بحسرة وألم بالغين، تتذكر الخالة فطوم عبدالله (60 عامًا)، إحدى العاملات اللواتي قضين زهرة شبابهن بين آلات مصنع الغزل والنسيج، ما وصفته بالعصر الذهبي لمدينة عدن ما قبل عام 90، تقول إن المصنع كان قبلتها كل صباح، حينها كان إنتاجه يغزو كل بيت، قبل أن يتعرض للتدمير الممنهج بعد حرب صيف 1994، وصولًا إلى إغلاقه بشكل كامل وتحويله إلى معسكر عام 2015.
ورغم اشتعال رأسها شيبًا، ما زالت ذاكرتها تحفظ لون أول منتج للمصنع، تقول فطوم: "كانت ظروفنا المعيشية صعبة، وكان المصنع بيتنا الثاني، الذي نحرص على تطويره، ويحرص على سلامتنا، وكنّا نحصل فيه على التأمين والرعاية الصحّية والتعليم". تكمل وفي عينيها حسرة الحنين والأنين معًا: "بعد افتتاح المصنع، كانت رواتبنا تقريبًا 280 شِلِن، كان ذلك المبلغ كافيًا للمعيشة والادخار، وكنّا نشعر بقيمة الجهد الذي نبذله، وحين ضعف المصنع، وبذلنا جهودًا مضاعفة، جرّدونا من حقوقنا".
من غزل القطن إلى آلة الحرب
وتحكي أطلال مصنع الغزل والنسيج قصة تدمير ممنهج طال واحدًا من أهم الصروح الاقتصادية خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، حيث كان يُعتمد عليه حينها في إعادة غزل محصول محافظتي لحج وأبين، وصناعة ملابس وحدات الجيش وطلاب المدارس والمعاوز واحتياجات السوق المحلية، وتوقّف العمل تدريجيًّا في المصنع الذي افتتحه الرئيس سالم رُبيع علي (سالمين) في 1971، وقُدّم هدية من الحكومة والشعب الصيني، لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية حينها، ووصل عدد العاملين فيه إلى ما يقارب 1300 عامل وعاملة عام 1980، وأصبح اليوم مجرّد هياكل خاوية وأكوام حديد، بعد أن تحوّل إلى معسكر لتدريب الوحدات العسكرية عقب الحرب؛ الأمر الذي أثار مخاوف المواطنين لوجوده في منطقة سكنية، بعد أن انفجر مخزن للأسلحة بالمصنع في العام 2017، وتطايرت النيران إلى أسطح المنازل القريبة منه.
ووسط الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف باليمن، يعود إلى السطح ملف عشرات المصانع الحكومية التي كانت قائمة في عدن قبل عام ٩٠، وما زال الناس يتذكرون جودة منتجاتها وقلة أسعارها حتى اليوم، حيث كان ينتشر في المدينة صناعات المواد الغذائية والمستلزمات المنزلية والبناء والكثير من الاحتياجات، ويتزايد الحنين لعودة ذلك العصر الذهبي للمدينة، في ظل حسرة من التدمير الممنهج الذي تعرضت له تلك المصانع بإيقافها بالكامل تحت مبرر مشروع الخصخصة، الذي بيعت بموجبه المصانع لنافذين، فيما كان مصير عمالها الشارع.
ووسط أزمة التدهور السريع للعملة الوطنية، تمثل العودة والتوجه لتفعيل القطاع الصناعي في البلد، أحد أهم الحلول لتقليص فاتورة الاستيراد التي تستنزف المعروض الشحيح من العملة الصعبة، كما سيوفر هذا القطاع عشرات الآلاف من فرص العمل، ومنتجات أقل كلفة تناسب دخل المستهلك.
خصخصة وتسريح عمال
وخضعت المصانع في محافظة عدن، عقب حرب 1994، للخصخصة ونهب معداتها وآلاتها، والاستيلاء على مبانيها، وبعد أن كانت المدينة في قمة ذروتها الصناعية، لحق باقتصادها الوطني أضرارٌ كبيرة كانت لها انعكاسات خطيرة، منها توقف الإنتاج المحلي، وتسريح أعدادٍ كبيرة من العمال وهم لا يزالون في قمة العطاء.
حيث بلغ عدد المصانع في عدن ومحيطها في لحج وأبين خلال تلك الفترة، أكثر من 20 مصنعًا، جميعها كانت ناجحة في إنتاجها الذي كان يفي بتغطية احتياجات السوق المحلية، وبعضها الآخر كان يتم تصدير منتجاته إلى بعض الدول المجاورة، حيث قللت من الاحتياج للخارج، ورفدت خزينة الدولة آنذاك بالملايين.
وتضم قائمة المنشآت الصناعية المدمرة كلًّا من: مصنع البسكويت، مصنع الألبان، مصنع الغزل والنسيج، مصنع معجون الطماطم، مصنع الثورة للمنتوجات الحديدية، مصنع الأدوات الزراعية والمعدنية، مصنع الأحذية الجلدية، مصنع البطاريات السائلة، مصنع الجندي للبلاستيك، مصنع العطور، المخبز الشعبي، مصنع الشهداء للملابس، تعاونية الصناعات الجلدية، تعاونية المرأة للخياطة، مصنع الدباغة الوطني، مشروع مصنع الصابون، مصنع المعدن في المعلا، مصنع صيرة للمشروبات، مصنع الزيوت النباتية، مصنع المشروبات الغازية، المؤسسة العامة للملح، مصنع الشباشب المطاطية، مصنع السجائر والكبريت، مصنع الطلاء والأملشن.
أعلنت الحكومة في سبتمبر 2024، بدء عملية صرف المستحقات المالية للموظفين العسكريين والأمنيين والمدنيين المبعدين عن وظائفهم بعد حرب صيف 1994، البالغ عددهم أكثر من 34 ألف مستفيد، بمبلغ أكثر من 9 مليارات ريال، بموجب القرارات الرئاسية في مايو من العام الماضي.
ويعتبر الحديث عن تلك المصانع مؤلمًا، خاصة أن تدميرها وإغلاقها تسبّب بحرمان آلاف العاملين من وظائفهم، وانطلقت وقتها مئات المناشدات والاحتجاجات، قوبلت جميعها بالفشل. وفي العام 2014، أُعلن عن حملة "أعيدوها.. مصانعنا ثروتنا"، وهدفت إلى إعادة تشغيل المصانع والمؤسسات المخصخصة لخلق فرص عمل والحد من البطالة، وجاءت الحملة عبر ثلاث مراحل؛ الأولى كانت عبارة عن أخبار وإعلامات في الصحف، والثانية كانت بإقامة عدة وقفات احتجاجية، والثالثة كانت معرضًا عرضت فيه قطع من المعدات ومنتجات المصانع المتوقفة.
ويقول عرفات شهاب، عامل في الشركة اليمنية للصناعات المطاطية: "المصنع تم إغلاقه وخصخصته في 2006، وكان من أواخر المصانع التي كانت موجودة في الجنوب وأنجحها. كان بإمكان الدولة صيانة الآلات التي كانت موجودة فيه حتى 2022، قبل أن يتم تأجيره لأحد التجار بما فيه، واستلموا مقابله مبالغ مالية وتقاسموها، بُحّت أصواتنا ونحن نطالب بإعادة تشغيل المصنع وتسوية رواتبنا وأوضاعنا".
يتقاضى شهاب راتبًا قدره 29 ألف ريال يمني، وهذا المبلغ لا يغطي 10% من احتياجاته الأساسية وسط ظروف معيشية واقتصادية متردّية، أدّت إلى تراكم ما عليه من التزامات. ويؤكد شهاب، أن اللجنة الرئاسية التي تم تشكيلها لتسوية أوضاعهم لم ترَ النور، رغم صرفها لتسويات الجيش والأمن، ولكن لم يتم الصرف للمدنيين حتى اليوم.
مبالغ زهيدة لا تساوي الانتظار
وكانت الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا، قد أعلنت في سبتمبر 2024، بدء عملية صرف المستحقات المالية للموظفين العسكريين والأمنيين والمدنيين المبعدين عن وظائفهم في المحافظات الجنوبية بعد حرب صيف 1994، ويبلغ عددهم أكثر من 34 ألف مستفيد، بمبلغ أكثر من 9 مليارات ريال، بموجب القرارات الرئاسية في مايو من العام الماضي. جاء ذلك بعد سنوات من قرار الرئيس السابق عبد ربه منصور هادي، في يناير 2013، بإنشاء وتشكيل تلك اللجنة، ليعود الأمل لكثير من المواطنين الذين أُبعدوا عن وظائفهم وسُلبت منهم حقوقهم، وعكفت اللجنة على معالجة تلك القضايا، مواجِهةً الكثير من العراقيل والصعوبات.
وبحسب رأفت علي إبراهيم، عضو لجنة المصانع المعنية بمتابعة قضايا العمال، فإن اللجنة بدأت بصرف مستحقات مالية للعسكريين والأمنيين بمبالغ زهيدة لا تساوي ثمن سنوات الانتظار والمناشدات، إلا أن القرار لم يطبق بعدُ على المدنيين حتى اليوم.
يقول إبراهيم، وهو أحد عمال شركة التجارة الداخلية الوطنية: "تم تسريحنا بموجب القانون الذي أصدر عن العمالة الفائضة، حيث أقر فقط لإخراج الناس من المصانع دون أن يضع حلولًا لهم. في 2006، فوجئت أن راتبي أصبح 13 ألفًا و600 ريال لأسباب غير مقنعة، حتى جاء أمر تعويضات المتقاعدين المبعدين والمسرحين قسرًا من وظائفهم، سواء في السلك المدني أو العسكري أو الأمني، وقدمت دولة قطر ٣٥٠ مليون دولار من أجل التعويضات في الوظائف والأراضي والمنازل، لكن كان هناك احتيال وتم نهب المبلغ، بعدها تم تشكيل اللجنة الرئاسية للتعويضات بدعم من الكويت، ولكن ما سيتم تقديمه لا يعوض عن 18 عام انتظار وحالة نفسية سيئة وعيشة تعيسة بعد أن فقدنا مصدر الدخل".
وبهذا الخصوص، تقول الناطقة الإعلامية للجنة معالجة قضايا الموظفين المبعدين عن وظائفهم في المجال المدني والأمني والعسكري بمحافظات الجنوب، القاضي نورا ضيف الله قعطبي: "صرفت التسويات للعسكريين والأمنيين، وسيتم الصرف للمدنيين بعد استيفاء بعض الإجراءات لدى اللجنة الفنية في وزارة المالية".
تضيف القاضي قعطبي: "لجنتنا تعمل على استيفاء واستكمال جميع الملفات والمظالم المقيدة لديها، ولن تُغفل أي مظلمة قيدت أمامها. كما أن بعضًا ممن شملتهم القرارات بالمعالجة، ولكن لم يحصلوا على أي تسويات أو استحقاقات أو فارق مالي، وذلك لأن مرتباتهم جارية في مؤسساتهم العسكرية والأمنية، قد ورد ذكرهم في القرارات لحماية حقوقهم المستقبلية".
المصانع تعد أهم ركائز الاستثمار وتطور البنية التحتية والتنموية في أي بلد، وافتتاح مصنع يعني رأس مال جديد، وموارد بشرية جديدة، واستيعاب وتأهيل كوادر، وقضاء على البطالة، والتخفيف من حدة الجرائم المترتبة عليها، واستيعاب مخرجات الجامعات.
وتعد الصناعة أهم رافد اقتصادي للمدينة في ظل هذه الظروف، حيث إن إعادة تشغيلها سيسهم في توظيف الأيادي العاملة، وإيقاف استنزاف العملة الصعبة لتغطية فاتورة الاستيراد واستقطاب عملة صعبة من خلال التصدير، وتحول البلد من دولة مستوردة إلى دولة مصدرة.
ويؤكد المحلل الاقتصادي ماجد الداعري، أن المصانع تعد أهم ركائز الاستثمار وتطور البنية التحتية والتنموية في أي بلد، وافتتاح مصنع يعني رأس مال جديد، وموارد بشرية جديدة، واستيعاب وتأهيل كوادر، وقضاء على البطالة، والتخفيف من حدة الجرائم المترتبة عليها، واستيعاب مخرجات الجامعات.
يضيف الداعري: "تعد الصناعات واحدة من موارد الدخل للدولة، ومصدرًا للعملة باعتبار أن المنتجات قد تصدر للخارج، وأن المبيعات بشكل عام يمكن أن تشكل رأس مال ينعكس على تطوير الوضع الصناعي والاقتصادي، وما يتعلق أيضًا باستيراد الكوادر النوعية لتأهيل العقلية المجتمعية، كل هذا ينعكس إجمالًا على تحسن دخل الفرد والبلد، وإنعاش الوضع الاقتصادي، وتعدد موارد الدخل القومي وغيرها من الإيجابيات التي نحن بحاجة إليها في ظل الظروف المعتمة والقاتمة حاليًّا".
فرص الاستثمار في ظل المعوقات
وبحسب علي أحمد جرهوم، رئيس الهيئة العامة للاستثمار في عدن، تم تسجيل 40 مشروعًا استثماريًّا في القطاع الصناعي خلال فترة ما بعد حرب 2015، بتكلفة استثمارية قدّرت بحوالي 56 مليار ريال يمني، مع توفير 1,310 فرص عمل. وتوزعت هذه المشاريع على مختلف مديريات محافظة عدن، بواقع 15 مشروعًا في مديرية المنصورة، و13 مشروعًا في مديرية خور مكسر، و7 مشاريع في مديرية دار سعد، ومشروعين في كلٍّ من مديريتي المعلا وصيرة، ومشروع واحد في مديرية البريقة.
ولفت جرهوم إلى أن هناك كثيرًا من الصعوبات والمعوقات التي تشكّل عقبة أمام إقامة وتشجيع المشاريع الاستثمارية في المحافظة، وأبرزها مشاكل البنية التحتية، وصعوبات تواجه المستثمر مع الجهات ذات العلاقة، ومعوقات تشريعية؛ بسبب تعديل قانون الاستثمار، وإلغاء العديد من المزايا الممنوحة للمستثمرين، موضحًا أن الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني أهم العوامل المشجعة على الاستثمار، إضافة إلى تعزيز دور الهيئة العامة للاستثمار كجهاز يشرف على رسم السياسات الاستثمارية، وإجراء تعديل لقانون الاستثمار الجديد رقم (15) لعام 2010، وإعادة النظر في الأراضي المصروفة للعديد من الأشخاص بغرض الاستثمار ولم يتم إقامة مشاريع استثمارية عليها.
ختامًا؛ وسط مرارة مأساة عمّال مصانع عدن، الباحثين عن حقوقهم المسلوبة، ينظر الشارع في عدن بأسى إلى أطلال المنشآت الصناعية الحكومية التي أطعمتهم وألبستهم طوال عقود من الزمن، قبل أن تعصف بأمجادها أيادٍ عابثة، وتغرق السوق المحلية بالمنتجات المستوردة رديئة الجودة وذات ثمن يقسم ظهور محدودي الدخل.