ليس في عنوان هذه التناولة أي تعبير مجازي، أو مقاربة ضدية بين العبارات والكلمات والألفاظ، بقدر ما هو تجسيد واقعي لحالنا في المنطقة العربية.
إن حقيقة النظام العربي المهزوم من الداخل هو أصدق وأعمق صورة بلاغية من أي قدرة لغوية على تقديم تصوير أبلغ مما هو قائم في الواقع، واقع يتساوى مع البلاغة والبيان في اللغة. حكامٌ طارئون على معنى الكرامة، وعلى معنى الأخلاق والقيم الإنسانية، وهي مأساة علاقتنا بهم. حكامٌ فرضوا أنفسهم على الشعوب بالحديد والنار، وبالاستقواء بالأجنبي، ضمن معادلة "الاستبداد التاريخي" الذي يطوقنا بالقمع منذ أكثر من ستة عقود، من بعد قيام الدولة الوطنية والقومية "الاستقلالية"، حتى لحظة التصهين الكامل للنظام السياسي وتبعيته للغرب الاستعماري وللكيان الصهيوني.
نعم، هنا أمة عربية، وشعوب عربية، ولكن ليس هناك نظام سياسي عربي يعبّر عن طموحات وتطلعات هذه الشعوب، بل أنظمة تابعة، وأضيف إليها لاحقًا متصهينة، تعمل وتتحرك ضد إرادة ومصالح شعوبها، وهذا ما يتحقق على الأرض مع هذه الأنظمة التي ارتهنت ورهنت إرادة ومصالح شعوبها للغرب الاستعماري وللكيان الصهيوني.
لقد وضعت دولة وحكومة جنوب إفريقيا "العربية"، النظامَ السياسي المسمى عربيًّا و"الجامعة العبرية" في مأزق أزمتهما الأخلاقية والإنسانية قبل أزمتهما السياسية والوطنية والقومية والإنسانية.
إن جنوب إفريقيا هي اليومَ من جعلت "الأرض تتكلم باللسان العربي" بلهجة فلسطينية مقاومة، فجنوب إفريقيا "العربية" هي من تذكّر"الجامعة العربية" بأصول وقواعد اللغة السياسية التحررية العربية، وببحور الشعر العربي المقاوم، بعد أن أنساها تصهيُنها الأبجديةَ العربية. جنوب إفريقيا بمواقفها هي من تعطي للكلمات العربية معناها التحرري والمقاوم، وهنا تكمن أزمة النظام، والجامعة، المحسوبتان على العرب والعربية زورًا وبهتانًا؛ تكمن أزمتهما الأخلاقية والإنسانية، حين تشاهد الإبادة الجماعية، والحرب ضد الإنسانية، ولا تخرج من قمقم صمتها لتقول كلمة "لا"، ولتعلن على الأقل قطع علاقاتها الدبلوماسية والسياسية بالكيان الصهيوني، بعد أن تعذر عليهم استخدام العديد من أوراق الضغط التي بيدها، والتي كان بإمكانها من خلالها إيقاف حرب الإبادة خلال ساعات!
لقد تجرّأ "نتنياهو" وقالها في بداية الحرب: "لا تحدثوني عن الإنسانية، ولا عن القوانين الدولية"، وإنه "يجب قتل الفلسطينيين حيثما وُجدوا". وقالها وزير حرب الكيان الصهيوني من على شاشة التلفزيون: "سنقطع الماء، والدواء، والكهرباء، والغذاء، والوقود عن الفلسطينيين"، وإنهم "حيوانات بشرية". وهي بحد ذاتها إعلان صريح بحرب الإبادة، وهي واحدة من مفردات ومعطيات الدعوة التي استندت عليها جنوب إفريقيا في رفعها لقضية حرب الإبادة، أمام "محكمة العدل الدولية"، ولم تقل "الجامعة العبرية" والنظام العربي المتصهين كلمةَ حق واحدة ضد الكيان الصهيوني، باستثناء الجولات الدبلوماسية على بلدان العالم لاستجداء موقف، والموقف تحت أيديهم، وطوع بنان تصرفهم ولكنهم ليسوا مع هذا الموال ولا مع هذا الخيار السياسي العربي القومي المقاوم.
جنوب إفريقيا صارت مصدر إلهام للقيم الأخلاقية وللمعنى الإنساني، بقدر ما صار النظام العربي المتصهين و"الجامعة العبرية" مصدر خزي وعار على جميع الشعوب العربية.
إن جنوب إفريقيا هي اليوم من تتكلم باللسان العربي، بعد أن نسيت الجامعة والأنظمة العربية حروف الأبجدية.
تشيلي والمكسيك ترفعان دعاوى قضائية أمام "محكمة الجنايات الدولية" ضد رئيس الكيان الصهيوني، وتضعه في زاوية حرجة وهو يحضر قمة "دافوس" الصهيونية، في الوقت الذي لم تتحرك فيه دولة عربية في هذا الاتجاه، على الأقل انتصارًا للكرامة الشخصية لهم بصفتهم حكامًا؛ لأنّهم في الأصل بدون كرامة وطنية، وقومية، ومن يفقد كرامته على هذا المستوى الوطني والقومي لا أعتقد أن بإمكانه أن يحتفظ بكرامته الشخصية.
إن جنوب إفريقيا صارت مصدر إلهام للقيم الأخلاقية وللمعنى الإنساني، بقدر ما صار النظام العربي المتصهين و"الجامعة العبرية" مصدر خزي وعار على جميع الشعوب العربية.
لقد حملت جنوب إفريقيا "العربية" على كاهلها وحدها، وبدعم سياسي من دولة الجزائر، همَّ الدفاع عن أقدس قضية عربية وإنسانية، وهي القضية الفلسطينية التي تعيش حالة مركبة من حروب الإبادة، ومن الحرب ضد الإنسانية، ومن حرب التطهير العِرقي والتهجير القسري، والتجويع موتًا، الذي يتم ويتحقق أمام عدسات التلفزيون، وبالصوت والصورة.
الجثث تغطي الشوارع وتنهشها الكلاب والقطط، ومع ذلك لا ترى الإدارة الأمريكية أنّ هناك ما يدل على إبادة جماعية، ولا ترى الأنظمة العربية ما يستحق الضغط لإيقاف حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني! فـ"الدم في الشوارع"؛ كما قالها "بابلو نيرودا".
لم تتبنَّ جنوب إفريقيا الدفاع عن الدم الفلسطيني، وتقف ضد حرب الإبادة الجماعية سياسيًّا، بل أعدت نفسها لمواجهة قانونية رفيعة صعبة في صورة محامي دفاع عن القضية الفلسطينية على أعلى مستوى من المهنية القانونية، ومن الوعي والفهم والإيمان العميق بعدالة القضية الفلسطينية، تمثلها محامو الدفاع بصورة أذهلت العالم برصانتها وتفاصيلها القانونية الواقعية والعميقة، التي استوعبت الدعوة، في أكثر من أربع وثمانين صفحة، والكثير من ملفات موثقة، بالصور (الفيديوهات)، المرفقة أو الملحقة بخطاب الدعوة القانونية، تقدمت بها وكأنها تدافع عن نفسها، عن شعبها، كما كانوا يدافعون بالسلاح قبل استقلالهم ضدّ نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا الاستعماري. لقد تفرغت دولة وحكومة جنوب إفريقيا "العربية" لمهمة إدانة الكيان الصهيوني في حرب الإبادة، التي يقوم بها ضد الشعب الفلسطيني.
فيما تفرغ النظام العربي و"الجامعة العبرية" للفراغ، تفرغوا لمشاهدة المحاكمة، وكأنهم أمام مسرحية فنية لا تعنيهم، وبقيت جنوب إفريقيا وحدها تتلقى سهام الحرب السياسية والإعلامية، بل والتجريح العنصري من كل دول الغرب الاستعماري ومن الكيان الصهيوني.
إنّ المحاكمة بحد ذاتها عمل جبار فوق استثنائي، فقد وضعت وجرجرت الكيان الصهيوني إلى قفص الاتهام، بصرف النظر عن نتائج المحاكمة وقرارها النهائي.
كان قادة جنوب إفريقيا يدركون مخاطر وتحديات مثل هذه الخطوة القانونية والسياسية عليهم، ولكنهم أصروا على رفعها؛ لأنّ إرادتهم وقرارهم بأيديهم، على عكس "الجامعة العبرية" والنظام العربي المتصهين؛ ولذلك قال رئيس دولة جنوب أفريقيا (سيريل رامافوزا): "بينما كان محامونا يدافعون عن قضيتنا في لاهاي –لاحِظوا قوله: "يدافعون عن قضيتنا"- لم أشعر بالفخر الذي أشعر به اليوم. الخطوة التي اتخذناها محفوفة بالمخاطر، فنحن بلد صغير ولدينا اقتصاد صغير وقد يهاجموننا، لكننا سنظل متمسكين بمبادئنا. ولن نكون أحرارًا حقًّا ما لم يتحرر الشعب الفلسطيني الحر أيضًا".
هكذا يتكلم الأحرار بلغة الحرية العربية والإفريقية والإنسانية، لغة القادة الكبار الذين يحترمون أنفسهم وشعوبهم ودولهم. وفي هذا السياق، أتذكر قول الرئيس البطل هواري بومدين: "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، وهو تعبير مجازي للمبالغة في الوقوف مع الحق الفلسطيني. أما حكامنا و"الجامعة العبرية" فلسان حالهم يقول: "نحن ضد الفلسطينيين مظلومين، ضدهم وهم يقاسون حرب الإبادة الجماعية"، بعد أن تحولت الجامعة من عربية إلى "عبرية"، ونسيت نصوص ميثاق الجامعة العربية حول الدفاع العربي المشترك.
إن جنوب إفريقيا التي تتحدث وتكتب وتتكلم بلسان الشعوب العربية في"محكمة العدل الدولية"، تواجه، بحالة سياسية وإعلامية، وأيديولوجية، عنصرية، خطابًا فيه تهديد ووعيد ضمني ومباشر؛ لموقفها في دعم القضية الفلسطينية، وهو الذي دفع المستشار الألماني المتطرف عنصريًّا ونازيًّا مع الكيان الصهيوني لتوجيه نقد شديد لجنوب إفريقيا؛ لوصفها ما يجري في فلسطين بأنه حرب إبادة جماعية، ولحملها راية الدفاع القضائية والقانونية عن القضية الفلسطينية أمام أرفع وأعلى محكمة دولية في العالم.
اليوم كل النقد السياسي والأيديولوجي والإعلامي من دول الغرب الاستعماري ومن الكيان الصهيوني، يُوجَّه ضد دولة وحكومة وشعب جنوب إفريقيا، وقد يصل إلى الحصار الاقتصادي ودون أي مساندة حقيقية ملموسة من النظام السياسي العربي المتصهين، ومن "الجامعة العبرية"، هذا إن لم تكن هناك دول عربية تشتغل سياسيًّا وإعلاميًّا ضد جنوب إفريقيا، بعد تصويرهم أن جنوب إفريقيا انحازت للإرهاب الفلسطيني في صورة حماس.
إنّ النظام السياسي العربي المتصهين و"الجامعة العبرية"، ليسوا خارج سياق الفعل الفلسطيني المقاوم، بل هم ضد المقاومة الفلسطينية التحررية على طول الخط. إنهم ليسوا متفرجين على حرب الإبادة الجماعية، بل بعضهم مشارك بالسلاح وبالمال وبالدعم السياسي والإعلامي، ونموذجه الصارخ دويلة الإمارات.
رئيس جنوب إفريقيا، العربيّ الهوى، والإنسانيّ الهُوية والموقف، تجرّأ علنًا ولأكثر من مرة، في اتهام الكيان الصهيوني بحرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، ولم يتجرأ رئيس عربي "مطبّع" مع الكيان الصهيوني، ليس لرفع دعوة قضائية مساندة ومؤازرة لجنوب إفريقيا، بل لم يتجرأ على منع تحليق الطيران الصهيوني فوق سمائه؛ (السعودية)، أو على قطع علاقاته الدبلوماسية والسياسية؛ كما هو مع البعض، أسوة بالعديد من دول أمريكا اللاتينية: بوليفيا، تشيلي، المكسيك، فنزويلا، كولومبيا،... إلخ، بل إن هؤلاء الحكام، المسمّين –زورًا- عربًا، لم يرسلوا وفودهم من السياسيين والقانونيين لمساعدة جنوب إفريقيا التي تقف وحيدة ومتهمة ومحاصرة سياسيًّا وإعلاميًّا.
إنّ النظام السياسي العربي المتصهين و"الجامعة العبرية"، ليسوا خارج سياق الفعل الفلسطيني المقاوم، بل هم ضد المقاومة الفلسطينية التحررية على طول الخط. إنهم ليسوا متفرجين على حرب الإبادة الجماعية، بل بعضهم مشارك بالسلاح وبالمال وبالدعم السياسي والإعلامي، ونموذجه الصارخ دويلة الإمارات.
لم تضع دولة جنوب إفريقيا العربية، "الجامعةَ العبرية" في مأزق سياسي وأخلاقي، بل وضعت كل النظام العالمي أمام أزمته القانونية، وأمام عجزه عن الدفاع عن قراراته، وسقوطه في امتحان الإرادة الأخلاقية والإنسانية.
المفارقة التاريخية هنا، أنّ محكمة العدل الدولية شُكِّلت لإنصاف اليهود من "النازية الألمانية" ومن مجازر تهجير الدول الأوروبية ضد اليهود في العالم، أي ضد الاستعمار الغربي الإمبريالي، ليجد الكيان الصهيوني نفسه اليوم أمام المحكمة ذاتها، بعد أن وضعتها دولة جنوب إفريقيا العربية في قفص الاتهام بجريمة حرب الإبادة الجماعية، إنه مكر التاريخ، عدله وإنصافه. جنوب إفريقيا تخوض المعركة القضائية والعدلية نيابة عن كل النظام السياسي العربي الذي استقال عن دوره السياسي والقومي، بعد أن تحولت الجامعة العربية، إلى جامعة تتكلم العبرية، بلهجة عربية ركيكة ومرتبكة وجبانة، بعد أن أفقدت الجامعة، المسماة عربية، اللغةَ السياسية العربية معناها، وأفرغت الكلمات والعبارات من محتواها العربي الذي تتكلم به الأرض العربية، ويحمل لواءها وهويتها الإنسان العربي المقهور.
إن القاسم المشترك الجامع بين جنوب إفريقيا، والشعب الفلسطيني، أنهما عانيا من التطهير العِرقي "الفصل العنصري" ومن الاحتلال الغربي الاستعماري؛ جنوب إفريقيا تحررت بالمقاومة بكل أشكالها السياسية والمسلحة والقانونية، ولم يتبقَّ في العالم اليوم شعبٌ تحت نير الاحتلال ونظام الفصل العنصري سوى الشعب الفلسطيني، المحتلة أرضه من مستوطنين استُجلِبوا من جميع أقطار العالم الأوروبي، بما فيه العالم العربي. هذا الواقع غير الإنساني، من حرب إبادة إلى حرب التهجير القسري، إلى حرب التجويع، هو الذي وحد وجمع جنوب إفريقيا مع الشعب الفلسطيني.
إنّها وحدة القضية الإنسانية؛ ولذلك كانت وصية أول رئيس لجنوب إفريقيا (نيلسون مانديلا)، لشعبه وقادته بأنه "لن تُستكمَل حريتنا دون أن ينال الشعب الفلسطيني حريته وتقرير مصيره واستقلاله".
إن قيمة رفع الدعوة القضائية من دولة وحكومة جنوب إفريقيا، تكمن في أنها جاءت من دولة تعترف بدولة الكيان الصهيوني، ولديها علاقات دبلوماسية معها، وموقعة على اتفاقية حظر الإبادة الجماعية، أي من دولة ليست عدوة تاريخيًّا للكيان الصهيوني، ومن دولةٍ حاولت كذلك أن تتوصل عبر الحوار مع الكيان الصهيوني إلى حلول سياسية وقانونية تتفق مع القانون الدولي، ورفضت دولة الكيان الصهيوني كلَّ ذلك، بل وسخرت من دولة جنوب إفريقيا، والأهم أنّ الدعوة رُفعت وجاءت من دولة ذات مصداقية، ومن دولة محايدة، وليس لها سابق عداوة مع الكيان الصهيوني؛ وذلك ما أزعج الغرب الاستعماري والكيان الصهيوني.
والسؤال: أَمَا كان بإمكان الدول العربية المطبِّعة مع الكيان الصهيوني والموقِّعة على اتفاقية حظر الإبادة الجماعية، أن تسبق أو تلحق بدولة جنوب إفريقيا برفع دعوة مماثلة مؤازِرة ومسانِدة لدولة جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، أو أمام محكمة الجنائية الدولية المتخصصة بمحاكمة الشخصيات، والأفراد المتهمين بارتكاب جرائم إبادة جماعية؟! وما يزال أمام "الجامعة العبرية" والنظام السياسي المسمى زورًا بالعربي، أن يبادر إلى رفع قضايا أمام محكمة الجنايات الدولية أو محكمة العدل الدولية.
جنوب إفريقيا "العربية" جاءت من أقصى الدنيا ومن غير الدِّين، ومن هُوية قومية مختلفة، ومن لغة وتاريخ ثقافي مختلف، جاءت من تلك الأقاصي لتقول للفلسطينيين: "أنتم لستم وحدكم، نحن بجانبكم ومعكم وفي صفكم"، وهي أقوى صفعة في وجه "الجامعة العبرية" والنظام العربي المتصهين.
إذا كان السابع من أكتوبر 2023، كشف ضعف وعجز النظام السياسي العربي، ونقل العالم كله من تاريخ إلى تاريخ سياسي وتحرري جديد، فإن جنوب إفريقيا الناطقة بالعربية المقاومة، قد أسقطت ما تبقى من أوراق التوت، التي كانت تستر عورتهم، وجعلتهم عراة من أي إرادة أو كرامة شخصية أو وطنية وقومية، قادة بدون أي سمات أخلاقية وبدون أي ملامح كرامة إنسانية.
فتحية لجنوب إفريقيا العربية، التي انتصرت للشعب الفلسطيني، ولكل العرب، والعار للجامعة المسمى عربية، والنظام العربي المتصهين. ونقطة على السطر.