المفردات بحد ذاتها منفصلةً عمَّا جاورها من الألفاظ لا تعني شيئًا، وقد قال القدماء: إنها ملقاة في الطريق كالحجارة، لا تدل على شيء، يُستثنى من ذلك أسماء الأعلام، ومنها: المدن والبلدان، فالمفردة لا تكتسب أهميتها إلا بما جاورها من الألفاظ، بل ثمَّة كلمات متجاورة لا غنى لإحداهن عن الأخرى، كالألفاظ المتجاورة في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: "قلنا يا نارُ كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم"، فكلمتا "بردًا وسلامًا" لا غنى لإحداهن عن الأخرى، فلو قال "بردًا" فقط لتجمد سيدنا إبراهيم ومات من شدَّة البرودة، لكن كلمة "سلامًا" هي التي جعلت النار والبرد لا يمسان إبراهيم بأذى وخرج منها كأن لم يدخلها، وقوله تعالى عند الحديث عن الزوجين: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسْكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون"، فكلمتا "مودة ورحمة" من الألفاظ المتجاورة التي لا غنى لإحداهن عن الأخرى، فلو اكتفى بكلمة مودة لتعامل الرجل مع زوجته كالحيوان، لقضى وطره منها ولم تأخذه فيها رحمة ولا شفقة، لكن كلمة رحمة جاءت للحب والخوف والشفقة على بعضهما، ومن ثمَّ بُنْيت نظرية النظم عند عبدالقاهر الجرجاني، وهي التي تؤكد أن المفردة لا تعطي معناها إلا مع ما جاورها من الألفاظ، ويعتني الجرجاني في نظريته بالأسلوب والصياغة، لإنتاج الدلالة والبلاغة فيها.
تميز شعر الصريمي بارتباطه بالأرض والإنسان، أكان الغنائي منه أم الشعبي أم الحديث، وإن كان الحديث قد أومأ إلى تلك الغايات بطريقة غير مباشرة كما هو في الغنائي الذي أوقد مشاعر المتلقي وشدَّه إلى الأرض والإنسان في تلك المرافئ الخضراء ومنابت الصبا.
دفء عاطفي
في هذا الموضوع الذي عُنِينا فيه بمفردات الأرض والإنسان في الإبداع التعزي، سنأخذ من الدكتور سلطان الصريمي في غنائياته نماذجَ للمفردات التي تُهَيِّجُ النفسَ وتُسِرُّ الخواطرَ عند قراءتها، لنثبتَ للقارئ مدى ارتباط مبدعي هذه المحافظة بأرضهم وإنسانهم والحنين إليهما، إذ تميز شعر الصريمي بارتباطه بالأرض والإنسان، أكان الغنائي منه أم الشعبي أم الحديث، وإن كان الحديث قد أومَأ إلى تلك الغايات بطريقة غير مباشرة، كما هو في الغنائي الذي أوقد مشاعر المتلقي وشدَّه إلى الأرض والإنسان في تلك المرافئ الخضراء في تعز، وإلى منابت الصبا في أرياف اليمن بكل مناكبها، حيث الدفء العاطفي والحنين إلى صرخة الطفل الأولى، يقول:
تليم الحب في قلبي * تذكرني بأيام الهثيم
تذكرني دوادح حبنا * الغالي ودخداخ النسيم
فكلمة "تليم" في صدر البيت، استعارها الشاعر من حقل آخر هو حقل الزراعة والفلاحة ليوظفها في قلبه، لكنها لا تعطي أي معنى إذا لم تضَف إلى غيرها من المفردات، فحين نُظمت في السياق مع: الحب في قلبي، أعطت معنى استعاريًّا رائعًا يدهش القارئ حين يمزج بين الأرض والإنسان في ثلاث كلمات هي: تليم، الحب، قلبي، أما في عجز البيت فيستكمل مشهد الارتباط بالأرض والطفولة والقرية فيقول: "تذكرني بأيام الهثيم"، والهثيم هو الرَّذاذ أو المطر الخفيف، أما في البيت الثاني فقد ذكر كلمة "دوادح" وهي جمع "دادح"، والدَّادح ما يفرح به الأطفال من الزينة البرَّاقة والثياب الجديدة، ومنها أخراص البنت، فبعد ثقب أذنها، يزجرونها بالقول: "من يشتي الدَّادح ما يقل أحْ" فصارت مثلًا، والشاعر هنا يعني بدوادح حبنا الذكريات التي جمعتهما، وقد اكتسبت كلمة "دوادح" روعتها من كلمة حبنا التي جاورتها بالنظم، وفي عجز البيت وردت كلمة و"دخداخ" النسيم، وهي تعني دغدغة الهوى العذب البارد المتردد على جسم الحبيب، وهي مفردات موجهة للأرض والإنسان على حدٍّ سواء، وفي قوله:
أذكرك والسَّحايب يغمزين للشعير * والبلابل تغنِّي لحن ماطر غزير
والقليْب يا حبيبي من فرحنا شيطير
في هذا البيت، تطوف بنا مفرداته بين السماء والأرض والإنسان، فقد ذكر الشاعر حبيبه، كما ذكر السَّحاب والشعير وغمزها إليه، وفي نفس اللحظة كانت البلابل تغني لحن المطر. لقد جمع الشاعر بين مكونات الطبيعة على اختلافها في مفردات منظومة ومتجاورة في عقد بلاغي مُدْهشٍ، كانت بدايته ذكر الحبيب، ونهايته فرحتهما التي كاد قلبه أن يطير من شدَّتها، بيد أن الحبيب هو الوطن والنفس والعين وهو الضوء والصبح والمساء والعصفور والحمامة، وهو أيضًا ندى الفجر والزهر والحنون والعطر الفواح، والنبض المحرك للحياة وسموها وجلالها وجمالها.
إن مفردات الأرض والإنسان في قصائد الصريمي تعزز انتماءه لتلك الأرض والإنسان؛ لأنها تشي بجمال منقطع النظير يسكن فؤاده، الذي تناول هذا المفهوم الانتمائي بطريقته وأسلوبه، وهو ينهل من نبع واحدٍ هو الأرض والإنسان، وإن اختلفت طرائق تناوله لذلك.
لعل الأرض في شعر الغناء عند الصريمي كانت ملهمة له بقدر ما كانت المرأة ملهمة له، لذلك نلحظ ارتباط الحب -دومًا- بالأرض والمرأة، وكأن الشاعر يريد تعميق معرفة القارئ بأن المرأة هي الأرض، والأرض هي المرأة، وكلاهما العطاءُ والانتماء.
المرأة الملهمة
وفي النموذج التالي يتجسَّدُ ما ذهبنا إليه، إذ يقول:
يا مُطْعمات تِنهدين وغنّين * ليت الهوى يجمع فراق قلبين
وردّدين معي معي وقولين * ما يختبي بالقلب تفضحه العين
لعل الأرض في شعر الغناء عند الصريمي كانت ملهمة له بقدر ما كانت المرأة ملهمة له، لذلك نلحظ ارتباط الحب -دومًا- بالأرض والمرأة، وكأن الصريمي يريد تعميق معرفة القارئ بأن المرأة هي الأرض والأرض هي المرأة، وكلاهما العطاءُ والانتماء، ففي البيتين السالفين نادى الشاعر المُطْعِمات، والمُطْعِمات هنَّ من يأتين بطعام المواشي من الأرض الزراعية، وربط هذا النداء بطلب التنهد والتغنِّي، والتنهد والتغني هو ضرب من التنفيس وارتياح النفس، وقد أعطت دلالة عميقة تحفز المتلقي على معرفة تفاصيل تلك الحياة التي يتحدث عنها الشاعر، بملاءمة دلالة هذه الألفاظ الثلاثة: "المطعمات، تنهدين، غنين"، ولما يليها من الألفاظ في عجز البيت: "ليت، الهوى، يجمع، فراق الأحباب"، في إطار النص الإبداعي، إذ تأسرك لفظة بعينها في سياقها، في حين لا تأسرك اللفظة نفسها في مكان آخر وفي سياق آخر، وتظل المفردات يتيمةً إذا لم تضف إلى مفردات أخرى تعطيها قوة الدلالة وحسن النظم، وفي هذا الموضع من النص تكون الأرض حاضرةً من خلال المفردات التي تحيل القارئ إليها، وتتمثل هنا بكلمة "المُطعمات".
أما البيت الثاني فيأتي متممًا لما ذهب الشاعر إليه في سياق البيت الأول، فمفرداته: "ورددين، معي معي، وقولين"، في صدر البيت، تعد جسرًا للوصول إلى ما يريد طرحه في عجز البيت بقوله: "ما يختبي بالقلب تفضحه العين"، بمعنى أن المحب الذي يخبِّئ حبه عن الناس تفضحه عيناه. ومن خلال المعجم الشعري المرتبط بالبيئة الزراعية التعزية، نجد أن عملية اختيار الألفاظ وترتيبها كانت بطريقة توحي للقارئ ما يثير خيالًا جماليًّا مرتبطًا بالأرض ومنابت الطفولة في الريف، وحين نقف على الأبيات التالية ندرك مدى تعمق عشق الأرض في وجدان الصريمي، فيقول:
أعشقك
قلتها لك كثير
أعشقك
مثلما تعشق الأرض
ماء المطر
كم ظمي لك فؤادي
وكم لاحقك
لاجل عشقك حلف
ما استقر
بمثل هذه الكلمات المغروسة في وجدان الشاعر كفيلة بأن تجعل الإنسان يحنُّ إلى أرضه ووطنه ومنبته الأول مهما حلق في سماء الأرض، فكلمة "أعشقك"، تشي بمنتهى الحب وغايته، لكنه هنا ربطها بالأرض، بقوله: "مثلما تعشق الأرض ماء المطر"، هذا الارتباط بالأرض والإنسان قد لا تجده في غير شعر سلطان الصريمي، وأغلب شعراء محافظة تعز؛ ذلك لأنهم -في اعتقادي- تشرّبوا حب تلك الأرض في مراضعهم.
الحديث عن مثل ذلك متشعب وطويل، لكني أكتفي بهذا الشاعر المخضرم الذي هو غصن من شجرة وارفة بالإبداع.