على أرضٍ مقفرة وفي وادٍ معزول في ريف تعز الغربي، وتحديدًا قرية الأشروح يعمل الشاب وسام حمادي على تجميع مادة النَّيْس (الرمل)، من سائلة القرية أو من باطن الأرض القريبة من الأودية، بعد عملية حفر شاقة بآلة تقليدية يُطلق عليها في المنطقة "الحِجْنَة"، ويقوم بتجميع المستخرج على شكل أكوام كبيرة، ثم يقوم بغربلتها بواسطة مناخل كبيرة (شباك معدنية بفتحات ضيقة، وعوارض معدنية، تثبت على قوائم خشبية أو حديدية) لتصفيتها من الشوائب والأحجار الكبيرة وإنزالها ناعمة، ثم يقوم بعرضها للبيع للراغبين في استخدامها في عملية الإنشاءات المتعددة.
يقول وسام لـ"خيوط": "عرفنا مهنة استخراج وغربلة النيس في المنطقة وبيعه للراغبين منذ وقت طويل، واتُّخذت من قبل كثيرين كمهنة تدر دخولًا بسيطة تساعد العاملين فيها وأسرهم على البقاء على قيد الحياة"، ومتوسط عمله اليومي العضلي الشاق يتجاوز الساعات العشر في النهار، في ظروف صعبة.
صعوبات وأخطار
بسبب تفشي البطالة والظروف التي أفرزتها سنوات الحرب، يتخذ العاملون هذه المهنة سبيلًا للحصول على دخل متوسطه 8 آلاف ريال؛ أي أقل من 6 دولارات، حسب سعر الصرف في تلك المنطقة، عن كل حمولة سيارة مقدارها مئة سطل من النيس الناعم.
أنس صابر (17 عامًا)، أحد العاملين في ذات المهنة، يقول لـ"خيوط": "بدأت أعمل في النيس منذ كنت طالبًا في الصف السابع بعد أن واجهت صعوبة بالغة في إكمال تعليمي لأسباب مختلفة ومنها فقر أسرتي، حيث كان هذا العمل ملاذًا لجأت إليه كمصدر يُدرّ عليّ وعلى أسرتي مالًا لمجابهة ظروف المعيشة، رغم التبعات القاسية لهذه المهنة".
أما الصعوبات التي يواجهها العاملون في هذه المهنة، فيختصرها صابر في: العمل تحت حرارة شمس ملتهبة، وتأخر بيع النيس على الزبائن، لكون المنطقة التي يعملون بها بعيدة نوعًا ما عن مشاريع البناء الدائمة، إلى جانب أضرار السيول، مما يخلق الكثير من المعوقات أمامهم.
(توهيب) شاب آخر يعمل في المهنة ذاتها، يقول لـ"خيوط": "العمل في النيس مرهق، لكنه يساعد الكثير من سكان المنطقة في تيسير جزء من حياتهم المعيشية الصعبة، خاصة أنّ الجميع يعمل بها (أطفالًا وشبانًا ورجالًا وشيوخًا)، وقد صارت أشبه بعادة يزاولها الجميع، فالشاب في بداية حياته ينخرط فيها، ويبذل جهودًا كبيرة لتجاوز حالة الفقر الصعبة".
من أجل حلم صغير
الطفل غيث (13 عامًا)، يقول لـ"خيوط": "طوال صغري لم أكن أعرف شيئًا اسمه مال أضعه في جيب ثوبي، كون أسرتي فقيرة بالكاد تحصل على لقمتها، لهذا توجهت للعمل الشاق حتى أحصل على نقود لأشتري بها جهاز تليفون وأي أشياء أخرى أرغب بها دون عجز".
سالم طفل يعمل في المهنة ذاتها، وظل يحلم بأن يحصل على جهاز تليفون لكي يواكب العصر كما يقول، فكان العمل في النيس خياره الوحيد لتحقيق هذا الحلم.
يضيف سالم، في حديثه لـ"خيوط": "نعم العمل في النيس شاق، لكن ليس صعبًا أن تكتسب الخبرة من التعامل مع الزبائن في كيفية بيع (المحصول) لمن يرغب من أرباب العمل والمقاولين في البناء بغض النظر عن وجود شخص بجانبك يعلمك أم لا".
تعد عمالة الأطفال من أخطر الأعمال التي تهدّد حياة هذه الشريحة ومستقبلها بحسب منظمة اليونيسف، وخلال سنوات الحرب نمت عمالة الأطفال بشكل كبير في اليمن، وأنتجت حالة من الخلل مع غياب الحلول، حيث يمثّل العمل في النيس للأطفال في هذه القرية مشكلة حقيقية، خصوصًا أنهم يتسلحون بمقولة: "الأعمال الشاقة تجعل منك رجلًا" التي يُروج لها في أوساطهم.
يفند أستاذ علم الاجتماع أمين دحلان، خطورة عمالة الأطفال، قائلًا لـ"خيوط": "تختلف الأضرار النفسية والعقلية عند الطفل بسبب تحمله مسؤولية أكبر من طاقته، حيث إنّ الأعمال الشاقة تعطي نتائج سلبية على حياة الطفل، على العكس ممّا إذا كان العمل الذي يشغله يتناسب مع عمره، فهذا على الأقل، لا يحمله أعباء العمل الشاق، وإن وُجدت مخاطر أيضًا، لكنها تكون بنسبة ضعيفة".
"الحياة باتت قاسية ومرهقة، والاستسلام لها هو الضعف بعينه؛ لهذا يجب أن نكافح من أجل سد رمق أطفالنا، ولم يكن أمامي من خيار سوى هذا العمل الشاق من أجل أن نبقى قيد على الحياة".
مجرى غير آمن
السيول واحدة من الكوارث التي يعاني منها العاملون في السائلة، التي كثيرًا ما تتعرض لخطر المياه المتدفقة في المجرى بفعل الأمطار الموسمية والمباغتة، مما يؤدي إلى جرف الأكوام الناعمة التي كانوا قد قاموا بتجهيزها للبيع.
بديع سيف، واحد من المتضررين، يقول لـ"خيوط": "في موسم السيول نعاني بشدة، ونخسر الكثير من المال الذي كان قد حُسب من المكاسب المتوقعة من البيع، بسبب جرف السيول للأكوام التي بذلنا فيها جهودًا لأيام وأحيانًا أسابيع".
يضيف سيف: "في أحيان كثيرة نقوم بنقل أكوام النيس من السائلة إلى أمكنة نظنها آمنة أو بعيدة، لا تصل إليها السيول، لكن يصعب علينا في كثير من الأوقات، نقل أكثر من ألف أو ألفَي سطل منها، إلى جانب سقوط المطر الفجائي والغزير في معظم الأحيان، ما يفقدنا القدرة على مجابهة الأخطار".
منتصر مهيب يقول: "في هذا العام، وبسبب السيول المتدفقة، خسرت أكثر من ألف سطل من النيس الناعم، الذي اشتغلته في أسبوعين، حيث فوجئت بنزول سيول جارفة أتت عليه وعلى أكوام السائلة كلها"، وقدَّر منتصر الشحنة الواحدة من النيس في السيارة بمئة سطل، ويصل سعر الشحنة إلى 8 آلاف ريال.
بدلًا عن الهندسة
فتحت مهنة النيس باب العيش لأرباب الأسر في المنطقة، حيث غدا مصدرًا أساسيًّا لمن جارت عليه الظروف وقذفت به إلى مربع البطالة، فاتخذوا هذه المهنة الشاقة وسيلة لمقاومة الجوع.
طه مجيب، أب لأربعة أطفال وواحد من الذين انخرطوا في بيع النيس بدلًا عن مهنته مهندسًا بعد أن سُدّت أمامه كل الطرق، يقول لـ"خيوط": "الحياة باتت قاسية ومرهقة، والاستسلام لها هو الضعف بعينه، لهذا يجب أن نكافح من أجل سد رمق أطفالنا، ولم يكن أمامي من خيار سوى هذا العمل الشاق من أجل أن نبقى قيد على الحياة".
مضيفًا: "الحرب آفة قضت على حياة الكثير من الناس وجعلت من المواطن سلعة سهلة للاستهلاك والاستغلال بل والعمل في أجور متدنية لا يقبل بها طفل، وأمر كهذا دمر حياة الناس وجعلهم فريسة سهلة أمام هذا الوضع المعيشي المتردي، وما تلاحظه أمامك أن الجميع يمتهن العمل في النيس من أجل لقمة العيش التي بات الحصول عليها حلمًا صعبًا ومرهقًا، ويتحقق بعد كفاح وجهد مريرين".