الحنين للمدن التي لم نزرها

علاقة وطيدة بين الإنسان والمكان
عبير اليوسفي
February 5, 2022

الحنين للمدن التي لم نزرها

علاقة وطيدة بين الإنسان والمكان
عبير اليوسفي
February 5, 2022
Photo by: Ali Al-Sunaidar - © Khuyut

هل شعرت بعد انتهائك من قراءة رواية أو كتاب ما بالحنين للمدينة المذكورة؟ هل تساءلت مثلي لِمَ تترك فينا الكتب حنينًا يربطنا بمدن لم نزرها من قبل؟ وربما تُشعرنا بالألفة مع المدن القديمة وتربطنا بها روابط خفية متصلة بالكاتب وذكرياته! إذا كنت قد شعرت يومًا بهذا فتعال لنبدأ.

يعتبر المكان عنصرًا مهمًّا في أي عمل روائي، يتفاعل معها بمكوناته المجتمعية والشكلية والمعمارية، ويخدم الرواية بشكل واسع، ليصبح جزءًا منا نشعر تجاهه بالانتماء. ترتبط المدينة بالرواية بروابط وثيقة؛ فعن طريق الرواية نكتشف جمال المدن وقبحها، تاريخها، حاراتها، ساكنيها وحكاياتهم، فالرواية قادرة على ترك المدن وأماكنها في ذاكرتنا حتى وإن لم نزرها.

يقول الروائي السوري خليل النعيمي: "المدن أجساد لها روائح واختمارات، شمائل وثآليل، أعراق وثمالات، ندخلها متحسسين أركانها، وكأننا في قبة الكون نبحث عن المدينة التي أضعناها ذات يوم".

ثمة علاقة وطيدة بين الإنسان والمكان الذي يكون له أثر عميق في ذاكرة الكاتب، وإدراك هذه العلاقة يُنتِج لنا عملًا أدبيًّا، وربما يصبح للمكان دورٌ رئيسي في تشكيل الرواية، يشكل حنينا نحو المدن من تصويرها بشكل دقيق ونقل أوجهها المختلفة ومشاكلها وهمومها للقارئ، فكان لمصر -مثلًا- حضور كبير في نفس من قرأ عنها وظل يلازمه الشعور بالحنين والتوق للتعرف عليها بشكل أقرب. من منا لم يقرأ عملًا لنجيب محفوظ ولم يترك فيه بصمة المكان، فقد وظف نجيب ارتباطه بالأماكن والمدينة في البناء الروائي، فنرى قاهرة محفوظ (كما خصه جمال الغيطاني) التي استمد من المشي في شوارعها أبطالَ روايته، ومن مجتمعها موضوعاته، وقد أسرد في وصفها في ثلاثيته الشهيرة "بين القصرين، قصر الشوق، السكرية"، وفي روايته الشهيرة "خان الخليلي"؛ لكن للزمان دوره في إثبات حضوره، فلم يعد الخان كما صوره في رواياته. اختلاف الزمان وتغيراته باتت واضحة عليه، تحوّل الحي من منطقة سكنية ليصبح الآن واحدًا من أكثر الأماكن السياحية زيارة، بمقاهيه وفنادقه وبازاراته.

إلى اليمن أنقل الحنين الذي جاء منها في مؤلفيها، في رواية نادية الكوكباني "صنعائي": "من تغنى بصنعاء اقترب إلى الله، والتصق به الحب، وفهم معنى الوطن". في حين أخذت عدن دور البطولة في كتاب علي المقري "بخور عدني": "بدت أنها بديل حتى عن الوطن"

ومن قاهرة نجيب محفوظ حتى إسكندرية الكاتب المصري إبراهيم عبدالمجيد، الذي أجاد الكتابة عن مدينته وسكب حبه وحنينه لقديمها حبرًا على الورق، فللمكان أثر كبير في ذاكرته تراه واضح المعالم في كتبه. له ثلاثية حكى فيها تاريخ الإسكندرية، هو ابن المدينة الذي ما زال يقف أمام تغيرات الزمان فيها، ويرثي طفولته وشبابه وحنينه لكل تغير جاء به الزمان.

إلى اليمن أنقل الحنين الذي جاء منها في مؤلفيها؛ في رواية الكاتبة اليمنية نادية الكوكباني "صنعائي"، كان لمدينة صنعاء حضور بارز، بل ربما مثلت الشخصية الرئيسية في الرواية. شوارعُها وحاراتها ومعالمها ومجتمعها وساحاتها وحروبها التي خاضتها، كل ذلك كان موثقًا ليشكل للقارئ الذي يتوق شوقًا للمدينة، حنينًا مضاعفًا. تقول نادية في وصفها للمدينة: "المدينة لا تبحث عن وسيط في قلوب من يحبونها. فالمدينة تريد أن تقدِّم ذاتها وتقدم تاريخها دون وسيط. لذلك لا تسأل القادمين إليها هُويتهم، تحتضن الكل، وتحب الكل، وتمنح دفئها كالشمس لكل من نزل أرضها وسكن منازلها"، وتضيف: "من تغنى بصنعاء اقترب إلى الله، والتصق به الحب، وفهم معنى الوطن، بل وعاش حياة مبهور بسلطتها في حزنها وفرحها معها". قدّمت نادية في روايتها تاريخ صنعاء في فترتين، الحاضر والماضي، وأجادت في وصف كل شيء مرتبط بها، حتى مواسم فاكهتها؛ فهي تصفها: "في تلك المواسم تتحول رائحة المدينة إلى فاكهة ناضجة يجرفها الهواء إلى رئتينا فيغمرنا الشبع"، ومن جهة أخرى صوّرت الجانب المظلم للرواية؛ ففي وصف السجون كتبت: "يعلم المساجين أن السجن الذي يقطنونه ويدمر آدميتهم يوميًّا عن يوم، لم يكن في السابق غير مخازن أسلحة، وأنها مخازن مسماة بأسماء القبائل، لتكون الآن حجرات لهم بالاسم ذاته. هذه القبائل تطارد اليمن واليمنيين حتى في السجون".

من نادية لا نذهب بعيدًا، إنما إلى عدن التي أخذت دور البطولة في أعمال يمنية مختلفة، والتي يجرفني الحنين لها كلما قرأت عنها، وأنا التي لم أزرها يومًا، لكن حفظتها عن ظهر قلب من الأعمال الأدبية التي تناولتها. "بخور عدني" لعلي المقري، تأتي عدن بماضيها في فترة الأربعينيات والسبعينيات ومقاومة الاحتلال البريطاني، كانت عدن وطنًا للبطل الهارب من وطنه، كتب علي المقري: "لا أقول إن عدن وطن الآخرين، أو وطن الذين لا وطن لهم، بل بدت أنها بديل حتى عن الوطن، عن أي وطن، بل البديل عن فكرة وطن، عن الوطن كفكرة".

الكاتب الروسي دوستوفيسكي الذي يعتبر أكثر الكتّاب انتماء لمدينة بطرسبورغ، وقد ظهرت في أكثر من عشرين من أعماله، كان للمدينة تأثيرٌ ظاهر، وكما نجيب محفوظ، استمد دوستوفيسكي من المشي في ساحاتها وأزقتها مجتمعه وشخصياته وجرائمه. كما أنه قد حصل على دورة كاملة في العمارة ليتنقل في وصف المباني بشكل دقيق ومفصل. في إحدى رواياته، وعلى لسان شخصية، جاء وصف المدينة بالشكل الآتي: "إنه لَبؤسٌ مضاعف أن تعيش في بطرسبورغ. إنها مدينة أشباه المجانين". 

إذن، يبقى التساؤل الذي يجول في بالي: هل للكتب دور كبير في زرع المحبة للمدن التي لا نعرفها وتتواجد تفاصيلها في ذاكرتنا؟ أم الفضل يعود لشغف الكاتب في حب مدينته والذي أورثنا إياه وجعلنا محملين بالحنين تجاهها؟

الأكيد هو أنه تبقى للكتب مهمة وصف المدن وربطها في ذهن القارئ بشخصيات تعتبر كمرشد سياحي له، معه يتعرف على تفاصيل ووجوه المدن بدقة؛ فمن قاهرة نجيب محفوظ، وبطرسبورغ دوستوفيسكي، وصنعاء نادية الكوكباني، وطنجة محمد شكري، وإسطنبول "أورهان باموك"، وفلسطين جبرا إبراهيم جبرا، وباريس فيكتور هوجو، ودمشق غادة السمان، ولندن تشارلز ديكنز وغيرهم، تعلمنا كيف نسافر لها دون أن نفارق مكاننا، فهذا الانتقال الخفيف يجعلنا نعود بذاكرة محملة بتفاصيل المكان ولغته، وحتى إن عشنا تجربة حقيقية في زيارته نصبح على أهبة الاستعداد لمواجهته وجهًا لوجه حتى مع وضوح اختلاف الزمان.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English