"فقدت ساقي، وتغيرت حياتي، وانتهت أحلامي!"، بهذه الكلمات يلخص المواطن سليمان علي، من سكان مدينة مأرب (شرقي اليمن) مأساته مع الألغام التي حوّلت حياته وأسرته إلى كابوس.
يقول سليمان (38 عامًا)، لـ"خيوط": "في أحد الأيام قبل نحو عامين، وأثناء عملي في الحقل، انفجر لغم، وأصبت بجروح خطيرة في الساقين واليدين، تم نقلي إلى المستشفى وإنقاذ حياتي، لكنني فقدت ساقي اليسرى ويدي اليمنى".
قصص ضحايا للألغام لا تتوقف في اليمن منذ سنوات بفعل الحرب والصراع في البلاد، والتي ساهمت في توسيع حقول الألغام وجعلت كلَّ من يعيش في المناطق التي كانت ساحة مواجهات طاحنة طوال السنوات التسع الماضية، كمحافظة مأرب، في حالة قلق من الألغام، وتسبّبت في إنهاء حياتهم وسلبهم حقَّ الحركة والقول والعيش والحلم.
تنهد سليمان وأخرج حزنه الذي أصبح يخالط ملامح وجه، متابعًا حديثه بالقول: "بعد خروجي من المستشفى، وجدت أنّ حياتي قد تغيرت بشكل كبير. لم أعد قادرًا على العمل في الحقل، ولم أعد قادرًا على القيام بالأنشطة اليومية المحدودة، أبسطها ربط حذائي، أو حمل طفلي الرضيع، وأشعر بالحزن والغضب والإحباط بسبب ما حدث".
ويشهد اليمن حاليًّا انخفاضًا في العمليات العسكرية منذ بدء سريان الهدنة التي ترعاها الأمم المتحدة مطلع أبريل/ نيسان من العام الماضي 2022، لكن الألغام والذخائر المتفجرة مستمرة في حصد أرواح المدنيّين.
يعاني اليمن من كارثة حقيقية نتيجة تلوثِ كثيرٍ من المناطق المأهولة بالسكان والمناطق الزراعية، بالألغام والذخائر المتفجرة والعبوات والقذائف من مخلفات الحرب.
وتسبّبت الحرب وسلوك أطرافها بخلق مجتمع جديد من ذوي الإعاقة في اليمن، بحسب دراسة بحثية قامت بها منظمة مواطنة لحقوق الإنسان، مع تفاقم معاناة مجتمع ذوي الإعاقة، مع تأثر الكثير من الخدمات التي كانت متاحة قبل الحرب.
زراعة عشوائية وضحايا بالعشرات
تركت الحرب آثارها البالغة في مفاقمة معاناة اليمنيّين، مخلفةً ملايين الجوعى والمرضى ومبتوري الأطراف من ذوي الإعاقة، باعتبارهم من أكثر الفئات تضررًا من هذا النزاع.
وتمثّل الألغام والمتفجرات تهديدًا مباشرًا على حياة المدنيين، وهو ما يعيشه المجتمع اليمني يوميًّا جراء تزايد خطر الألغام بأشكالها المختلفة، حيث تسبّبت بمقتل وإصابة الآلاف من المدنيين، كان لمأرب نصيب كبير من الضحايا وهذه المآسي.
في السياق، يقول المدير التنفيذي للمرصد اليمني للألغام فارس الحميري، لـ"خيوط"، إنّ الألغام تسبّبت بخسائر بشرية بشكل شبه يومي في صفوف المدنيين، خاصة في المناطق التي تعاني من تلوث عالٍ، كمحافظة الحديدة الساحلية على البحر الأحمر، ومناطق أخرى في محافظات تعز والبيضاء ومأرب وشبوة والجوف وحجّة.
خلال الفترة منذ منتصف العام 2019، وحتى مطلع أبريل/ نيسان 2023، وثّق المرصد اليمني للألغام سقوط 1884 ضحية من المدنيين بسبب الألغام والأجسام الحربية من مخلفات الحرب في عدد من محافظات اليمن، منهم 221 طفلًا و41 امرأة، فيما بلغ عدد الجرحى 1109؛ منهم 433 طفلًا و81 امرأة، والعشرات من هؤلاء المصابين يعانون من إعاقات مستديمة.
ينوه مدير المرصد اليمني للألغام، أنّ اليمن عضو في معاهدة أوتاوا، التي تحظر الألغام الأرضية التي تستهدف الأفراد منذ مارس/ آذار 1999، إلّا أنّ هذه الاتفاقية لم يتم العمل بها أو احترامها، ولذلك هناك مناطق واسعة في البلاد تطفو على حقول عشوائية من الألغام بكافة أشكالها وأنواعها.
معاناة شاقة مع الإعاقة
يعاني اليمن من كارثة حقيقية نتيجة تلوث كثيرٍ من المناطق المأهولة بالسكان والمناطق الزراعية، بالألغام والذخائر المتفجرة والعبوات والقذائف من مخلفات الحرب.
ومنذ العام 2018، تسبّبت الألغام الأرضية والعبوات الناسفة والذخائر غير المنفجرة -بحسب منظمة مواطنة لحقوق الإنسان- في مقتل وإصابة 1.424 مدنيًّا على الأقل، معظمهم من الأطفال. ونجم عن الحرب نزوح أكثر من 4 ملايين شخص؛ نحو 73% منهم أطفال ونساء.
كما تسبّب النزاع المسلح بإعاقة نحو 6000 شخص من المدنيّين على الأقل؛ أغلبهم فقدَ أحد أطرافه بسبب انفجار أو لغم أو طلقة نارية، ويرجح أن يكون الرقم الفعلي أكبر من ذلك بكثير، في حين يعتبر العائدون من النزوح هم مِن بين أكثر الفئات الاجتماعية عرضة لإصابات مسببة للإعاقة، نتيجة استمرار عوامل الخطر في بيئاتهم الأصلية التي خاطروا بالعودة إليها.
يجب على المجتمع الدولي ودول الإقليم الضغط على جماعة "الحوثيين" التي أغرقت كثيرًا من المناطق في اليمن بالألغام، لتسليم خرائط واضحة عن أماكن زراعتها، ونوعيتها؛ لتجنب وقوع المزيد من الضحايا.
يقول أسامة القصيبي، مدير مشروع نزع الألغام في اليمن (مسام)، لـ"خيوط"، إنّ الفرَق الميدانية نزعت منذ انطلاق المشروع في منتصف العام 2018 وحتى مايو/ أيار الماضي 2023، ما يقارب 398.110 ألغام وذخائر غير منفجرة وعبوة ناسفة.
ويعدد القصيبي أهم الصعوبات والتحديات في التعامل مع الألغام، مثل: الزراعة العشوائية لها، وعدم وجود خرائط للألغام، إضافة إلى سيول الأمطار التي تجرفها من مناطق سيطرة مزروعة إلى مناطق تم تأمينها.
آثار جسيمة وجهود غير كافية
وفق الدراسة البحثية لمنظمة مواطنة، والتي عملت على تقييم أثر الإعاقة وصعوبات الوصول والاحتياجات من واقع حالات ميدانية موثقة؛ يعاني الأشخاص ذوو الإعاقة من آثارٍ نفسية سيئة، تتراوح بين الشعور بالصدمة عند حدوث الإعاقة، وبين الوقوع فريسة للاكتئاب والإحباط، وربما الشعور القاتل بالعجز، وتتفاوت الآثار النفسية نسبيًّا تبعًا لنوع الإعاقة؛ فهناك أشخاص بُترت أطرافهم السفلية وفقدوا القدرة الكلية على الحركة، أو أصيبوا بإعاقات مزدوجة، فضلًا عن الآثار الاجتماعية، إذ تمثل الإعاقة شاهدًا حيًّا على معاناة المجتمع المحيط الذي يضمّ أشخاصًا ذوي إعاقة، خاصة في المناطق الريفية.
الناشط ردمان علي، المختص في عملية رصد ضحايا الألغام، يتحدث لـ"خيوط"، بأنّ الأطراف في اليمن عملت على زرع الألغام في بلد منهك، كان بسبب الصراعات على الثروة والسلطة، ومن أجل إعاقة تقدم الطرف الآخر في الميدان، مضيفًا أنّه يجب على المجتمع الدولي ودول الإقليم الضغط على جماعة "الحوثيين" التي أغرقت كثيرًا من المناطق في اليمن بالألغام، لتسليم خرائط واضحة عن أماكن زراعتها، ونوعيتها؛ لتجنب وقوع المزيد من الضحايا.
ويؤكّد ردمان على ضرورة قيام الجهات المختصة بتدريب كوادر محلية مؤهلة للتعامل مع هذه الألغام كي يتم نزعها في فترة زمنية قصيرة، إضافة إلى توفير أجهزة حديثة لدى الجهات المعنية للكشف عن هذه العبوات والمتفجرات.
ويرى أنّ الجهود الإقليمية والدولية في الوقت الراهن غير كافية للتخلص من الألغام خلال فترة وجيزة، في حين لا تزال الجهود الحكومية ضعيفة بسبب هشاشة مؤسساتها.
الجدير بالذكر، أنّ اليمن عانى من ظاهرة زراعة الألغام منذ تفجر الصراعات السياسية والعسكرية في ستينيات القرن الماضي، مرورًا بحروب المناطق الوسطى وأحداث 1994 وما بعدها. في مطلع القرن الحالي، كان اليمن أول بلد عربي ينهي عملية تحطيم مخزونه من الألغام المضادّة للأفراد.