مثّلت ثورة 26 سبتمبر 1962، إحدى أبرز الوثبات التاريخية المجيدة التي صنعها اليمانيون طوال تاريخهم المديد. فالثورة السبتمبرية لم تكن حركة سياسية ضد نظام سياسي إمامي ثيوقراطي بغيض فحسب، بل -أيضًا- كانت ثورة شعبية ضد أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية شديدة التأخُّر؛ وتطلّعات مُشرئبة نحو واقع جديد مُغاير يليق بإنسان هذه البلدة الطيبة.
بكلماتٍ أخرى: كانت ثورة 26 سبتمبر بمثابة اللحظة التاريخية الفاصلة بين زمنين وعهدين ووضعين شديدي التناقض، أخرجت اليمن من ظلام القرون الوسطى إلى أنوار العصر الحديث.
إنّ من لديه إطلاعٌ كافٍ عن وضع اليمن ما قبل 26 سبتمبر 1962، سيدرك أن ما نقوله ليس فيه أيّة مبالغة أو تهويل. فلقد رزحت اليمن تحت حكم أوتوقراطي جائر طوال 44 عامًا (1918 – 1962م)، فرض فيها سلطته المُطلقة على المجتمع، إذ كان الإمام هو الحاكم المُطلق، "المعصوم"، الناطق بلسان السماء، وهو المحور الذي تنتظم حوله كلّ أمور الدِّين والدنيا.
لم تكن الثورة السبتمبرية ابنة لحظتها الزمنية، بل كانت تتويجًا لمسار نضالي طويل وشاق خاضه الشعب اليمني ببسالة طوال ما يزيد على أربعة عقود من الزمان ضد أعتى نظام عرفته شبه الجزيرة العربية بأسرها.
لقد تدرجت الأساليب النضالية التي اجترحها اليمنيون، بدءًا من الانتفاضات الفلاحية والقبلية، مرورًا بظهور التجمعات المعارضة الأولى التي اتخذت طابعًا إصلاحيًّا مطلبيًّا، وانتهاءً بتشكّل التنظيمات السياسية والعسكرية التي تبنّت خيار التحويل الثوري للنظام السياسي وللمجتمع.
وبالرغم من نَبَالة التطلّعات الجماهيرية وعظمة التضحيات الجسيمة التي اجترحها اليمنيون على طريق خلاصهم الأبدي؛ فإنّه لم يتواكب معها جهدٌ فكريٌّ وسياسيٌّ يتناسب وحجم تلك التضحيات.
لقد اكتفت قوى الثورة بتركيز اهتمامها وجهودها على إسقاط النظام الإمامي، واستبداله بنظام جمهوري مُؤَطَّر في ستة أهداف عامة مُستلّة من أهداف ثورة يوليو المصرية.
بل إنّ فكرة "الجمهورية" ذاتها لم تكن واضحة -بما فيها الكفاية- في أذهان ثُوَّار سبتمبر، فضلًا عن امتلاك تصوُّر فكري-سياسي واضح ومتماسك حول الهُوية الوطنية، باستثناء بعض الشذرات والإشارات العامة المبثوثة في أدبيات بعض التنظيمات الثورية، وهنا بالضبط يكمن كعب أخيل الثورة السبتمبرية.
ويرجع هذا القصور لعدة عوامل موضوعية وذاتية، إذ إنّ جملة شروط الواقع الموضوعي السائد آنذاك، لم تكن لتسمح بالذهاب أبعدَ ممّا تحقق، ورغم ذلك فإنّ هذا المبرر الذي يبدو منطقيًّا لا يُعفي قوى سبتمبر من تحمُّل المسؤولية التاريخية، لا سيما أنّها قد انصرفت عن المهام الأساسية، ودخلت في تناقضات ثانوية منذ العام الأول للثورة، في وقتٍ كانت فلول الملكيين تستجمع قواها استعدادًا للانقضاض على النظام الجمهوري الوليد.
لقد كان من المحتَّم حدوث تلك التناقضات بين قوى الثورة، التي هي انعكاس للتبايُّنات الكامنة في الطبيعة البنائية والفكرية والسياسية لقوى الثورة، وبالتالي أصبحت الجمهورية الوليدة "تعاني عسر التوازن بين المثقفين والسياسيين الثوريين كقوة تغييرية، وبين العشائريين كقوة حربية تُجابه شبيهها"، وفقًا لتوصيف الشاعر والمفكّر عبدالله البردّوني.
لقد أخذ المشهد السبتمبري يتشكَّل وفقًا لتناقض خيارات هذه القوى، وفي مقدّمة ذلك الموقف من مسألة الهُوية الوطنية.
اتجاهات متباينة إزاء الهُوية الوطنية
تعني الهُوية الوطنية، في أبسط معانيها: حالة من الشّعور العام المتولِّد لدى أفراد الشعب بالانتماء إلى كيان وطني جامع يعكس ثقافتهم الحية، ويمثّل مصالحهم وتطلعاتهم المشتركة، ويضمن تمتّعهم بالحقوق والحريات الأساسية.
هذا يعني أنّ الهُوية الوطنية ليست مُعطى جاهز، أو قيمة ثابتة يَرِثُها الأبناء عن الأسلاف، بل هي صيرورة من التشكُّل والتكوُّن في ضوء مُعطيات الواقع وشروطه الدّينامية.
وعملية بناء الهُوية الوطنية، وفقًا لعالم الاجتماع العراقي فالح عبدالجبار، تقوم على مستويين أساسيين، هما: بناء الدولة، وبناء الأمة.
يقتضي مستوى "بناء الدولة"، بناء أجهزة العنف المشروع (الجيش والشرطة)، وبناء جهاز قضائي، ونظام بيروقراطي إداري يمارس سلطاته على إقليم جغرافي محدّد، ويحظى باعتراف دولي.
أما مستوى "بناء الأمة" فيستلزم تطبيقَ آليات المشاركة الديمقراطية لعموم المواطنين في اتخاذ القرار، والانتفاع من الثروة الوطنية، والمشاركة في العملية التنموية. أي: خلق إحساس عام مشترك لدى أفراد الشعب بكونهم شركاء حقيقيين في المجال العمومي.
تأسيسًا على ما تقدم يمكن القول: إنّ الخيارات إزاء عملية بناء الهُوية الوطنية قد تمايزت إلى اتجاهات عدّة، عبَّرت عنها كتلتان عريضتان، هما: كتلة اليسار الجمهوري، وكتلة اليمين الجمهوري.
شملت الاتجاهات الماركسية والقومية، مثل: اتحاد الشعب الديمقراطي، وحركة القوميين العرب، وتنظيم الضبّاط الأحرار، والعمّال، والطلاب، والمثقفين الشباب، وبعض ممثلي البرجوازية الوطنية، وبعض المشائخ الوطنيين.
كانت هذه الكتلة تطمح لبناء هُوية وطنية بمضامين ديمقراطية وتقدمية، من خلال إحداث تغييرات جذّرية في بنّية النظام السياسي، وفي البنّية الاجتماعية، وحددت خياراتها الثورية بكل وضوح، بتبنّي النظام الجمهوري، وبناء الدولة العصرية الحديثة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإزالة الفوارق بين الطبقات، وإحداث عملية تنموية شاملة تُفضي إلى تحرير المجتمع من ربقة الجهل والفقر والمرض، والارتباط بالخيارات القومية على صعيد المنطقة العربية.
لقد تمسّكت هذه الكتلة، وبمبدئية مُنقطِعة النَّظير، بفكرة "الجمهورية"، بحسبانها الهُوية السياسية الحداثية للدولة الجديدة وللمجتمع الجديد، وهي هُوية تقوم على أساس القَطْع التاريخي والإبستمولوجي مع نظرية حصر الحكم في فئة أو عائلة أو نُخبة محدودة، أي الانتقال من دولة الشخص/ العائلة/ النّخبة إلى دولة عموم الشعب. فالجمهورية -بلغة المفكّر السوري ياسين الحاج صالح- لا تُحيل إلى جمهور واحد مُتماثل، بل إلى جماهير نشطة سياسيًّا، إنّها الامتلاك الاجتماعي للسياسة.
ضمَّت حركة الأحرار اليمنيين، ومن رموزها: الزبيري والنعمان والإرياني، وتيار الإخوان المسلمين، ومن أبرز ممثليه: عبدالملك الطيب، وحزب البعث، ومن أبرز قياداته: محسن العيني، وبعض شيوخ القبائل، وأبرزهم: عبدالله بن حسين الأحمر، وسنان أبو لحوم، ومجاهد أبو شوارب، وبعض رموز الإقطاع وكبار المُلّاك، وكبار ضباط الجيش، أمثال: حسن العمري، وحمود الجائفي.
حدّدت هذه الكتلة منذ البداية، أهدافها في المطالبة بإجراء إصلاحات محدودة في بنية نظام الإمامة، وإن كانت قد تبنّت خَيار النظام الجمهوري في وقتٍ لاحق، ففي العام 1958 أصدر بعض رموز هذه الكتلة (أبرزهم: النعمان والإرياني والفسيّل) كتابًا بعنوان: "من وراء الأسوار" تبنّوا فيه الدّعوة لتغيير النظام الإمامي بالنظام الجمهوري، إلا أنّها لم تكن لترغب في حدوث تغييرات حقيقية تمسّ مواقعها ومصالحها الطبقية وامتيازاتها الاجتماعية.
وبُعيد قيام ثورة 26 سبتمبر، بدأت هذه الكتلة في ممارسة الضغوط السياسية على السلال وحكومته بُغيَة تمكين عناصرها من المواقع العليا في الدولة تحت ذريعة مواجهة فلول الملكيين، وبالفعل حققت ما كانت تصبو إليه، ففي 30 سبتمبر 1963 صدر مرسوم رئاسي قضى بتشكيل "المجلس الأعلى للدفاع الوطني"، وقد ضمّ هذا المجلس (180) شيخًا من مشايخ القبائل، وحصل كل شيخ على منصب وزير دولة، وقد مثّل الإجراء الخطوة الأولى في طريق ابتلاع الثورة ونظامها الجمهوري، وحائط صد لمسيرة التحديث، وبناء الدولة الحديثة، ووأد إمكانية لتشكُّل الهُوية الوطنية في مهدِها.
واصلت هذه الكتلة مساعيها الابتلاعية بعقد عدة مؤتمرات، أبرزها: "مؤتمر عمران" الذي انعقد في سبتمبر 1963م، وقد خرج المؤتمر بقرارات، أبرزها: تشكيل جيش شعبي قبلي قوامه 28 ألف مقاتل، ليكون جيشًا موازيًا لجيش الثورة.
و"مؤتمر خَمِر" الذي عُقد مطلع عام 1965، تحت يافطة "حزب الله"، وهو الحزب الذي كان الشهيد محمد محمود الزبيري يسعى لتأسيسه.
و"مؤتمر الجند" الذي عُقد بعد فترة وجيزة من عقد مؤتمر خمر، وقد كان الهدف منه تأييد مؤتمر خمر والقرارات والتّوجّهات التي تبنّاها.
و"مؤتمر الطائف"، وهو المؤتمر الذي عُقد في مدينة الطائف بالمملكة العربية السعودية في أغسطس 1965، وقد اشترك فيه وفدٌ ممثلٌ لمؤتمر خَمِر، وممثلون عن مشروع "الدولة الإسلامية" من "آل الوزير"، وممثلون عن المَلكيين، وقد خرج المؤتمر بالدعوة إلى قيام "دولة إسلامية" في اليمن كـ"حل وسط بين الجمهورية والمَلكية"، وهو ما يعد ارتدادًا سافرًا عن ثورة 26 سبتمبر ونظامها الجمهوري.
و"مؤتمر حَرَض"، وعُقد عام 1966 بين اليمين الجمهوري والمَلكيين، وقد ترأس الوفد الممثل لليمين الجمهوري القاضي عبدالرحمن الإرياني، وترأس الوفد الممثل للجانب المَلكي أحمد الشامي، وكان الهدف من وراء عقد المؤتمر هو إيجاد صيغة توافقية بين الجانبين حول السلطة وإنهاء الحرب الأهلية.
و"مؤتمر سبأ" الذي عُقد في مارس 1967، برئاسة سنان أبو لحوم، وطالب بمنح "قبيلة بكيل" دورًا سياسيًّا يُوازي الدور الذي تلعبه "قبيلة حاشد" بزعامة عبدالله بن حسين الأحمر.
لقد عكست هذه المؤتمرات رغبة القوى التقليدية بمختلف تلاوينها، في كبح جِماح الثورة، وإفراغ النظام الجمهوري من مضامينه الديمقراطية والتقدمية، وتبنّي مشاريع أخرى تقف على الضدّ من فكرة "الجمهورية" وتطلّعات الثورة، وتمهيد الطريق أمام انقلاب 5 نوفمبر 1967 الرجعي، وتصفية القيادات الوطنية في الجيش الجمهوري في أحداث مارس وأغسطس 1968 الدامية، وإحكام السيطرة على السلطة، وحظر الحريات السياسية والنقابية، وصولًا إلى عقد المصالحة مع المَلكيين في 1970 برعاية المملكة العربية السعودية.
إنّ هذه المساعي التقويضية لثورة 26 سبتمبر ونظامها الجمهوري قد قادت بالضرورة إلى تقويض إمكانية تشكّل الهُوية الوطنية بمضامين ديمقراطية حداثية وبآفاق قومية، واستبدالها بمشاريع هوياتية صغيرة تلبي مصالح النخب التقليدية، وأبرز تلك المشاريع: مشروع الدولة الإسلامية، مشروع الأطراف المعنية، مشروع الذَّات اليمنية.
أولًا: مشروع الدولة الإسلامية
كما سبقت الإشارة، ظهر هذا المشروع إلى العَلَن أثناء عقد مؤتمر الطائف بالسعودية في أغسطس 1965، والذي جمع ثلاثة أطراف هي: اليمين الجمهوري، والمَلكيين، و"القوة الثالثة" بزعامة إبراهيم آل الوزير، ورأى هذا الطرف الأخير أنّ مشروع "الدولة الإسلامية" هو الصيغة الملائمة لليمن كحل وسط بين الجمهورية والمَلكية، وقد أسفر المؤتمر عن إعلان "ميثاق السلام" الذي وضع محددات عامة تحصر إدارة الدولة بين النخب التقليدية و"أبناء الذوات"، واستبعاد الشعب وقُواه الجديدة منها.
ثانيًا: مشروع الأطراف المعنية
"الأطراف المعنية في اليمن" هو عنوان كُتيّب أصدره الشهيد محمد أحمد نعمان عام 1965، والكتاب هو رد على مساعي القوى التقليدية في صنعاء للانفراد بالسلطة، وانتقد "النعمان الابن" ما أسمّاه "التسلُّط الزيدي" على "أبناء الشوافع" تحت عباءة الجمهورية، واتّهم قادة القبائل بأنهم يريدون استبدال "الهاشمية الإمامية" بـ"القحطانية"، داعيًا لتوسيع السلطة لتشمل كافة الأطراف المعنية في كافة المناطق اليمنية.
يصف د. أبو بكر السقاف فكرة "الأطراف المعنية" بأنها تزييف للصراع الاجتماعي في اليمن، وتقترح معالجة للصراع في صيغة المجلس الجمهوري الذي يُراعَى فيه تمثيل "الأطراف المعنية"، والتناوب على عرش الجمهورية، وهي أفضل صيغة ممكنة ومقبولة لدى الأطراف، ما يعني في الواقع التأسيس لسلطنة جديدة على أنقاض الإمامة.
وهكذا شكّلت فكرة "الأطراف المعنية" الصيغة المُحببة للنّخب التقليدية في مختلف مناطق اليمن، فمن خلالها تتقاسم كعكعة السلطة والثروة، وتستبعد المجتمع والناس.
ثالثًا: مشروع الذَّات اليمنية
قام هذا المشروع على أوهام النّزعة القُطرية اليمنية في مواجهة البُعد القومي للثورة، ومن أبزر دُعاة هذا المشروع، الثلاثي التقليدي: الزبيري والنعمان والإرياني. وقد دعا هذا التيار إلى الوقوف ضد التدخلات الخارجية في الشأن اليمني، وترك اليمنيين يقررون مصيرهم، ظاهريًّا تبدو هذه الدّعوة مُحِقَّة ومنطقية، وفي الواقع لم تكن هذه الدّعوة سوى غطاء أيديولوجي لمواجهة الدور المصري المُساند لثورة 26 سبتمبر.
وما يؤكّد صحة هذا الاستنتاج أنّ هذا التيار قد قام بالتنسيق السياسي مع السعودية، وممارسة الضغوط على حكومة الثورة وعلى المصريين، وصولًا إلى خروج القوات المصرية من اليمن، وتهيئة المناخ لعقد صفقة سياسية شوهاء مع الجانب الملكي في اتفاقية جدة عام 1970، وهي الاتفاقية التي جمعت بقايا المَلكيين والجمهوريين المحافظين في صيغة سلّطوية هجينة، هي "الجملوكية"!
في المجمل: تكشف هذه المشاريع الصغيرة عن زيف ادّعاءات النّخب التقليدية مناهضتَها للنظام الإمامي وانحيازها للنظام الجمهوري، فقد كان شغلها الشاغل هو وِراثة النظام البائد دون السماح بإحداث تغيير فعلي في واقع الناس. إنها صِيغ سياسية تحايُلية مُضادّة للهُوية الوطنية بمضامينها الديمقراطية الحداثية؛ لأنّها تقوم على استبدال متسلّط قديم بمتسلّط جديد، حاكاها ببراعة أخّاذة الأديب المصري يوسف إدريس في مسرحية "الفرافير"، وقد ظلّت هذه "الفرافير" السياسية تُكرر نفسها بأشكال مختلفة طوال 60 عامًا من عمر الثورة المجيدة.