التطبيع كمفهوم يراد تكريسه كأسلوب حياة، هو تعبير عن ثقافة مخططة تستخدم كل الوسائل المتاحة بين وسائط العنف واللاعنف، والترغيب والترهيب و...، حتى يغدو قادرًا على إعادة تشكيل ثقافة المجتمع وإعادة صياغة عقائد وقناعات ومواقف وآراء وسلوك الأشخاص، بما يضمن إحلال أهداف وقيم واتجاهات القوى المكرسة للثقافة الغازية محل السائد وطنيًّا ممّا يتعارض مع مصالحها وأهدافها، ليسهل لها استلاب الإرادة وتدجين الوعي وقهر الخصوم. والتطبيع كمصطلح لم يبرز فجأة ليخطف وعينا ويدجن إرادتنا، ويعيد تشكيل القيم والعقائد والوجدان والضمير، منذ طفَا أخيرًا على سطح انشغالات الأمة ليزيد من ابتلاءاتها، بل إنه قديم إن لم أقل إنه موغل في القدم (منذ بدأ تصادم الجماعات والدول، وكلٌّ بحسب أهدافه ومراميه).
والقول بقدم التطبيع كثقافة يمكن فهمه بالرغم من تغير وسائله وأدواته، فلقد ثبت تاريخيًّا (على سبيل الاستدلال) بأن بعض الأباطرة –ممن كانوا يكرسون أنفسهم كآلهة على الشعوب– عند احتلالهم لشمال الوطن العربي عملوا على فرض ثقافتهم على السكان، بل وحاربوا العقيدة المسيحية واضطهدوا معتنقيها، بل وذهب السيد المسيح -عليه السلام- ضحية لمؤامرة تقاطعت فيها مصالح المستفيدين آنذاك.
ومن التاريخ الحديث والمعاصر، وبالرغم من تباين وتعدد الأدوات والوسائل المستخدمة، فإنّ ممّا لا يجب نسيانه ما صنعته فرنسا بشعبنا العربي في شمال غرب أفريقيا، وخاصة في الجزائر وما استخدمته من وسائل بشعة وغليظة لفرنستها، حتى إنها لم تعترف أو تعتذر للجزائريين عما اقترفته في حقهم حتى اليوم.
غنيٌّ عن البيان التأكيد بأنّ هذا الفهم للتطبيع، بقصوره يمثل خطرًا محدقًا ومتعاظمًا على الوعي المطلوب ومستواه، وعلى الثقافة السائدة على تشوهها، كما يؤثر بشدة على الذاكرة المجتمعية العربية
وبعيدًا عن الاستغراق والتماهي مع الانفعالات اللحظية الناتجة عن متابعات مستجدات تماهي الأنظمة الرجعية، والخانعة أيضًا بتقديم الهدايا لسادتهم الموكلين بتكريس التطبيع ومتابعة تحقيق المزيد من الأهداف الضامنة للمصالح الإمبريالية (المالية، والاقتصادية، والثقافية العابرة للقارات)، فإنّ ذلك أيضًا لا يعني التغافل عمّا يحدث –رصدًا وتوثيقًا ومواجهة– (ولذلك حديث آخر).
وبناء على ما تقدم، فلعله غنيٌّ عن البيان التأكيد بأنّ هذا الفهم للتطبيع، بقصوره يمثل خطرًا محدقًا ومتعاظمًا على الوعي المطلوب ومستواه، وعلى الثقافة السائدة على تشوهها، كما يؤثر بشدة على الذاكرة المجتمعية العربية؛ لأنه يقطع الصلة (أو يُراد له ذلك) بالسياق التاريخي للصراع، وهو صراع ممتد منذ قرون وحتى الآن، كما يراد منه فك الارتباط مع صراع في المنطقة وعليها لا يزال مستمرًّا منذ أوائل القرن العشرين وحتى الآن على وجه الخصوص بما يتضمنه من إخفاء لحقيقة الوجود الاستيطاني في فلسطين، وإنكار للأدوار القذرة للرجعية العربية برموزها ومؤسساتها الحاكمة، ليعاد تظهيرهم كأبطال وقادة وطنيين متفهمين لروح العصر؟ وحكّامًا صالحين، بعكس الواقع وما دونه التاريخ المعاصر.
ولئن كانت الشواهد أكثر من أن تحصى في ساحات كثيرة على امتداد الوطن العربي؛ ممّا لا يمكننا التعاطي معها كلها في مساحة كهذه؛ فما الذي يمكننا قوله (مثلًا) عن النظام في الأردن، وخاصة منذ عهد الملك حسين (مستر بيف) –حسب تسمية المخابرات الأمريكية له، والذي كان يستلم منها مخصصًا شهريًّا قدره مليون دولار (بحسب وثائق ويكيليكس، وهيكل، واعترافه أيضًا)– وما عكسه من تخابر حتى مع الكيان الصهيوني ذاته. أو ماذا يمكننا قوله عن النظام المغربي، وخاصة منذ عهد الحسن الثاني الذي بلغت جرأته حد تمكين الموساد الإسرائيلي من التصنت على مداولات مؤتمر القمة العربية التي عقدت هناك في 1969م، وتفاخره بأن العديد من الوزراء الصهاينة هم من أصول مغربية، ثم يعين رئيسًا للجنة الأقصى والقدس؟ أو غيرهم وهم كثر أيضًا (أليس في ذلك تطبيعًا؟!).
وبالتالي؛ فإنّه ليس في أمر إعلان الاعتراف والتطبيع بالتصريح الوقح أو بالتخفي المكشوف، جديدٌ مفاجئ سوى صفاقة المجاهرة بارتكاب الجرم دونما اعتبار للعقيدة ولا لثقافة مجتمعاتهم، ولا لمصالح الأمة، أو مراعاة لمشاعر إخوتنا في فلسطين.
كما أنّ وقائع التاريخ تفضح عورة العلاقات التي نشأت بين السعودية منذ تأسيسها الأخير في عهد عبدالعزيز آل سعود وأولاده من بعده حتى اليوم، وبين القوى الاستعمارية والصهيونية منذ ثلاثينيات القرن العشرين إن لم أقُل من قبل ذلك، من حين استعانته ببريطانيا واستجداء دعمها لتأسيس دولته في مواجهة خصومه على أرض نجد والحجاز وما جاورهما، ووعده لها بالتزامه بالولاء ولما تطلبه منه، فمنحها امتيازات التنقيب على النفط، واتخذ من ضباط مخابراتها المستشارين والقادة العسكريين، واستجاب للشروط بعدم استثمار العوائد بما يخدم مصالح الشعب وحال دون التحديث المطلوب.
كما لا ننسى موقفه المتآمر على الثورة الفلسطينية في 1936م، بتدخله الفجّ لدى قادتها بطلب وقفها مقسمًا لهم بأن بريطانيا وعدته بحل يرضي الفلسطينيين، ثم حنث بوعده!
والتاريخ بات شاهدًا، كما كشفت الوثائق البريطانية عن وثيقة خطيرة سطرها بقلمه، يقر فيها بقبوله منح فلسطين لليهود ليبنوا على ترابها دولتهم؛ فماذا يدعى هذا؟!
وبماذا نفسر مواقف سعود وفيصل من الوحدة المصرية السورية، ومن ثورة 26 سبتمبر في اليمن، وتنسيقهم مع الولايات المتحدة، وبريطانيا، وإسرائيل، وشاه إيران، والملك حسين وغيرهم؛ لمحاولة وأد الثورة في اليمن وإلحاق هزيمة بجمال عبدالناصر، ومنعًا لانعكاسات نجاح الثورة على نظامها والمجتمع؟!
وكيف نسمي رسالة الرجاء التي رفعها الملك فيصل قبل حرب يونيو1967م، للرئيس الأمريكي جونسون يرجوه فيها حثّ إسرائيل ودعمها لضرب مصر عبدالناصر، للحيلولة دون سقوط العروش التي كانت تترنح، وللحفاظ على المصالح الأمريكية والصهيونية في المنطقة (وهي وثيقة لم تعد سرية، حيث تم نشرها عبر مصادر عدة)، كما نشرت رسالة اللجنة السعودية الأمريكية الموجهة لفيصل، تحثه على طلب ذلك من الرئيس جونسون؟!
والحال نفسه مع ما سُمّي بمبادرة فهد بن عبدالعزيز (مبادرة السلام) المشؤومة، التي أقرّت في قمة الرباط 1979م، ثم عززت بمبادرة أخيه عبدالله التي أقرت في قمة بيروت 2000، واللتين لم تكونا إلا فصلين في سفر التآمر الرجعي على القضية الفلسطينية من جهة، وكإعلان عن التراجع والتخلي عن قرارات مؤتمر الخرطوم 67م، ولاءاته الثلاث (لا صلح ولا اعتراف بالعدو الإسرائيلي، ولا تفريط بحقوق الشعب الفلسطيني)، كما كانتا نوعًا من التنكيل بثقافة المقاومة ومحاصرتها واستهدافها.
والحديث عن تآمر حكام الرياض لا ينتهي، ومن فصوله عداؤهم لكل الأنظمة العربية التحررية التي اتخذت من قضية فلسطين هدفًا لها. ثم إنّ عداءهم لفصائل المقاومة وعدم دعمهم لصمود أهلنا في الداخل الفلسطيني ليس إلا تجليًّا آخرَ لتآمرهم.
كما أن نشر الفكر الوهابي ودعمهم لجماعات الإسلام السياسي، أدلة مضافة لسجل التآمر الذي خدمت به المملكة القوى الاستعمارية والصهيونية، سواء بزرع الفرقة، أو نشر الفتن، أو دعم الجماعات التكفيرية المسيئة للإسلام، والتي ساعدت وتساعد على النيل من أنظمة وشعوب الأمة، ودمّرت اقتصادات، ومزقت وحدات مجتمعية، وشوّهت ثقافات سائدة. وكل ذلك لا يخدم إلا تمزيق الممزق وتفتيت المفتت، وتجزئة المجزَّأ، وكلها أهداف لأعداء الأمة وتنكيلًا بحق أجيالها القادمة في الحياة الحرة الكريمة.
ولئن كان الحديث يطول بأكثر ممّا تتيحه المتناولة، فإنّ ممّا لا يجب أن نغفل عنه ما يلي:
1- ما صرح به محمد بن سلمان معترفًا بأن تبني المملكة للوهابية وغيرها بأنها كانت موظفة سياسيًّا (بطلب أمريكي) في إطار الصراع مع الشيوعية والقومية.
2- سعي النظام السعودي للسيطرة على جزيرتي تيران وصنافير لم يكن إلا بقصد تدويل الملاحة في خليج العقبة خدمة للعدو الصهيوني ونيلًا من الأمن القومي العربي، ومنعًا لمصر من الإشراف على الملاحة فيه، أو إغلاقه في وجه إسرائيل كما حدث في 67م، وحينها اتخذته إسرائيل مبررًا للحرب آنذاك. ثم إنها أخيرًا تسلمتهما وتركتهما تحت سيطرة إسرائيل!
3- ماذا نسمي زيارة نتنياهو إلى المملكة، ولقاءه بن سلمان فيما يسمى بمدينة نيوم؟! وماذا نسمي سماح النظام السعودي للطائرات الإسرائيلية باستخدام أجوائها لضرب المفاعل النووي العراقي في صيف 1981، وسماحه أخيرًا للطائرات المدنية الإسرائيلية بالسباحة في أجوائها؟! إن لم يكن ذلك تطبيعًا وتآمرًا فماذا يكون؟! ألا يشكل ذلك ضمانات لاستمرار السيطرة الاستعمارية الظاهرة والخفية، المتعددة الوجوه والأشكال والصور من جهة ومن أخرى إصرار النظام على النيل من عقيدة الأمة، وتجريفًا لثقافتها، وسعيًا للقضاء على ثقافة المقاومة وتجفيف حاضنتها الاجتماعية، وتماهيًا مع سرقة ثرواتها، ووأد حقها في الحرية والعدالة والوحدة، وتصويبًا على الذاكرة المجتمعية وعلى الوعي وإعادة توجيه اهتمامات الرأي العام بعيدًا عن مشروعية ووجوبية الصراع مع العدو الصهيوني و...، وكل ذلك لأن إمكانية استمرار النظام وبقائه في الواجهة مرهون باستمرار أدائه الوظيفي المرسوم في إطار المشروع المعادي للأمة. وبالتالي؛ فإن إشهار التطبيع يغدو مسألة وقت لا أكثر، وهو ما أكّده مسؤول صهيوني بقوله: "إنّ محمد بن سلمان قد عرف دفء شمس تل أبيب عدة مرات"، وكما قال نتنياهو في الكنيست بعد التطبيع مع الإمارات: "السلام مع الإمارات لم يسقط علينا هكذا من السماء، وإنما جاء عبر 25 عامًا من العمل المنظّم".