في الأدب تبحر السفينة دون غاية للرسو؛ إما أن تستمر مبحرة أو تغرق. وهو ما يجعل التأويل مجازفة من يقف على شواطئ بعيدة. منذ لحظته الأولى وُلد الأدب شائكًا مع المعنى ومتصالحًا مع الأسلوب. اعتمد السومريون على التكرار المستمر للألفاظ في نصوصهم الأسطورية لمنحها أثرًا على المتلقي. ومع اكتشاف الأوزان عند البابليين تغير الأسلوب.
كان الاتفاق حول المضمون مركزه تفسير الكاهن، حيث اكتسب المعنى سلطة استبداد. وعند ظهور تأويل مختلف، فإنه سيفضي إلى شقاق عبر نشوء مركز جديد وربما سلطة محل الأولى. مع اختفاء تلك المركزية؛ أي سلطة الكهان، اتخذت الأسطورة معانيَ متعددة، ليس فقط عبر إزاحتها كليًّا عن مجال الحقيقة كما في الأزمان القديمة، بل ستصبح مجالًا جماليًّا وتعريفيًّا بأساليب وحياة إنسان قديم زال وجوده. فالمعنى شيء قابل للزوال دائمًا، في كونه متعددًا ومتغيرًا وربما غائب.
كل نص أدبي غايته اللعب، أن يقول شيئًا في إشارة لشيء آخر. بتعبير (رولان بارت): ينبغي على الأدب أن يشير لشيء غير محتواه. يفتح هذا اللبس استطرادًا متكهنًا تدور حوله القراءات. وهكذا يقيم التأويل في خواء المعنى.
يرى الإيطالي (أمبرتو إيكو) التأويل ضمن سياق منفتح على تعدد قراءات لا نهائية؛ إنه تفاعل مع النص عبر إنتاج نصوص أخرى. وبتصوره يصبح مقبولًا في حدود منضبطة. سبق للفيلسوف (مارتن هيدجر) أن حذر من المبالغة في التأويل؛ أي ما اصطلح عليه إيكو "التأويل المضاعف".
بدون الأسلوب، يقول التفكيكيّ (جاك دريدا)، يكون الفناء أو العماء. وهو تساؤلنا المشروط عن أي نوع من الفناء، أما إيكو فيقول إنه بدون التأويل سنخصي إمكانية النص المفتوحة، وسنفقد متعة وجود هذا الفضاء المتنوع للنصوص. فهناك تأويل جيد وآخر رديء، ما يعني أنه لا يتوجب على الرديء طرد الجيد.
تختبر اللغة جمالية كل شيء في الأسلوب، حيث لا يمكن لسلطة معرفة أو ثقافة أن تقيم فيه. فالأسلوب نتاج عنفوان وليس نتاجَ مقصدٍ، بتعبير (بارت). وهو "مهماز يتقدم سفينة ذات أشرعة" بالنسبة لدريدا. إنه أداة تقدم، وفي الوقت نفسه المهماز الذي يقف كصخر ناتئ "صامدًا في وجه الأمواج عند مدخل المرفأ" هو أيضًا أداة حماية ضد ما أسماه: خطر الحضور المتصلب للمضمون، للمعنى أو الشيء في ذاته.
جسدت كتابات ما بعد الحداثة حالة شك إزاء اللغة نفسها، أكثر من كونها حالة هروب جماعي من استبداد المضامين. اللغة باعتبارها أدوات زخرفية أو إرثًا شعائريًّا فرضه تاريخ الكتابة الأدبية، إذا انتحلنا تنظيرات (بارت) المبكرة.
تنهمر مسرحية (في انتظار جودو) لـ(صمويل بيكيت)، مضعضعة ومتقطعة، بتعارض واضح مع أي بنية. لقد نشأت مستبعدة الأدب كمركب مجازي. لا نمو لدراما أو موضوع. الكلمات لا تسعى لقول شيء، أو لتكون دعامات لبعضها. في تلك الفوضى المركبة، جودو لا يأتي. وإذا اعتبرنا وجوده مركزيًّا، فهو متهرب وخفي، لكننا نرى رجلين مجبرين على انتظاره دون معرفة من يكون، ولماذا ينتظرانه.
تنتهي المسرحية، بينما الانتظار يبقى مفتوحًا: منذ متى ينتظرانه، وإلى متى؟ كل ما نعرفه أن أحدهما يعاني من حذائه، وهذا لا يبدو أنه يعني لنا شيئًا. يتمزق العبث السيزيفي (وقد يكون تعبيرًا خاطئًا)، في مشاهد تهريجية. إنها كتابة تعي خصومتها الأزلية، على مستوى اللغة، مع المظهر الملحمي للكلمات وما تحتمله من نزق تعبيري. من هو جودو؟ إنه السؤال اللغز، غير أنّ العمل لا يقترح علينا أي أمر. هكذا أتى جودو، ربما لا أحد.
بالنسبة لـ(بيكيت): لا تهتم التراجيديا بالعدالة الإنسانية، إنما بما تمثله كصورة للتكفير عن خطيئة الإنسان الأصلية؛ خطيئة مولده. فهل نشأ عبث الانتظار من تلك الرؤية؟ كون الخطيئة مفروضة كما يقول، ولن يكون الخلاص أحد معطياتها.
يتواجد المعنى ضمن ثلاث مستويات، كما يرى (رولان بارت)، بما أطلق عليه: المعنى الثالث. أولًا الإشارة، ويكون الخطاب إخباريًّا وهو لا يعنينا. ثم الرمز أو المعنى الواضح، حيث تنتهي قصدية الكاتب عند مستوى الدلالة، وفيه يقول كل ما يريده بوضوح.
اعتبر أحد النقاد أن (بيكيت) يجاهد في إطار الدين المسيحي. ولأن المؤول يذهب بعيدًا في الدفاع عن مسيحية (بيكيت)، كما لو أنه يطالب بعقاب مخفف، رأى أنه لم يجد موقفًا راسخًا (لذلك) سوى في إدراكه الواضح لبؤس الإنسان والتهديد المستمر له بالفناء.
يحتمل بعض التأويل مشروعًا تشريحيًّا عن الكاتب. وتكمن مشكلته الرئيسية حين يقيم نفسه كدليل معرفي بين عمل وقارئ. مع هذا لا يمكن إنكار وجود قراءات لا نهائية في تأويل النص، لكن خطابه لا يستطيع الكف عن احتمال المعنى ضمن ما يضمره الكاتب.
يتواجد المعنى ضمن ثلاث مستويات، كما يرى (رولان بارت)، بما أطلق عليه: المعنى الثالث. أولًا الإشارة، ويكون الخطاب إخباريًّا وهو لا يعنينا. ثم الرمز أو المعنى الواضح، حيث تنتهي قصدية الكاتب عند مستوى الدلالة، وفيه يقول كل ما يريده بوضوح.
في المستوى الثالث، يكون المعنى مراوغًا ويتجاوز التفكير والقصد. يقترح علينا (بارت) تسميته المعنى العويص، وفيه ينفتح مجال المعنى كليًّا دون نهاية. لكنه أيضًا يمكن أن يصبح محدودًا في عيون عقل محلل. وبين مراوغة النص وقصدية الكاتب نتفهم مقولة الروائي الإنجليزي د. هـ. لورانس: ثقوا بالرواية وليس بالراوي.
عبر تأويل إشارات تضمنتها لوحات ليوناردو دافنشي، تخبرنا رواية دان براون (شفرة دافنشي)، أنّ المصور الإيطالي كان زعيمًا ماسونيًّا. تقوم الرواية على حبكة بوليسية مشوقة، وخطاب سردي غايته البرهنة والإثبات، تدعمه حجج ودلائل توثيقية أحادية الاتجاه. كتابة تكتفي بقصدية الكاتب أو المعنى الواضح؛ أي عند اللحظة التي يمكن للكتابة أن تصير أدبًا. ثم إنّها افترضت مجالًا كليًّا لقصدية دافنشي، أي اللحظة التي يتوقف فيها الفن عن أن يكون إبداعًا. إنّ هذا النوع من الكتابة يعلن موت القارئ مسبقًا، بما أنه لا يترك له ما يقول.
والكتابة يشارك فيها عدد من القراء، كما جاء على لسان سيلاس فلانري، وهو كاتب سويسري اختلقه (إيتالو كالفينو) في رواية (لو أنّ مسافرًا ليلة شتاء). لا يحدث المعنى المراوغ دون حضور قصدية الكاتب: المنغلقة على نفسها، في حدود التأويل المنضبط. أمّا الاسلوب فيقترح عقد شراكة بين نص وقارئ.