شهدت المكتبة اليمنية والعربية عام 2022، صدور كتاب قيّم عن الاختلاف في أدب الرحلات، بعنوان (كتابة الاختلاف في أدب الرحلات) عنوانًا أساسيًّا، متبوعًا بعنوان فرعي (من القرن الثالث الهجري حتى نهاية القرن الثامن الهجري) للدكتور حافظ قاسم صالح القطيبي، وهو في الأصل بحث تقدّم به الباحث لنيل شهادة الدكتوراة من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- كلية اللغة العربية- قسم الأدب في المملكة العربية السعودية، حيث كان مبتعثًا هنالك من جامعة عدن لاستكمال الدكتوراة.
وهو الكتاب الذي نُشر إثر فوزه بجائزة (ابن بطوطة لأدب الرحلة) فرع الدراسات للعام 2022، التي أسسها المركز العربي للأدب الجغرافي "ارتياد الأفق"، ونُشر عن: المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، ودار السويدي في أبو ظبي.
وقد جاء الكتاب في نحو 480 صفحة من المقاس الكبير. حوى الكتاب استهلالًا للأستاذ محمد أحمد السويدي، ثم مقدمة للمؤلف ذاته، أعقبها تمهيد في نحو 20 صفحة قبل الولوج في المتن البحثي.
وبحسب الكاتب فإن "مقولة الاختلاف -التي تشكّل محورًا رئيسًا لهذا البحث- من المفاهيم الأكثر استعمالًا في مجالات الدراسات المهتمة بالأبعاد الثقافية في الأدب العربي، إلى جانب مقولات: الآخر، والهوية، والذات. ومفهوم الاختلاف مصطلحٌ علميّ شائع في الخطابِ المتداول اليوم في المجالِ النقدي، سواءٌ في الخطابِ السياسي أو الإعلامي أو في الكتابة الأدبيةِ والفكريةِ، وهو متصل اتصالًا وثيقًا بحقول بحثية عديدة، منها حقول الدراسات الإنسانية والثقافية، ويأتي على رأسها الأدب الذي يعدّ من أكثر مجالات الثقافة انشغالًا بهذه المسألة نظرًا إلى الجسور المتعددة بينه وبين سائر أشكال التعبير".
فما المقصود بأدب الرحلات، قبل الحديث عن الكتاب؟
أدب الرحلات هو الكتابات والتدوينات التي كتبها ودوّنها الرحالة الذين جابوا البلدان وانتقلوا من مواطنهم إلى مواطن أخرى، راصدين المختلف في تلك البلدان والمواطن في صنوف شتى من صنوف الحياة السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ثم عادوا إلى بلدانهم ليرووا لأبناء جلدتهم ما عايشوه، وما شاهدوه، وما حُكي لهم من الحقائق، ومن الغرائب والعجائب.
ويرى الباحث حافظ القطيبي، أن "الكتابة الرحلية فتحت مجالات جديدة في الكتابة النثرية غير تلك المجالات الفنية الضيقة القائمة على جمال العبارة والأسلوب، فمنحت مفهوم الأدب -فضلًا عن الإمتاع والإفادة- دلالات أوسع وأثرى، شملت الفضاءات الإنسانية ومجالات التواصل والتعارف بين الشعوب والأمم".
الدوافع السياسية للرحالة تمثلت في المقارنة بين أنظمة الحكم بين بلدان الآخر المختلف دينيًّا، وعمد الرحالة إلى بيان تفوق الذات ونُظُمها السياسية، غير أنهم لم يغفلوا الحديث عن بعض النماذج الرشيدة والحكيمة لدى الآخر وتوجيه نقد غير مباشر، وربما التعريض بأنظمة الحكم في البلاد الإسلامية.
والحق أن أدب الرحلات لم يدوّن في ثقافتنا العربية إلا مع حلول القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، ولقد كان هذا النمط من الكتابة جديدًا غير مسبوق في الثقافة العربية؛ ولذا فقد التبس بالمنوال السردي خاصة، والحكائي عامة –كما جاء في مقدمة الكتاب- الذي نتناول عرضه، ولقد عرض الباحث في كتابه مشاهدات ومرويات وأحكام عدد من الرحالة العرب الذين كتبوا عن رحلاتهم في كتب أو تدوينات أو رسائل ما بين القرنين الثالث وأواخر القرن الثامن الهجري، وهما القرنان اللذان شهدا رحلات قام بها أولئك الرحالة العرب المسلمون من الأقطار العربية إلى بلدان متعددة، امتدت شرقًا إلى بلاد الهند والصين وغيرها من بلدان الشرق الآسيوي، وغربًا إلى بلاد الترك والروس والصقالبة وبلاد البلغار، ورحلات إلى بلدان الساحل الإفريقي أيضًا.
يقول الباحث: "لقد شكلت الرحلة العربية القديمة، بوصفها سفرًا ورحلة إلى الآخر المختلف، أرضيةً خصبة لكتابة الاختلاف؛ ذلك أن فعل الرحلة في النشاط البشري عامة مغامرة في المكان الحقيقي، وهو كذلك مغامرة في الكتابة بصفتها فضاء يدوّن تجربة إدراك الفضاء الآخر المختلف، والتعبير عنه بالوسائل اللغوية والبلاغية الدالة على الانفعالات وردود الأفعال إزاء ذلك المختلف"، ومن هذا المنطلق عنّت للباحث فكرة دراسة: كتابة الاختلاف في أدب الرحلة.
لقد اتجه البحث إلى تحليل كيفية توظيف اللغة في الكتابة عن العالم المختلف، الثقافي والطبيعي، كاشفًا عن دوافع هذه الكتابة وآلياتها ومجالاتها وأغراضها ووظائفها، موظفًا مناهج حديثة في التحليل.
لم تكن رحلات ترفيهية غير ذات مقصد وغاية
وقد درس الباحث سبع مدونات رحلية، وهي:
- سليمان التاجر، ألّفه في 237هـ (عجائب الدنيا وقياس البلدان)، إلى الصين.
- أبو دلف المهلهل (ت 390هـ) في رسالتيه الأولى والثانية إلى الصين، وإلى وسط آسيا وأرمينيا.
- أحمد بن فضلان، قام برحلته في 309هـ، (رسالة ابن فضلان)، إلى بلاد الترك والروس والصقالبة.
- أبو حامد الغرناطي (ت 564هـ): (تحفة الألباب ونخبة الإعجاب)، إلى مصر وصقلية وإيران، وعبر بحر قزوين وبلغار الفولجا، والهنغار والقوقاز.
- محمد بن جبير الأندلسي (ت 611هـ): (تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار)، إلى مكة والشام ومصر وصقلية.
- ابن بطوطة (ت 779هـ): (تحفة النُّظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)، إلى جزر المالديف والهند والصين وبلاد فارس وإفريقيا وعدد كبير من البلدان العربية والإسلامية.
فلنتجه نحن أيضًا في رحلة ممتعة نسبر فيها أغوار هذا الكتاب الشائق، لنتعرف على أهم ما حواه في ثناياه.
قسّم المؤلف بحثه إلى أربعة فصول وخاتمة، ثم عمد إلى تقسيم الفصول إلى مباحث، ولقد تناول في الفصل الأول المتعلق بدوافع كتابة وتدوين الرحلات في مباحثه الأربعة: الدوافع السياسية والاجتماعية والمنطلقات الدينية والبواعث الثقافية والمحركات الاقتصادية، وهي الدوافع والمنطلقات والبواعث التي من أجلها اتجه الرحالة العرب إلى تدوين رحلاتهم.
إذ إن تلك الرحلات العربية إلى المواطن المختلفة لم تكن رحلات ترفيهية غير ذات مقصد وغاية، وإن البحث عن المتعة هو محركها وباعث لها، بل تعددت بواعثها ودوافعها، وقد تجلت دوافعها الثقافية، مثلًا "في تناول أولئك الرحالة للطعام واللباس ونمط البناء والصناعات والتقنيات والفنون والكتاب والمعرفة"، وهي مؤشرات للتحضر والبدائية في هذا الموطن أو ذاك، واتضحت المحركات الاقتصادية من خلال "كتابات الرحالة في تفاضل الأقاليم والبلدان وتمايزها في الثروات الطبيعية والخصائص الاقتصادية والموقع الجغرافي وأماكن الجذب والازدهار الاقتصادي والتجاري، والخصائص الطبيعية من ماء وتربة ومنتوجات وخاصة الزراعية".
أما الدوافع السياسية للرحالة فقد تمثلت في المقارنة بين أنظمة الحكم بين بلدان الآخر المختلف دينيًّا، وعمد الرحالة إلى بيان تفوق الذات ونُظمها السياسية، غير أنهم لم يغفلوا الحديث عن بعض النماذج الرشيدة والحكيمة لدى الآخر وتوجيه نقد غير مباشر، وربما التعريض بأنظمة الحكم في البلاد الإسلامية، ويتلخص الدافع الاجتماعي للكتابة في "معظم الظواهر الاجتماعية التي سجّلها الرحالة ذات طابع سلبي من وجهة نظر الرحالة وثقافته؛ لأن الرحالة انطلق من مرجعيته الإسلامية في الحكم عليها"، وهو هنا يتحدث عن مشاهدات وملاحظات الرحالة المتعلقة بالنواحي الاجتماعية من عادات وتقاليد في شؤون الضيافة والزواج والجنائز وما شابهها من أمور اجتماعية تختلف ما بين مجتمع وآخر.
عن المعاجم التي حوتها كتب الرحلات
ويرى الباحث الدكتور حافظ قاسم القطيبي، أن منطلق التصور الديني والثقافة الفقهية للرحالة دفعته إلى النظر نظرة دونية وتنقيصية للآخر المختلف دينيًّا"، بحيث يبدو الرحالة حريصًا على الاعتزاز بدينه وإبراز تفوقه العقدي".
وينتقل بنا في الفصل الثاني إلى آليات الكتابة لدى الرحالة وصيغها، وحوى هذا الفصل ثلاثة مباحث تناولت بالتفصيل آليات الخطاب من سرد ووصف وحوار، وخصص المبحث الثاني للحديث عن المعاجم التي حوتها كتب الرحلات، والتي تولدت من خلال الرحلات التي قاموا بها، وهي معاجم ضمّت عددًا من الكلمات والألفاظ الجديدة، ولقد تنوّعت من حيث ألفاظها، فمن معجم الحيوان والنباتات، إلى معجم الألفاظ الحضارية والثقافية، كألفاظ الأطعمة والأشربة واللباس، وكذا معجم الألفاظ السياسية والدينية. وتحدث الباحث في المبحث الثالث عن الأعمال اللغوية التي أنجزها الرحالة في كتاباتهم، وقد جاءت لتحقّق أغراضًا متعددة، كتحفيز القارئ وإثارة ردود الأفعال، والاستمالة والإثارة. وذلك لغايات تأثيرية تخص ردود فعل القارئ، كالقبول أو الرفض أو الإقناع أو التنفير.
وينتقل المبحث الرابع للحديث عن المروي له، أي المتلقي لهذه الكتب والتدوينات والرسائل، أيًّا كان، وأثره في كتابة الاختلاف وما يقع عليه هو من أثر.
نوع البناء والكنائس والمعابد والمساجد والقصور
أما الفصل الثالث فقد تناول مجالات الكتابة والتدوين، وجاء في مباحث أربعة؛ تناول المبحث الأول مجالات العالم الطبيعي من مناخ وظواهر فلكية ونبات وحيوان، وتحدث في المبحث الثاني عن الإنسان وملامحه الخلقية، وكانت العادات والأعراف والطبائع هي ما درسه الباحث، ثم عرّج على المعمار المختلف والمعالم الحضارية من وجهة نظر الرحالة في المبحث الرابع من حيث نوع البناء والكنائس والمعابد والمساجد والقصور.
إن دراسة كتابة الاختلاف مكّنتنا من فهم كيفية نظرة الكاتب العربي إلى الاختلاف، وبيّنت طبيعة علاقة الإنسان العربي مع الآخر المختلف، إذ تنوّعت المواقف والعلاقات، وقد كانت المنظومة الفكرية العربية حذرة من الاختلاف الثقافي، وكانت بوادر التأسيس لثقافة الاختلاف بسيطة ومحدودة.
وكان الفصل الرابع المتعلق بوظائف الكتابة، هو الفصل الأخير في هذا البحث الثري، ولقد تناول فيه الوظيفة الإخبارية والمعرفية والإقناعية؛ إذ سعى الرحالة من خلال كتبهم وتدويناتهم إلى إخبار المروي له أيًّا كان، عما عايشوه وشاهدوه بأم أعينهم، وما روي لهم مما سمعوه ولم يشاهدوه؛ وذلك بغرض الإخبار، وهو الأمر الذي سعوا من خلاله إلى نقل بعض المعارف عن المجتمعات والبلدان التي زاروها رغبةً في التلاقح الثقافي والإفادة من تجارب الآخر، كما حاولوا إقناع المروي له بصحة ما رأوه وإن بدا غريبًا وعجيبًا في بعض الملاحظات والمشاهدات، وإن كان كل هذا قد جاء مسربلًا بقدر كبير من الإمتاع بما يحقق الوظيفة الإمتاعية أيضًا.
ثم جاءت الخاتمة، وهي التي لخص فيها الباحث د. حافظ قاسم القطيبي كتابه في صفحات قلائل، وذكر فيها أهم الاستنتاجات التي توصل إليها من خلال بحثه (الاختلاف في أدب الرحلات العربية). ولقد جاءت الخاتمة بعد رحلة مع الكتاب كانت شائقة وممتعة، وحملت في ثناياها الكثير من المعرفة عن أدبٍ قلّما التفت إليه كثير من الناس؛ فدللت على أهمية هذا الجنس الأدبي في التواصل بين الشعوب والتلاقح الحضاري والتقارب الثقافي. لقد توصل البحث إلى نتيجة عامة وهي "أن الرحالة في كتابتهم للاختلاف، وظّفوا آليات لغوية واستراتيجيات خطابية كثيرة توظيفًا هادفًا لتحقيق أغراض ومقاصد متنوعة".
"إن دراسة كتابة الاختلاف مكّنتنا من فهم كيفية نظرة الكاتب العربي إلى الاختلاف، وبيّنت طبيعة علاقة الإنسان العربي مع الآخر المختلف، إذ تنوّعت المواقف والعلاقات، وقد كانت المنظومة الفكرية العربية حذرة من الاختلاف الثقافي، وكانت بوادر التأسيس لثقافة الاختلاف بسيطة ومحدودة...".
ولعلنا في هذه العجالة نلفت الانتباه إلى هذا الجنس الأدبي، ودراسته لدى طلابنا وباحثينا في الكليات الأدبية اليمنية والعربية، بل وندعو السفارات اليمنية والعربية المتناثرة في عموم العالم لبعثه والاستفادة منه في تعزيز عرى الأخوّة والصداقة بين الشعوب العربية والإسلامية والعالمية.