للوهلة الأولى قد تبدو وجيهة تلك التناولات المتفهمة لما يمكن اعتباره إخفاقًا لجهود الولايات المتحدة الأمريكية في التوسط لإنجاز اتفاقٍ لإيقاف الحرب في اليمن، بذريعة افتقار واشنطن إلى النفوذ الفعال لدى جماعة الحوثيين المتحالفة مع إيران، أحد أطراف الحرب اليمنية الرئيسية، الرافضة طيلةَ الأشهر الماضية للتعاطي الإيجابي مع التحركات الدبلوماسية المكثفة المتزامنة مع التوجهات المعلنة لإدارة بايدن بشأن الحرب في اليمن التي تبدو مغايرة لتوجهات إدارتي أوباما وترامب، وقد عينت لأجل تلك المهمة مبعوثًا خاصًّا لها إلى اليمن للإسهام في إيقاف الحرب.
وعلى كارثية التعنت الحوثي في التعامل السلبي مع رسول السلام القادم من البيت الأبيض، فهو أمر لا يصح أن يكون صادمًا لصناع القرار في واشنطن، ولا لصناع الرأي والمشورة من الكتاب والباحثين والخبراء، كونه متوقعًا في سياق تراكم من تعقيدات حرب تتفاقم منذ سبع سنوات، كان للولايات المتحدة دورٌ فاعلٌ فيها بمستويات متعددة، مضافًا إليها الكثير من التعقيدات اللاحقة بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران وما تلاها من تطورات، وهو وضع يحتاج للكثير من الجهود الدؤوبة والواعية والصبورة لإزالة آثارها، وعدم التوقف عند مقولات سطحية في تعريف الوضع وتبرير الوقوف بعجز أمام تعقيداته، وفي مقدمة تلك المقولات التصور القاصر للحرب باعتبارها قائمة بين طرفين (الحوثيين والسعودية)، ستتوقف بمجرد اتفاقهما.
وقبل ذلك وبعده، فالاكتفاء بطرح هذين العنصرين وما يتصل بهما فقط من ملف الحرب في اليمن بكل إشكالاته وعقده، لتقييم جهود السلام، الأمريكية والأممية على حدٍّ سواء، وتقديم النصائح والخلاصات بشأنها، هو -حتمًا- عملٌ ناقص يقود بالضرورة إلى استنتاجات غير ناضجة وغير موضوعية، تأسست -عن عمد أو عن جهل، لا فرق- على بُعد واحد من أبعاد الحرب اليمنية، وهو ما لا ينقص هذه الحرب وملفاتها، كما لا ينقص صُناع القرار للاستنارة لتصور التدخلات اللازمة للإسهام في إيقافها، فالحاجة مُلحة لِتناولاتٍ تقدم بدقة وموضوعية جميع الحقائق لكافة أبعاد الحرب والمأساة المتعددة.
في سياق أوسع من تلك المساحة المهمة المتاحة للعمل والتأثير الإيجابي، فلا يمكن الاكتفاء بالدور الأمريكي في دفع السعودية لإعلان مبادراتها المبجلة للسلام في اليمن، فمجال اختبار التوجه السعودي نحو السلام في اليمن، ومثله التوجه الأمريكي المعلن، ليسَ ما تصدره من تصريحات، بل السلوك النافذ للسعودية وحليفتها الإمارات فيما يجب من عمليات وأدوار إيجابية فورية ومستقبلية لازمة.
بالطبع فالحوثيون، الذين يسيطرون على العاصمة اليمنية صنعاء وأغلب مناطق شمال اليمن منذ العام 2014، طرفٌ رئيسي في استمرار الحرب ومآسيها، وفاعل رئيسي في إعاقة جهود التوصل لتسوية سياسية تضع حدًّا للحرب في اليمن، ومن المهم أن يُحمَّلوا مسؤولية سلوكهم الحربي وانتهاكاتهم المروعة، وبالمثل السعودية، لكن الأكيد المُغيب عن صورة الكثير من التحليلات وعن صناع القرار الأمريكي -ربما- تلك العناصر الأخرى الفاعلة في استمرار الحرب في اليمن ومآسيها، وهي عناصر، في كثير من جوانبها، ليست خارج النفوذ الفعال للإدارة الأمريكية وحلفائها، حيث تستطيع في تلك المساحة تحقيق الكثير من المكاسب لصالح جهود السلام، وقبل ذلك وبعده التخفيف من مآسي الحرب.
كمثال لتلك الأبعاد غير المرئية في ملف الحرب في اليمن، يمكن استدعاء الوضع في عدن، المقرَّة عاصمةً مؤقتة للحكومة المعترف بها دوليًّا المدعومة من التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات (حليفا الولايات المتحدة المدللين، وكذا وضع كافة المناطق المُنتزعة من سيطرة الحوثيين، والتي تعيش صيغًا مشوهة ضامنة للاقتتال المتكرر، وانتهاكات حقوق الإنسان، وغياب سلطة القانون، والإخفاق الإداري والاقتصادي والفساد الذي يوفر بيئة آمنة لنشأة ونمو الجماعات المتطرفة، في وضع يناقض كليًّا ما كان مُتصوَّرًا كفرصة لبناء نموذج لدولة القانون والتنمية كنقيض موضوعي لتجربة الحوثيين الثيوقراطية، وهو الحال ذاته للحكومة المعترف بها دوليًّا بقياداتها ومؤسساتها السيادية المقيمة -طوعًا أو قسرًا لا فرق- بشكل شبه دائم خارج الأراضي اليمنية، وهو وضع عام يمنح بسخاء امتيازات اليد الطولى على واقع اليمن ومستقبله سياسيًّا وعسكريًّا وبنيويًّا لجماعة الحوثيين الموالية للمحور الإيراني.
إن هذا النموذج، على سبيل المثال، مكون أساسي من مكونات ملف الحرب والمأساة في اليمن، يؤثر ابتداءً على حياة ملايين اليمنيين وعلى الحالة الإنسانية والحقوقية في عموم اليمن وعلى المراكز التفاوضية للأطراف وتصوراتها للسلام، وهو وضع في إطار مساحة تأثير النفوذ الأمريكي، يمكن لجهود أمريكية جادة وواعية أن تحقق فيه نقلات نوعية لتصحيح الوضع لصالح فكرة دولة القانون والعدالة والسلام.
ومع وجاهة كافة الانتقادات التي ستوجه للحكومة المعترف بها دوليًّا إلا أن أي بحث موضوعي سيخلص إلى أدوار إماراتية سعودية أدّت إلى إفشال وتعطيل الحكومة المعترف بها دوليًّا بجملة من الفخاخ المصطنعة في عاصمتها المؤقتة المفترضة (عدن) ومناطق سيطرتها الاسمية الأخرى، وفي مقدمة تلك التعقيدات إنشاء ورعاية تشكيلات مسلحة خارج إطار القانون وتمكينها من السيطرة الفعلية المعطلة لأي محاولات حكومية، وترهن قطاعًا واسعًا من اليمنيين لأشكال متعددة من المعاناة في مختلف المجالات.
وفي سياق أوسع من تلك المساحة المهمة المتاحة للعمل والتأثير الإيجابي، فلا يمكن الاكتفاء بالدور الأمريكي في دفع السعودية لإعلان مبادراتها المبجلة للسلام في اليمن، فمجال اختبار التوجه السعودي نحو السلام في اليمن ومثله التوجه الأمريكي المعلن، ليس ما تصدره من تصريحات، بل السلوك النافذ للسعودية وحليفتها الإمارات فيما يجب من عمليات وأدوار إيجابية فورية ومستقبلية لازمة، وما يجب وقفه من عمليات وأدوار سلبية نافذة؛ ومن ذلك المبادرة بالمزيد من الخطوات التي ستخلق أثرًا إيجابيًّا لصالح الناس، مثل فتح مطار صنعاء أمام الرحلات المدنية، ودفع مرتبات الموظفين الحكوميين المدنيين، وتغطية خطة الاستجابة الإنسانية كاملة، والإفراج عن المحتجزين المدنيين. ومما يجب العمل على تعطيله من أدوار سلبية، الوقفُ الفعلي للدعم الإماراتي للتشكيلات المسلحة وكافة أشكال الدعم الأخرى، وإعادة إدماج كافة العناصر والتشكيلات في إطار وزارة الداخلية والدفاع في إطار القانون اليمني النافذ، وتسليم كافة المرافق الحيوية في عدن، مثل المطار والموانئ والمؤسسات، للجهات القانونية، وإخراج المعسكرات والقوات من مدينة عدن وغيرها من المدن، بما في ذلك بلحاف، وإعادة نشرها في مناطق عسكرية، والإفراج عن جميع المحتجزين والمختفين قسريًّا وإغلاق أماكن الاحتجاز غير القانونية، وتعزيز البنك المركزي ودعم الخدمات الأساسية، وعلى رأسها الكهرباء، وتفعيل مؤسسات إنفاذ القانون من نيابة وقضاء، المساعدة في استئناف تصدير النفط والغاز مع تفعيل آليات الرقابة ومكافحة الفساد، تشغيل مطار عدن وإتاحته لشركات الطيران التجارية.
وما لم تحرك الولايات المتحدة الأمريكية، بنفوذها وتأثيرها، جهودًا خلاقة لمعالجة ذلك المجال وتلك العناصر المهمة في الملف اليمني التي تقع في إطار نفوذها وتأثيرها، فإن جدية توجهاتها الجديدة ستكون محل شك، وسيكون كل تحرك أو إجراء -مثل تخصيص مبعوث خاص إلى اليمن وكل جولاته المكوكية بين عواصم المنطقة- مجرد نشاط دِعائي، أضافت فيه إدارة بايدن بسخاء، معلِّق جديد ينضم لنادٍ من آلاف المعلقين والوُعاظ المفوّهين المتفرغين للشأن اليمني.
وبدون ذلك الجهد والعمل الذكي على جميع خطوط وعناصر الحرب في اليمن، يلمس أثره عموم المدنيين اليمنيين في مختلف المناطق، فلن تكون مهمة المبعوث الأمريكي الفعلية سوى تحركات شكلية تهدف لجمع النقاط لبناء مرافعة تنجح في إعفاء إدارة بايدن من وعودها الانتخابية واستئناف العلاقات الدافئة مع السعودية واستمرار مبيعات الأسلحة لها بضمير مرتاح ورأي عام مُصمت بشكل مُحكم.