في الـ25 من نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، تُوفِّي بطل اللعبة الشعبية الأولى في العالم، دييجو أرماندو ماردونا، عن عمر ناهز الستين عامًا، قضى معظمه في حضور طاغٍ وسط الملاعب وقلوب محبيه. مع هذا الحدث، وبحزن، تفاعل العالم أجمع، بمن فيهم اليمنيون.
"خيوط" رصدت بعض المرثيات لتوثيق ردة فعل المجتمع اليمني إزاء وفاة أسطورة كرة القدم، بالإضافة إلى استطلاع آراء لمحاولة التعرف على مشاعر اليمنين تجاه هذا الأسطورة.
ماردونا؛ الاسم الذي ملأ الدنيا ضجيجًا وجدلاً، وانتشر بشكل واسع، ومغاير عن كل النجوم، يقول عنه محمد الدبعي، مهندس يمني: "كنت أعيش طفولتي بالقرية، وكان عمري وقتها يقارب ١٣ سنة، ولا أعرف اسم أي نجم، أو فنان، أو مشهور في العالم، أو حتى رئيس دولة أخرى، لكنني أعرف ماردونا".
في لحظة إعلان رحيل النجم الأرجنتيني، انضبط إيقاع كل المواقع على نغمة واحدة؛ الحديث عن نجم مونديال المكسيك ١٩٨٦، وبقي الكل يتغزل، ويمدح نجم الساحرة المستديرة، وما فعله في ذلك المونديال تحديدًا، باعتباره جزءًا من وجدانهم، لكن ثمة مرثية، مختلفة تمامًا، تلك التي نشرها الكاتب إياد دماج في صفحته على فيسبوك:
"الخيال الذي صيّر الملعب امتدادًا لجسده الجامح، والجسد الجامح الذي يتدفق مثل الأبدية. يهطل ماطرًا في ظهيرة ملعب مكسيكي، تتراقص أمواج المدرجات على إيقاع تانجو يتصاعد شاهقًا فوق تلال الأنديز، ويسيل رقراقًا داخل شوارع ترابية في صنعاء أو أزقة فقيرة في بلفاست. مرة يحتشد بيتنا في مساء بعيد، كان حينها مارادونا في الناصية المقابلة على أرضية الأولمبيكو في روما، وحدي بمحاذاته، أهمس بقلب يخفق خائفًا: حلق عاليًا دييغو، حلق فوق المشنقة التي تتربص بالخسارة. لم تكن دموعه وحدها من تسيل على شاشة التلفاز، كنت أنتحب مقهورًا في ليل بلا نهاية، أعلى ارتفاعًا من نشيد "نيرودا الشامل" وأكثر حلكة من نفق "ارنستو ساباتو". يسافر أبعد من دخان "كاسترو" ويصنع من كل مدينة "ماكوندو" سرمدية.
هو في نابولي يسوع المسيح،
وفي مخيلة المناضل جيفارا،
وفي السينما نصف آلهة،
وفي شوارع بيونس أيرس هو الشمس التي تتوسط راية الأرجنتين.
وفي قلبي هو أعظم الأبطال وأكثرهم فتوة ولذة".
الكثير من الأشخاص مع بداية تشكل ذاكرتهم، سمعوا اسم ماردونا، وكلما كبروا، وجدوا هذا الاسم يلمع أمامهم أكثر، ولم يختفِ للحظة. الناشطة، نورا السقاف، تعبر عن تأثرها الكبير بموت الأيقونة الذي لم تلحق حقبته، قائلة: "في طفولتي اكتسبت حب ماردونا من أبي الذي كان يحبه جدًّا، وبقي هذا الحب يكبر معي، وموته أحزنني جدًّا"، وتضيف أن هذا الموت، أثار فيها الكثير من الحنين والذكريات، لتلك الأيام، التي كانت تتحدث فيها مع أبيها بكل شغف عن مجد النجم الأرجنتيني.
بقي صوته مسموعًا، رغم انتقاداته الحادة التي توصف بعض الأحيان بالطفولية، لكن اتكاءه على تاريخه الكبير، جعله مدللًا؛ كأن كرة القدم تدين له بشيء ما
يبقى الحزن الذي رافق الجميع برحيل الأسطورة، غير مستغرب على الإطلاق، وذلك لأن ما صنعه ماردونا في مشاعر الناس ليس بالقليل، يقول مشجع يمني: "لم أحب شخصًا، دون أن تربطني به أي علاقة مباشرة، أو غير مباشرة، كما أحببت ماردونا".
في العصر الحديث، ومع التطور التكنولوجي الكبير، أصبح العالم أشبه بقرية صغيرة، ولأن اليمنيين جزء من هذا العالم، فإنهم يتأثرون بكل ما يجري فيه، ويتفاعلون معه. هشام الشماري، طالب يمني يقيم في السودان، يعبر عن حزنه قائلًا: "الحزن، والفرح لما يحدث بالعالم، يشعرني بأنني متصل بما يجري في هذه الحياة"، ويضيف: "لدي اهتمامات كثيرة، وأرتبط بها عاطفيًّا، مثلًا: قبل فترة قصيرة، حزنت كثيرًا بموت الكاتب كارلوس زافون؛ لأنني كنت أتوقع حصوله على نوبل، والآن: خبر موت ماردونا، أحزنني جدًّا؛ لأنني أعشقه كنجم، وكشخص مرح".
للأسطورة الأرجنتينية جانب شخصي مثير للجدل، في هذا السياق، يعلق بلال أحمد، قائلًا: "إنه أول ظاهرة كروية، ونجوميته الكبيرة التي وصل إليها، جعلته حاضرًا على الدوام، ولم يستطع العالم تجاوز تمرده، بل بقي صوته مسموعًا، رغم انتقاداته الحادة التي توصف بعض الأحيان بالطفولية، لكن اتكاءه على تاريخه الكبير، جعله مدللًا؛ كأن كرة القدم تدين له بشيء ما".
دييجو لم يكن مجرد لاعب كرة قدم، محصور بما يقوم به في الملعب فقط، بل "ساحر حتى خارج الملعب، بتصريحاته، ومواقفه"، هكذا وصفه الصحفي صامد السامعي. بالإضافة إلى ذلك، بقي ماردونا طيلة حياته، يناهض الفارق الطبقي، ويدافع عن حقوق الفقراء، لذا يعتبر أسطورة البسطاء، ومعشوقهم الدائم. الكاتب الصحفي، سامي غالب، تطرق إلى هذا الجانب في مرثيته، واصفًا إياه ببطل مهمّشِي العالم، ورمز العالم الثالث في مواجهة الإمبراطوريات، واختتم مقالته يإيحاء حزين، قائلًا: "بطلنا في عالم ما بعد الحداثة مات، البطل الذي استقر فينا غادر".
ويجدر بالذكر أن المرثيات التي كُتبت، كانت متحررة بشكل مطلق، ولا تقتضيها علاقة من نوع ما، والدافع الوحيد فيها، هي القيمة التي مثلها مارادونا في شخصيته، وقد تجلى ذلك فيما ذهب إليه الكاتب مصطفى راجح، قائلًا: "الانفلات من العادي والمألوف، الغبطة التي لونت أحاسيسنا بالحرية، الحلم بنموذج يتجاوز خطوط الطول والعرض، الحركة التي تكسر الثابت والمرسوم، النداء القادم من الأعماق السحيقة داخل كل إنسان".
يسعى الإنسان، مستخدمًا كل السبل، ليحصل على شيء واحد؛ الشعور بالسعادة، ولأن كرة القدم تمنحهم القليل من هذا الشعور، ينجذب لها الكثير، وتصنع هذه الكيمياء بين الجمهور والنجوم. أيضًا كرة القدم ليست مجرد لعبة ممتعة، يعشقها المتابعون فحسب، بل عامل يساعد على التعايش، ويجعل العالم أجمل، لذا يتغزل الجميع بماردونا، دون أية اعتبارات أخرى، وهناك نماذج لا حصر لها، تدعم هذه الفكرة، مثلًا عندما أصبح اسم اللاعب المصري محمد صلاح، أغنية لجمهور نادي ليفربول الإنجليزي، دون التفكير في اختلافات، كالدين والقومية.