طاف "عبدالكريم حمادي" أغلب مناطق محافظة ذمار بحثًا عن الأشياء القديمة لاقتنائها، وإضافتها إلى متحفه الصغير بمدينة ذمار. عندما فتح محلة الصغير في سوق السلاح -البجد- قبل 15 عامًا، كان الوحيد الذي يمتلك قطعًا قديمة يعود بعضها إلى مئة عام مضت، ويمتنع عن بيعها ويعرضها للمارّة، ويكتفي ببيع وشراء الفضيات والأحجار الكريمة كمهنة يعتاش منها.
"من أكثر من ثلاثين سنة وأنا أذهب من قرية إلى قرية، أجمع أشياء قديمة، أحيانًا البعض يهديها لي، والبعض الآخر أشتريها منهم، والأغلب كنت أشتريها"؛ يلخّص رحلته في جمع القطع القديمة، هو شغف منذ الطفولة وتحول إلى هِواية ومنها إلى أسلوب حياة.
ويضيف، في حديث لـ"خيوط": "في محلي الصغير –المتحف الصغير- أحفظ كل القطع وأعرف تاريخها وقصة وصولها إلى هنا، اعتبرها جزءًا من حياتي، ولا أعرف نفسي بدون أن أجلس محاطًا بالقطع القديمة". القطع القديمة جزء من الذاكرة اليومية للمواطنين، فـ"حمادي" يعتبر جمع القطع توثيقًا لمرحلة زمنية مهمّة ما تزال حاضرة.
لدى حديثه، يُشير إلى علب فارغة وضعها في صف واحد، وقال: "هذه كان يتم تصديرها إلى اليمن قبل نحو سبعين سنة، وكانت تُستخدم في حفظ السمن والزبدة، وتأتي من دول الهند والصين ودول أخرى في الشرق"، ويلتفت إلى زاوية أخرى في المكان: "هذه القطع كانت تُستخدَم في مراسيم الأفراح والعزاء، وتُملَأ بماء الورد وتُرَشّ على الحاضرين، كانت تُستخدم حتى وقتٍ قريب، لكن عمر بعضها خمسون سنة".
قطع متنوعة
علب المشروبات الغازية، أشرطة الفيديوهات وأشرطة كاست، عملات قديمة، أواني حديدية ونحاسية، خناجر، كاميرات تصوير، بنادق، ساعات، أباريق شاي، أجهزة راديو، وغيرها الكثير، والتي تُعرَض بشكل شبه عشوائي، ضمّها متحف "عبدالكريم حمادي"، تفاصيل حديثة وقديمة وأخرى ضاربة في القدم، جميعها تلاشت من أيادي الناس، ويحتفظ بها هنا في هذا المكان الصغير.
يقول صديق "عبدالكريم حمادي": "لو تُجمع المبالغ التي أُنفقت على شراء وجمع هذه القطع، فستكوّن ثروة مالية عظيمة، لكن الثروة الحقيقية بالنسبة لصاحبها هي بقاؤها حيّةً في أعين الناس".
لدى هذا الرجل الخمسينيّ نحو ثلاثة كيلو من العملات اليمنية المعدنية بمختلف أنواعها، بعضُها قديم والآخر حديث، مع ذلك لا يمل أن يعدّها بين الفينة والأخرى، ليطمئن أنّها ما تزال كما هي، ويحرص أن يزيدها بشراء عملات معدنية من الآخرين.
يومًا عن يوم، تذبل تجارة "الفضيات التقليدية" في الأسواق القديمة بمدينة ذمار، بسبب فقدان هذه المهن بريقها بفعل القدرات الشرائية الضعيفة للمواطنين، واتجاه من بات يمتلك المال إلى شراء الذهب والفضّيّات والنحاس المطلي بالذهب من أماكن أخرى في الشوارع الرئيسية، بحسب تأكيد حمادي، لكنه صامد في هوايته -جمع الأشياء القديمة- حتى "يأذن الله بالفرج علينا وعلى الشعب"، قال عبارته بتفاؤل جميل.
مصدر رزق
ليس من السهل أن تجمع هذا الكمّ الهائل وتحتفظ به لفترة أطول في ظل هذه الظروف، هذا ما يجزم به الرجل الخمسينيّ، وقال وهو يمسح التراب من على رفوف ساعات تنبيهٍ قديمة: "مرَّ على بعضها أربعون عامًا وما تزال تعمل، تخيّل هذه الساعة لو تتكلم ماذا ستقول لنا من ذكريات! ربما أصحابها الآن قد توفُّوا أو صاروا مسنّين، ورافقت بعضهم منذ الطفولة".
"ليس الأمر بهذه السهولة؛ أن تسعى إلى توثيق الذاكرة الشعبية بأشياء تقليدية وقديمة، كانت في متناول الجميع قبل أن تتلاشى وتختفي، لنجدها في مكان صغير وسط سوقٍ أغلب دكاكينه خُصصت لبيع الأسلحة الحديثة ومستلزماتها، الأمر صعب، خاصة عندما تكون لقمة عيشك على المحك"؛ قال أحمد محمد الغليبي (موظفي حكومي). وأضاف: "للأسف، عددٌ قليل من يحتفظون بهذه الأشياء والتفاصيل القديمة كهواية، ونحن مجتمع استهلاكي نرمي بكل ما هو قديم، ونحتفظ بالجديد دائمًا".
وتطرق الغليبي، لدى حديثه مع "خيوط"، إلى فقدان الذاكرة الشعبية لجزء من حضورها بفعل اختفاء هذه الأشياء والتي ارتبطت بالتفاصيل اليومية للمواطنين. وقال: "عندما أجلس هنا –في المتحف الصغير لحمادي- تملأ داخلي الذكريات، ويشدني الحنين إلى الماضي ويومياته، هذه الأشياء رغم بساطتها بالنسبة للبعض، هي للبعض الآخر حياة قائمة بذاتها ولا يمكن التفريط فيها".
داعيًا إلى الحفاظ على الهُوية اليمنية والإرث التاريخي للبلد في شتى المجالات، وتوثيق المقتنيات القديمة، وتقديمها للأجيال القادمة.
خالد أحمد صالح، صديق "عبدالكريم حمادي"، يعتقد أنّ ثروة صديقه هي هذا المكان. وقال: "لو تجمع المبالغ التي أُنفِقت على شراء وجمع هذه القطع فستكوّن ثروة مالية عظيمة، لكن الثروة الحقيقية بالنسبة لصاحبها هي بقاؤها حيّة في أعين الناس"، مشيرًا إلى التفاصيل المادية للحياة اليومية للمجتمع في ذمار، وكيف تغيرت بفعل التطور المتلاحق في أشكال الاستهلاك.
انتزع صالح من أحد رفوف المكان قطعًا معدنية صغيرة، وقال: "هذه كان يوضع فيها الشمع، وعدد قليل من الأسر -في ذمار وغيرها- من تملكها؛ لأنّها مؤشر على مدى ثراء هذه الأسر، الآن لم يعد أحد يحتاجها أو يعرف وظيفتها".
مضيفًا بشكل ساخر: "لو عبدالكريم باع كل هذا، وفتح له محلًّا تجاريًّا، لكان وَضْعُه الماديّ أفضل ممّا هو عليه الآن"، مستطردًا: "عبدالكريم شغوف بهذه الهواية، وجمعُ الأشياء القديمة جزءٌ من حياته، لذا على الجهات الرسمية والمجتمعية دور في ذلك للحفاظ على التراث، ومدّ يد المساعدة لهذا الرجل الذي أفنى حياته يجمع الأشياء القديمة".