(3)
في الجزء الثالث والأخير من صورة عدن في المذكرات الشخصية، سنقارب أربعة نصوص سيروية لكاتبَين، ولرجلَي أعمال. الأسماء الأربعة كلها معروفة، وإن بدرجات متفاوتة. نصان من الأربعة لا يزالان مخطوطين، ويحتفظ الكاتب بمسودتيهما، وهما بالمناسبة لرجلَي الأعمال المعروفَين علوان سعيد الشيباني وحسين محمد السفاري، ولعبت عدن دورًا ملهمًا في حياتهما الباكرة. الأول بعمله في مطعم في منطقة الشيخ عثمان، والثاني بعمله في محل والده في ممر العطارين بكريتر؛ أما النصان الآخران فهما مذكرات القاصّ والروائي الراحل عبدالله سالم باوزير والمعنونة "أنا والحياة"، ومذكرات الكاتب والباحث سلطان أحمد زيد "محطات من تاريخ حركة اليسار في اليمن".
في النصوص الأربعة تحضر عدن بوصفها حاضنًا مهنيًّا لهم، ففيها تقوت أعوادهم وتصلبت، بفعل مزاولتهم مهن توجب حمل مشاقها وجودهم في المدينة، والتي منحتهم أيضًا الكثير من المعارف، إما بالاكتساب المنظم، أو بوصفها دفتر حياة يمكن التعلم منه بدون وسائط.
يقول رجل الأعمال المعروف علوان سعيد الشيباني في مذكراته "الحياة كما عشتها" - مخطوط يحتفظ به الكاتب:
"بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أثقالها بقليل، وهروبًا من المجاعة التي عصفت بمنطقتنا بسبب شحة الأمطار، أخذني أبي معه إلى عدن في عام 1945. أتذكر من تلك الرحلة التي امتدت لأربعة أيام مع مجموعة من المسافرين، وكان أبي يحملني على كتفيه، حين يُعييني المشي وينهكني التعب والحر.
وفي عدن، وتحديدًا في منطقة الشيخ عثمان، كانت إقامتي الأولى في المدينة التي كان السفر إليها فتحًا مبينًا وعملًا استثنائيًّا في نظر الكثيرين، وبدأت بالظهور أولى تشكلات وعيي بالمدينة، بوصفها حياة أخرى في متاهات الزمن المختلف الذي عشته في القرية. في مطعم أخوالي محمد ثابت نعمان وعبده ثابت نعمان، والذي كان اسمه "مطعم فتح الرحمن"، ويعلوه تمثالان لأسدين أفريقيين على شرفة المبنى الذي يقع فيه. عملت لقرابة عامين منظفًا للصحون وأواني الطبخ أو حسب التسمية الدارجة "عامل قوعة".
علوان الشيباني: أسوة بالمدن الأخرى في عدن، فقد كان أغلب سكان الشيخ عثمان يتحدرون من المناطق الشمالية لليمن أو يتشكلون من مجموعات صغيرة من اليهود اليمنيين ومن جاليات هندية وصومالية وأقليات عرقية أخرى
"لم تتح لنا فرص الدراسة أو اللعب مع الأطفال أو الابتعاد عن موقع المطعم؛ لأن أخوالي وغيرهم من معاريفنا أوهمونا بخطورة "الجَبرتي" الذي يختطف الأطفال ثم يمتص دماءهم ويجمعها في إناء معدني ثم يستغلها في صك نقود معدنية. انطلت علينا هذه "الخزعبلة" وجعلتنا نعيش رعبًا دون الابتعاد عن المطعم لأكثر من نحو كيلو متر واحد في كل اتجاه. وهكذا، فإن ذكرياتي عن مدينة الشيخ عثمان لا تتعدى المنطقة الضيقة التي تحيط بمطعم فتح الرحمن، رغم مكوثي فيها لنحو عامين. أما مُدن عدن الأخرى، كالمُعلا والتواهي وكريتر، فقد كنا نسمع عنها ولكننا لم نصلها، رغم أنها لا تبتعد عن مدينة الشيخ عثمان إلا بعدة كيلومترات.
حظيت مدينة الشيخ عثمان بشارع أسفلتي واحد يصلها بمدينة عدن (كريتر)، وأُقيم فيها سوق مركزي للحوم والأسماك والخضروات والتمور والفواكه. كان يوجد بالقرب منها حدائق غناء، مثل بستان كمسري وبستان عبدالقوي وبساتين أخرى أقل شهرة منها، لكنها افتقرت إلى أبسط الوسائل الترفيهية.
وأسوة بالمدن الأخرى في عدن، فقد كان أغلب سكان الشيخ عثمان يتحدرون من المناطق الشمالية لليمن أو يتشكلون من مجموعات صغيرة من اليهود اليمنيين ومن جاليات هندية وصومالية وأقليات عرقية أخرى".
في نص سيروي آخر لا يزال مخطوطًا، يعمل الكاتب على تحريره، تظهر عدن في ذات المرحلة تقريبًا، ولكن في منطقة أخرى، فبدلًا من الشيخ عثمان ستصير كريتر قلب المدينة التاريخي. صاحب السيرة يجيء إلى عدن مع أبيه أيضًا الذي يمتلك دكانًا، بعكس صاحب "الحياة كما عرفتها"، وعلى عكسه أيضًا، سيحظى بتعليم وإقامة دائمة في المدينة، ولسنوات طويلة.
يقول حسين محمد السفاري:
"أخذني والدي معه إلى عدن منتصف الأربعينيات، وما ابتدأته من تعليم بسيط عن الفقيه الضرير في قرية الظاهرة واصلتُه عند الفقيه الودود والمتسامح والبسيط عبدالباري الفتيح والد الشاعر الكبير محمد الفتيح، في جامع "أَبَان" التاريخي في منطقة كريتر.
كنت، قبل الذهاب إلى "المعلامة"، أنهض باكرًا وأغسل وجهي من زير ماء (وعاء أسطواني من الفخار)، وأحمل زنبيلًا مصنوعًا من جريد النخيل بداخله وعاء معدني مغطى، وأذهب إلى شارع الزعفران لشراء الروتي الساخن [أقراص الخبز المستطيلة] من فرن الأغبري المشهور بنصف عانة (عملة نقدية معدنية كانت متداولة في عدن)، ثم أمرُّ على مطعم لبيع الفول وأشتري بعانة كاملة فولًا مطبوخًا، ومن مفرش في السوق أشتري بربع عانة بيضة واحدة، أضعها بجيبي وأعود للمحل.
كنا نشتري ماء الاغتسال والنظافة من ورّاد يأتي به على جاري جمل ببرميل خشبي من آبار الشيخ عثمان، ونشتري الماء المقطَّر الحالي (كوز بُمْبَهْ) من ورّاد آخر يأتي به من معمل تقطير في صيرة.
قبل وصول والدتي إلى عدن من قرية "الظاهرة"، كنا نقوم باستئجار أربع قعائد "شَبط" (أسرَّة شعبية تصنع من جبال مفتولة من جريد النخل أو حبال النيلون القوية) ونبقى لوقت في تنظيفها من الكُتن (البق) بالماء الساخن قبل أن ننام عليها أمام المحل في ممر العطارين.
في أواخر الأربعينيات كانت شوارع المدينة ترابية في معظمها، رغم التخطيط الأنيق لحواريها وروعة مساكنها، ولم نكن نشاهد إلا قلة من السيارات والمركبات التي تدخل عبر البغدة في جبل حديد، وكانت وسائل التنقل في المدينة هي جواري الجمال، والتي كان مبركها الأشهر في منطقة العيدروس".
بعد قرابة عقد من تصوير حال المدينة في استرجاعات الشيباني والسُّفّاري، سيأتي الدور على كاتبين سيفدان إلى المدينة قبل منتصف الخمسينيات بقليل، بعد أن أحدثت السنون في معمارها وأسواقها وثقافتها الشيء الكثير؛ ففي كتابه "محطات من تاريخ حركة اليسار في اليمن – 2020" يقول سلطان أحمد زيد:
"في سن الثامنة من عمري (في العام 1952) جاء خالي إلى القرية في زيارة، وعند عودته أخذني معه خلسةً دون علم والدي، فقط والدتي من كانت تعلم بهذا، وذلك عن طريق المُصلى "الأحكوم". أيامها كانت السيول والأمطار غزيرة فكان يحملني على كتفيه عندما أشعر بالتعب. وعندما وصلنا إلى عدن عشت معه في منزله في الحسوة. في تلك الفترة لم يكن يتمتع أبناء المناطق الشمالية، وما يعرف بالمملكة "المتوكلية" و"المحميات الجنوبية" بحق الالتحاق بالمدارس الحكومية التابعة للمستعمرة البريطانية في عدن، وكنت أستغرب وأستهجن هذا الوضع القائم على التمييز المناطقي، فالتحقت بمدرسة النهضة الأهلية في الشيخ عثمان. حينها استسلم والدي للأمر الواقع، وأكد على أهمية دراستي، وذلك بإرساله لي بالمصاريف والرسائل التشجيعية، ثم انتقلت إلى الدراسة في المعهد العلمي الإسلامي في "كريتر" في أول افتتاح له عام 1954، بعد أن تم إجراء اختبار "تحديد مستوى"، وجاء تقديري في المرحلة الابتدائية العامة في الصف الرابع، وقد سبقني للصف صديقي محمد المسّاح، الذي كان والده يعمل في عدن، ولأن الالتحاق بالمعهد لا يعتمد على السن فقد كان لدينا زملاء كبار وصغار في سن متقارب، منهم أيوب طارش، وعبده سعيد الطشّان، وإسماعيل حمران "ضابط في الجيش لاحقًا" وغيرهم.
معظم الذين جاؤوا إلى عدن، في النصوص المدروسة، كانوا من الشمال الجغرافي، ووسط اليمن، باستثناء حسن محمد مكي الذي جاءها من غرب اليمن ضمن بعثة الأربعين، أما من جاءها من الشرق فهو عبدالله سالم باوزير القاصّ والروائي المعروف
"أول سكن لي أثناء الدراسة في المعهد بحي القُطيع "زريبة أبقار"، يملكها الحاج فارع العزعزي صاحب مقهى "التيسير" والد محمد فارع "الطبيب لاحقًا". وكان مديرها الرجل الطيب أحمد حيدر، كنا ننام أنا والمسّاح فوق "العجور"، ونستمع إلى "موسيقى الفئران" التي تصدح من حولنا، وعندما نريد أن نذاكر دروسنا نذهب عند أحمد حيدر، لأن لديه "سراجًا" صغيرًا، فكنا نقرأ الكتب بدلًا من استماعنا لأصوات الفئران! وخوار البقر وروائح "الضفع". انتقلنا مع الحاج فارع إلى منزله الجديد في حافة اليهود في كريتر، فكنا ننام هناك في السطح ونصحو مع الفجر.
في أحد الأيام ذهبنا للسينما، وعلم الحاج فارع بذلك وأبرحنا ضربًا، فكان هذا سبب خروجنا من بيته، حيث انتقلت، دون صديقي "المساح"، إلى مسجد حامد في حافة الزعفران، والسبب الذي جعلني أذهب إليه هو أن إمامه أحمد زين كتب له والدي رسالة مع ابن عمه عبدالقادر الزين، يطلب منه إبقائي في المسجد، لكي أصبح فقيهًا من باب الحرص على التدين.
بطبيعة الحال كان المسجد أحسن من بيت الحاج فارع، تتوفر فيه بعض الحرية، ننام ونصحو باكرًا، ونرتب فرشنا ونرتدي الزي المدرسي، الذي كان عبارة عن بنطلون كاكي قصير ومن فوقه بنطلون، وكنا الوحيدين أبناء المناطق الشمالية خاصةً "الحجرية"، من سُمح لهم بارتداء البنطلون الطويل، والمسألة مرتبطة هنا بالحذر الزائد من التعرض للتحرش الجنسي.
أثناء دراستي في المعهد كنت أمارس نشاطًا ثقافيًّا ورياضيًّا، وكان هناك فريق لكرة القدم كنتُ حارس مرماه، وأيضًا عضوًا في اللجنة الأدبية، وممن أتذكرهم من الزملاء الأخوين فضل ومحسن النقيب المتصدرين لذلك النشاط، بالإضافة إلى كوكبة من المعلمين: محسن العيني المتخرج من "جامعة السوربون فرنسا"، وأحمد حسين المروني، وعلي السلامي، وسالم زين محمد، وقاسم غالب، وأبو جلال العيني، وأغلبهم من حركة القوميين العرب". [ص36 وما بعدها]
معظم الذين جاؤوا إلى عدن، في النصوص المدروسة، كانوا من الشمال الجغرافي، ووسط اليمن باستثناء حسن محمد مكي الذي جاءها من غرب اليمن ضمن بعثة الأربعين، أما من جاءها من الشرق فهو عبدالله سالم باوزير القاصّ والروائي المعروف، والذي كتب في نصه السيروي البديع "أنا والحياة –2007" ما يلي:
"وصلنا مطار عدن– يوليو 1954، وقد اشتعلت الأرض حولنا بالحرارة؛ فنحن في أوج الصيف، وكان أول ما لفت نظري ونحن نركب سيارة الأجرة إلى جانب هذه الحفاوة الحارة حزمة الأوراق الخضراء التي تقبع في حضن السائق، والتي أخذ يحشو فمه بها. كنت أنظر إلى وجنة السائق التي انتفخت بتلك الأوراق الخضراء التي جعل يرطب فمه بسائلها الذي ظننته نوعًا من الشراب.
وقفت على إحدى الشرفات، مطلًّا على الشارع الممتد أمامي وأنا في أشد العجب لذلك الرتل الطويل من السيارات الذي أراه ممتدًا أمامي عن يميني وشمالي، سيارات جميلة لفتت نظري بألوانها وأشكالها البديعة، وكنت لأول مرة أرى منظرًا كهذا يحوي مثل هذا العدد الهائل، بعد أن تعودنا في حضرموت ألا نرى إلَّا سيارات الحمول مغبرة الألوان وشديدة القبح.
حل موعد الغروب ولبسَ الشارع الذي أمامي عباءته من الألوان الكهربائية التي أخذت ترسلها واجهات المحلات التجارية وأعمدة إضاءة الشارع، هذه الألوان الشديدة التي لم أتعودها في مدينتي غيل باوزير. خرجت من برجي العاجي لألتقي بعالم عدن في الليل. أخذت أمشي وأنا كالمسحور مما أشاهده من مظاهر البهجة من البضائع المتنوعة التي تمتلئ بها متاجر السوق الطويل من العطور والملابس ذات الألوان المتعددة وآلات التصوير والتسجيل وأشكال الراديوهات المتنوعة، وهكذا جعلت أمشي في بحر هائل من البضائع المعروضة وجو ساحر من روائح العطور وأنواع البخور واللبان الذي يتصاعد من بعض المتاجر". [ص103-104]
جميع النصوص التي تمت معاينتها في مجمل السياق، تصير المقتبسات منها قراءة تامة للحال، تقلل من اندفاعها العفوي وحميميتها، أي محاولات تفسيرية، إلَّا بما تتوجبه عملية الربط، لهذا تركت النصوص تشير إلى علاقة أصحابها بالمدينة، وهي تضع مياسم الدهشة الحامية في وعيهم، وتستعاد تاليًا كشجن لا ينطفئ.
انتهى