"مقهى الدملؤة" ووجبات الود

مكان يقاوم تبدلات الوقت وأعاصيره
جلال أحمد الشيباني
December 14, 2024

"مقهى الدملؤة" ووجبات الود

مكان يقاوم تبدلات الوقت وأعاصيره
جلال أحمد الشيباني
December 14, 2024
.

ترجع تسمية جولة كنتاكي بصنعاء إلى الفترة التي افتتحت فيها شركة كويتية تعمل وكيلًا لشركة كنتاكي في الشرق الأوسط، مطعمًا أواسط السبعينيات في عمارة حديثة في تقاطع الزبيري بالدائري الغربي بمدينة صنعاء التي بدأ الاستقرار يدب إلى جسدها، غير أن الوعي بالتسمية إجمالًا يُرجعها إلى عهد دخول وسيطرة الرأسمالية على حياة الناس في بلدان العالم الثالث، ومنها دخل الناس مطاعم كنتاكي ليخرجوا من التاريخ إلى عالم الفقر والصراعات. 

 سمّاها ثوار فبراير -بعد أن تجاوزوا نقاط التماس مع قوات الحرس الجمهوري في 18 ديسمبر 2011- جولة النصر، الذي لم يأتِ ويبدو أنه ما زال بعيدًا وبعيدًا جدًّا جدًّا. 

وسمّاها أخيرًا حكام المرحلة الجديدة بجولة غزة، في جزء من تعظيم حضورهم داخل المعركة الإقليمية. 

ومثلما نسي الجميع اسم النصر العابر في الثانية، فلا أحد يذكر أو يعرف هذا الاسم في الحالة الثالثة غير وجود لوحة بائسة في شارع صاخب ومزدحم وكثير من (المتهبِّشين) البائسين الذين يحومون حول فريسة ما. 

لكن التسمية التي أنتجها الوعي الشعبي، الذي يربط المسمى بعنوان مكاني بارز (شارع هائل، شارع مازدا، شارع مجاهد، جولة الحباري)، هي التي صمدت في الجولة منذ خمسين عامًا.

نعم، اختلفت التسميات لهذه الجولة في فترة العقدين الماضيين من حياة هذا الشعب المتعب، التي تختصر لنا مرحلة صعبة من مراحل الصراع والانقسام الحاصل في عموم البلاد من أقصاها إلى أقصاها.

من هنا مر الجميع، لكن مقهى الرفيق عبدالكريم قاسم الخطيب الذي سمّاه مقهى (حصن الدملؤة) نسبة إلى قلعة الدملؤة التي تقع في أعالي قمم جبال الصلو الشاهقة، وتكثيفًا لهذه الرمزية صارت لوحة زيتية للحصن تزين واجهة المقهى، بريشة رسام شاب اسمه محمد عبدالوهاب.

يقدّم المقهى ومنذ قرابة خمسين عامًا، وجبات شعبية، مثل: الخمير، وخبز الطاوة، والشاي العدني الملبن، وعصير الليمون المركز، وأكثر من ذلك وجبات من الود والحب والترحيب، وستجد هناك الكثير من رجالات الفكر والأدب والثقافة والسياسة والإعلام ومن كل عموم اليمن، إذا ما فكرت المرور من ذلك المكان بين التاسعة والحادية عشرة صباحًا.

هنا عليك أن تقف أمام أشياء كثيرة، فيها من الفرح والأمل والحب الكثيرُ، وفيها من الحزن والقهر والألم الكثيرُ أيضًا، وعليك أن تتعامل معها وفقًا لقوانين الحياة التي ترمي بنا في عالمٍ من المفارقات والمتناقضات.

في المقهى حياة صاخبة تبدأ من الخامسة صباحًا، وهي في مجملها تعبيرٌ عن كل ما يجري من صراعات وتحولات قاسية لحياة الناس الذين فقدوا طعم الحياة وعنوانها بفقدان أعمالهم ومرتباتهم ومصادر دخلهم. 

يبقى الرفيق عبدالكريم قاسم الخطيب، صاحب المقهى، عنوانَه الجميل ولحنه المميز وابتسامته الدائمة في وجوه مرتادي المقهى وزائريه، يقف من صباح النجمة بين عمّاله ويمنحهم الطمأنينة لتأدية العمل، وعنده لا يُظلم أحدٌ من عمّاله، شديد الاهتمام بنظافة المقهى حد القلق والحرص.

قال يومًا مازحًا تعليقًا على كثرة زيارة المثقفين ورواد الفكر والأدب إلى مقهاه: "سنؤسس من هنا حزبًا وطنيًّا على غرار تأسيس حزب البعث في قهوة الرشيد بدمشق عام 1947".

قبل فترة، قال لي أمامَ جمع كبير من رجال الأدب والثقافة والسياسة الذين يتوافدون بشكل دائم على المقهى وصباحاته:

"أريد أن أعمل مقهى أو متنفسًا لكل رجالات الفكر والأدب والسياسة والإعلام في مكان جميل وهادئ ويتناسب مع الحلم، لكن الظروف والوضع لا يشجع على مثل هذه المشاريع في الوقت الحالي".

في المقهى يقابلك يوميًّا من الصباح الباكر المناضل والقائد الناصري والأستاذ الجامعي أحمد عبده سيف، الذي قرر العمل هنا في المقهى مع صديقه عبدالكريم بعد انقطاع المرتبات، مفضلًا هذا العمل الشريف على حالة التسول الرائجة لقيادات العمل السياسي في الخارج، الذين استغلوا مواقعهم لترتيب أوضاعهم وأوضاع أولادهم وبناتهم وحتى زوجاتهم، وترك الشعب اليمني وحيدًا في مواجهة الفقر والعذاب وقلة الحيلة وتوحش السلطة وعدم مبالاتها بمعاناة الناس.

يتعامل مع عمله في المقهى بكل جدية وصرامة كما تعامل مع فكره السياسي ومنهج حياته القومي، وكذا عمله أستاذًا في معهد تأهيل المعلمين في جامعة صنعاء وخبير تربية مرموق.

عينه على الحساب فوق طاولات المقهى، وأذنه مع النقاشات التي تدور بين روّاد المقهى ليتدخل برأيه كلما استدعى الأمر، ناسيًا عمله هنا، كحالة لا شعورية تستدعي تدخله بناءً على معطياته القديمة. ودائمًا ما يطلق عبارة "يا وليد، أنت ابن مكلف" كلما أراد توضيح أمرٍ ما ووجد صعوبة في الإقناع.

يعتبر الرجل النموذج الأكثر وضوحًا في التجربة الناصرية نضالًا وفكرًا وسلوكًا وممارسة وتضحية وكل شيء متعلق بالكفاح والحرية ونكران الذات، ويمنح الجميع أمل أن اليمن ما زالت بخير طالما بها مثل هؤلاء الرجال.

يقدّم المقهى ومنذ قرابة خمسين عامًا وجبات شعبية (الخمير، وخبز الطاوة، والشاي العدني الملبن، وعصير الليمون المركز)، وأكثر من ذلك وجبات كثيرة من الود والحب والترحيب، وستجد هناك الكثير من رجالات الفكر والأدب والثقافة والسياسة والإعلام ومن كل عموم اليمن، إذا ما فكرت في المرور من ذلك المكان بين التاسعة والحادية عشرة صباحًا.

قلت أنا: "المفروض أن يسموها جولة (الدملؤة) أو المكان الذي يقاوم تبدلات الوقت وأعاصيره".

•••
جلال أحمد الشيباني

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English