاهب يجب أن تتبع، ماذا تلبس، من تخاطب، ومتى.
سلَّط العُديني، نفسه حاكمًا على عفة المرأة اليمنيَّة من خلال كتابته، ومنشوراته، التي أقل ما يُقال عنها إنّها تحريضيَّة.
بالمُقابل، يتجنب العُديني الحديث عمّا يمكن أن يتسبب له في مواجهة مع أطراف الصراع في تعز، وباستثناء حديثه عن المرأة، لا يشغله الهمّ المُجتمعي، لا يعنيه الفقر، الجوع، القتل، كل توجهه مُركَّز على المرأة، وفق قيمتها الحسيَّة.
المرأة النموذجيَّة وفق فكر العديني
تحتاج المرأة حتى تكون نموذجيَّة، وفق رؤية العُديني، إلى التزام هيئة خارجية مُحددة: نقاب كامل، لا تُظهر زينتها حتَّى على النساء، تأخذ دينها الصحيح وفق ما يدعو إليه، لا تملك هاتف لمس، لا تذهب إلى جامعة مختلطة، لا تركب تاكسي، بل لا توقفه من الأساس إلَّا في وجود محرم، لا تعمل في منظمات إغاثية، وهو الأمر الذي أكّد عليه بإعادة نشره لوثيقة الحوثيين، والتي طالب بضرورة تعميمها في مناطق اليمن.
العُديني الذي يرى أنّ المرأة ليس من حقها أن تمتلك هاتف لمس، يُبيح لنفسه استخدام هذا الهاتف، لِمَ لا؟! فهو لا يخاف على نفسه من الفتنة، ذكوريته تُعطيه حصانة، هو رجل يعني هو منزّه عن الخطأ.
في وسط هذه التناقضات، كيف يمكن تفسير التعارض بين تأييده لمنع إعطاء النساء هاتف لمس، وبين مشاركته لمنشورات مصدرها حسابات نسائيَّة على صفحته! هل يعني هذا أنّ المرأة التي يقصدها العُديني بالمنع، تنقصها صفات مُحددة؟ لأنه إذا فرضنا أنه يقصد مُطلق النساء، فلماذا، إذن، ينقل ويشارك منشورات لنساء؟ هل هو متأكد أنهن لا يستخدمن هاتف لمس، وينشرن عبر استخدام الحاسوب، أو جهاز اللوحي؛ وهو مما لم يُشَر له في وثيقة الحوثيين!
رُهاب العُديني من عمل المرأة في المنظمات
اتخذ العُديني موقفًا رافضًا من عمل المرأة اليمنيَّة في منظمات المجتمع المدني، ويتضح ذلك من خلال إعادة مشاركته لوثيقة الحوثيين التي نص أحد بنودها على منع توظف النساء في المنظمات الإغاثية، ومعاقبة من يثبت عليه من ولي أمر الفتاة، بالنفي من القبيلة، وبدفع غرامة قدرها 500 ألف ريال يمني، ويبرر العُديني موقفه هذا بدور المنظمات في نشر الفساد في بين أوساط المجتمع اليمني المُحافظ، بالمقابل لم يتحدث العديني عن الفساد المالي وقضايا الاختلاس التي شابت عددًا من المنظمات العاملة في اليمن، على الرغم من أهميَّة هذا الموضوع.
والأمر الذي ركَّز عليه في منشوراته حول منظمات المجتمع المدني هو: عمل النساء اليمنيَّات فيها، فهن -من وجهة نظره- لا بد أنهن فقدن بشكل أو آخر قيمة أخلاقية، وهو بهذا يشترك مع توجه الحوثيين، والسلفيين المتشددين في صراعهم المحموم مع النساء العاملات في منظمات المجتمع المدني.
والذي يؤكّد ذلك هو طرحه لسؤال يعرف أنه سيُثير حفيظة متابعيه، وسيجر سيلًا من الشتائم، والتجريح والقذف في حق المرأة، والذي يجب ألّا يتعمّد إثارته رجل دين في مجتمع مُحافظ، سؤال العُديني فضح زيف المعايير التي تتشكل وفق الكيفية التي يُريدها صاحبها، وهي بذلك نسبيَّة وليست ثابتة:
"سؤال أريد الجواب عليه ممن يستطيع: ما هو أعظم مؤهل هذه الأيام الذي يساعدك على أن تقبل في القنوات والمنظمات ومعظم المؤسسات".
المتتبع للتعليقات على منشور العُديني، تتضح له العقليات الاستشرافيَّة التي تُبيح لنفسها أن تُعمم قذف المرأة طالما كان مصدرها الرجل الغيور، علّق فارس دماج على منشور العُديني بأن "الأولوية للنساء المنفتحات اللاتي يؤيدن الحداثة والاختلاط"، ورد العديني على تعليقه: "رضي الله عنك شيخنا فارس وحفظك"، فيما علّق حبيب ناصر على منشور العُديني بأن المطلوب أن تكون الـ"فتاة جميلة حسناء، ما يهم الشهادة".
بينما علق علي الخضر، الذي أبدى معرفة واضحة بأدوات التجميل الخاصَّة بالمرأة، بأن المطلوب "أحمر شفاه لامع، خدود وردية، آيلاينر، وحساب على الفيسبوك ينادي بالتحرر والقوة"، فيما توالت التعليقات متفقة على صفات، مثل: قلة حياء، وساطة، انفتاح، جمال، الانحطاط، التبرج، السفور، وغير ذلك.
كل هذا السيل من الشتائم، كان مُحركه سؤال العُديني المُفخخ، الذي بدلًا من أن يترفّع متابعوه عن القذف، خاضوا فيه، وتناسوا قوله تعالى في سورة النور: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
إذا كان العُديني والموافقين له، موقنين من حصانة قواعدهم الفكريَّة التي يُصدروها حول المرأة، فلماذا إذن، يُحاربون المرأة التي لا تسير وفق نسقهم الثقافي؟
سفسطة الحوثيين والعديني فيما يخص المرأة
على مدار الأعوام الماضية، ضيَّق "الحوثيون" الخناق على المرأة في مناطق سيطرتهم، منعوا سفر المرأة بدون مَحرَم، حدّدوا معالم لبس الفتيات في حفلات التخرج، وهو الموضوع الذي أثار جدلًا واسعًا على وسائل التواصل الاجتماعي فيما عُرف بهشتاج #نادي الخريجين.
على سبيل الإنصاف، ليس العديني وحده من ينتصر لفكر الحوثيين فيما يتعلق بالمرأة، فهذا توجه عام، من قبل رجال الدين المُتشددين من مختلف الأحزاب الإسلامية في اليمن. ففي الوقت الذي غادرت به دولٌ عُرفت بتشددها الديني مُربع المُحرم، ومكَّنت المرأة من صك الحقوق الكاملة، تتجه اليمن لتبني التطرّف الديني في كل ما يخص المرأة وحق تحديد مسارها وإيقاع حياتها.
ومؤخرًا، قرروا فصل الطالبات عن الطلبة في جامعة صنعاء، وإذا ما قارنّا ما تقوم به جماعة "الحوثي" تجاه النساء، بما يدعو له العُديني، لوجدنا توافقًا واضحًا، فقد شارك العديني منشورًا نسبه إلى أحمد محروس، جاء فيه: "حفلات التخرج من الجامعات وما يجري فيها من مخالفات للشرع بحاجة لموقف جاد من العلماء والدعاة والخطباء، فهناك منكرات فيها عظيمة، حيث تكرس الاختلاط وتبادل الحديث بين الخريج والخريجة، وهذه أمور دخيلة على المجتمع ومنافية لقيم الإسلام وأخلاقه وشرائعه".
كما نشر في صفحته مقولة الألباني: "لا يجوز أبدًا لمسلم أن يخاطر بزوجته، أو بأخته أو بابنته، أن يدخلها الجامعة المختلطة لتتعلم...". وقال في فيديو تسجيلي تعليقًا على هذه المقولة: "الأمر يحتمل أمرين، إما هذه المرأة تسلَم، يا تسقط...".
وهو ما يعني أنّ المرأة إذا لم تُحاصر فهي معرضة لأن ترتكب فاحشة، هي إذن، غير قادرة على حماية شرفها، وقيمها، ودينها، وأخلاقها، امرأة تحتاج لرجل يكون كل دوره في الحياة قائمًا على حماية المرأة من نفسها، والعُديني في هذا يتفق مع ما أورده ابن قتيبة في كتابه عيون الأخبار، والذي ذكر فيه مقولة ابن المقفع: "إياك ومشاورة النساء، فإن رأيهن إلى أفنٍ، وعزمهن إلى وهنٍ.
واكففْ عليهنّ أبصارهن بحجابك إياهنّ، فإنّ شدة الحجاب خيرٌ لك من الارتياب، وليس خروجهن بأشد من دخول لا تثق به عليهنّ، فإن استطعت ألّا تعرف غيرك، فافعل. ولا تملّكن امرأة من الأمر ما جاوز نفسها، فإن ذلك أفهم لحالها وأرخى لبالها، وأدوم لجمالها، وإنما المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فلَا تعدُّ بكرامتها نفسها، ولا تُعطِها أن تشفع عندك لغيرها...".
وهي الصورة النمطيّة الثابتة عن المرأة والتي دأب على نقلها الموروث الثقافي العربي باطراد، وصارع على إبقائها بواسطة الدين، والأعراف، والعادات... إلخ، فالمرأة وفق مفهومهم "رجلٌ ناقصٌ"، إذ "النساء رجال ينقصهن العقل"، كما ذكرت رجاء بن سلامة في كتابها (بنيان الفحولة)، ولكونها رجلًا ناقص العقل فعلى العقل –أي الرجل- أن يحميها حتى من نفسها. وهذه النظرة السائدة عن المرأة تكشف عن النسق الخفي والمرتبط بـنسق الفحولة الذي ربطه إدريس إبراهيم بالعِرض والشرف باعتبار أن "نسق الفحولة يجعل من الرجل مصدر فخر، وشرفًا لأهله وقبيلته، في مقابل الأنوثة التي تعد نسقًا ضادًّا للفحولة، وقد تجلب العار، والفضيحة للأهل، والقبيلة".
وعلى سبيل الإنصاف، فليس العديني وحده من ينتصر لفكر الحوثيين فيما يتعلق بالمرأة، فهذا توجه عام، من قبل رجال الدين المُتشددين من مختلف الأحزاب الإسلامية في اليمن. ففي الوقت الذي غادرت به دولٌ عُرفت بتشددها الديني مُربع المُحرَّم، ومكَّنت المرأة من صك الحقوق الكاملة، تتجه اليمن لتبني التطرّف الديني في كل ما يخص المرأة وحق تحديد مسارها وإيقاع حياتها.
وهو ما يجب تداركه، من خلال غربلة نظام الفكر الأُحادي الذي يُصرّ على بقاء الصورة النمطية عن المرأة، والمنقولة بتواتر من الموروثات الثقافية -ولا نعني بالثقافيَّة هنا الدينيَّة فقط، لكن أيضًا الأدبية، بالإضافة إلى جملة الأعراف، والعادات والتقاليد ...إلخ- وهو نظام يدل -كما ترى هويدا صالح في كتابها (الهامش الاجتماعي)- على "النمط المثالي الذي يرسمه نوع التفكير السائد في المجتمع. وتهيمن على هذا "النمط المثالي" صورة سلبية عن النساء مستمدة من ثقافة تقليدية تعمل على تكريس الوضعية الدونية للمرأة في التراتبية الاجتماعية[...] وحتى حينما تُذكر المرأة بشكل إيجابي، فإننا قلما نجد لها أية ميزات إيجابية أخرى، سوى تلك المرتبطة بجسدها و"أدوارها الطبيعية"، فمكانتها مستمدة من جسدها وجمالها وقدرتها على الإنجاب، وعلى رعاية أسرتها وأطفالها، ومهاراتها في العمل المنزلي واليدوي".
ويسعى هذا النظام إلى تفتيت مقصود لمكانة المرأة بمكنونها المعنوي والحسي، وهو ما تحدث عنه عبدالله الغذامي في كتابه (المرأة واللغة)، والذي بيّن فيه أنّ الثقافة الذكوريَّة فكّكت وعزلت العقل عن الجسد، وجعلت (العقل للرجل وحده والجسد الخالص للأنثى...).
إنّ مُعالجة ندوب هذا الفكر تحتاج إلى قراءة عميقة في الفعل، والفكر الثقافي العربي في بُعده النسقي المُضمر، نحن نحتاج اليوم لخطاب ديني يُوازي بين الحُجج العقليَّة والنقليَّة، خطاب يوائم بين الأطراف المتباينة خطاب لا يتبنَّى فكر جماعة لترهيب أُخرى.
قال تعالى في سورة آل عمران: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾.