ظهرت فكرة القانون باعتباره عقدًا اجتماعيًّا ينظّم العلاقات بين الأفراد كافة في مجتمع ما، والعلاقة بين الحكّام والمحكومين؛ أي بين سلطات إنفاذ القانون والمواطنين، حيث فُرض على الحكام مسؤوليات وواجبات تجاه حقوق المواطنين المختلفة، وقد نظم القانون كافة العلاقات، ومن ذلك الحالة التي يكون فيها الإنسان على تماس مع القانون، الذي كفل للشخص العديدَ من الضمانات والحقوق التي لا يجوز المساس بها من قبل سلطات إنفاذه منذ لحظة القبض على من اشتبه به حتى لحظة انتهاء تنفيذ العقوبة المحكوم عليه بها.
سنعرض هنا لأهم الضمانات التي فرضها القانون للشخص، منذ واقعة القبض عليه حتى مرحلة المحاكمة، والخروقات لهذه الضمانات.
مرحلة جمع الاستدلال
مرحلة جمع الاستدلال هي المرحلة التي تقوم خلالها الأجهزةُ الأمنية بجمع الأدلة حول قضية معينة وعمل التحريات حول مرتكبيها، وإحالة ما جمعته من أدلة وتحريات إلى النيابة العامة لتقوم بالتحقيق في القضية. وقد نصّ القانون على كثير من الضمانات في هذه المرحلة، فأوجب على مأموري الضبط ألّا يقوموا بالقبض على أيّ شخص إلّا بأمرٍ صادر من جهة الاختصاص، وإعلامه بسبب القبض، وأن يُمَكَّن المقبوض عليه من الاتصال بمحاميه وذويه وأسرته فور وصوله لمركز الاحتجاز.
وللشخص المقبوض عليه حق الامتناع عن إبداء أقواله إلا بحضور محاميه، ويجب إحالته إلى النيابة العامة خلال مدة أربع وعشرين ساعة من لحظة القبض عليه، ولا يجوز إيقاف شخص فوق المدة القانونية، المتمثّلة في أربع وعشرين ساعة، وكل إجراء مخالف لهذه الضمانات يُبطل ما يليه من إجراءات؛ بمعنى إذا كان القبض تم بإجراء قانوني غير صحيح، فإنّه يبطل الإجراءات التي تليه من محاضر جمع استدلال وغير ذلك من إجراءات.
وتتمثّل أهم الخروقات القانونية في مرحلة جمع الاستدلال، في أنّ السلطات الضبطية تقوم بعمليات القبض دون أمر صادر من جهة الاختصاص المتمثّلة في النيابة العامة أو المحكمة. كما أنّ كثيرًا من حالات القبض لا تتم بالطرق القانونية، ويُستخدم فيها سوء المعاملة والتي تصل أحيانًا إلى الضرب، على الرغم من أنّ القانون أعطى الحق لأجهزة الضبط في حالة الاشتباه بشخص، أن يقوموا باصطحابه إلى قسم الشرطة؛ وبالتالي فإنّ القانون قد منع أن يتم أخذ الشخص عنوة، واستخدام القوة المفرطة معه عند أخذه لقسم الشرطة.
كما أنّ هذه السلطات لا تواجه المشتبه به ولا تخبره عن سبب القبض عليه، ولا تمكّنه من الاستعانة بمحامٍ، فضلًا عن تجاوز الفترات القانونية للقبض، حيث لا تقوم بتحويل المقبوض عليهم إلى النيابة العامة للتحقيق معهم وتمديد حبسهم أو الإفراج عنهم. علمًا أنّ القانون وضّح بأن كل ما لقسم الشرطة من حق هو أخذ أقوال الشخص عند وصوله إلى القسم، وتثبيت أقواله في محاضر جمع الاستدلال، وليس له الحق أن يقوم بمواجهة المقبوض عليه بتهمة أو أن يواجهه بالأدلة ويناقشه فيها.
في هذه المرحلة، تتكرّر العديد من خروقات المرحلة السابقة من استمرار إخفاء كثيرٍ من الضحايا عن ذويهم وعدم تمكينهم من التواصل بمحاميهم والاستعانة بهم، وفي هذه المرحلة أيضًا قد تُجهل كيفية أخذ أقوال الضحايا نتيجة كونهم مختفين قسريًّا.
كما أنّ ظروف أخذ أقوال المشتبه به تكون مجهولة في عدد كبير من قضايا الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري. عددٌ من ضحايا الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري الذين وثّقوا وقائعهم مع منظمة مواطنة لحقوق الإنسان -مثلًا- تحدّثوا عمّا تعرّضوا له من تعذيب خلال مرحلة جمع الاستدلال وإكراههم على اعترافات كاذبة.
وقد يُخفى من يتم احتجازهم ويُجهل المكان الذي احتُجزوا فيه، ويظلون منقطعين عن التواصل بأسرهم وأهاليهم وذويهم، وأيضًا محاميهم لفترات تتجاوز المدة القانونية للقبض.
مرحلة التحقيق من قبل النيابة العامة
يقصد بالتحقيق: كافة الإجراءات التي تتخذها النيابة العامة أثناء مباشرتها لوظيفتها في نظر القضايا التي ترد إليها. وكفل القانون للمتهم في هذه المرحلة العديدَ من الضمانات، مثل: الحق في التواصل بأسرته، وحقّه في الاستعانة بمحامٍ، وألّا يتم الفصل بين المتهم ومحاميه في جلسات التحقيق. وأن يُمَكّن محامي المتهم من الاطلاع على أسئلة الاستجواب قبل يوم على الأقل من الاستجواب لتجهيز دفوعه، وأيضًا أن يتم إعلامهم قبل وقت كافٍ بمواعيد التحقيق والاستجواب. كما ألزم القانون عضو النيابة أن يُمَكّن المتهم ومحاميه من تصوير محاضر التحقيق لتجهيز دفوعهم، كما يجب على أعضاء النيابة أن يستمعوا لطلبات المتهمين، وألاَّ يهملوها، وأن يقوموا بالنظر فيها والردّ عليها في محاضرهم.
وفي حالة الحبس الاحتياطي، والذي يقصد به تقييد حرية المتهم حتى استكمال إجراءات التحقيق، فيجب على عضو النيابة ألّا يأمر بالحبس الاحتياطي إلّا إذا رأى أنّ هناك أدلةً وقرائنَ على ارتكاب المتهم للجريمة، فيحق له حبس الشخص احتياطيًّا لمدة لا تتجاوز سبعة أيام، وبعد مرور المدة يمكن التمديد من قبل قاضي المحكمة الابتدائية المختص، على ألّا يقوم القاضي بالتمديد إلا بعد سماع أقوال المتهم والنيابة العامة، وظهور قرائن وأدلة تعزز ثبوت ارتكاب المتهم للجريمة، فيحق له هنا التمديد لمُدَد متتالية لا تتجاوز الخمسة والأربعين يومًا، ومِن ثَمّ يكون تمديد الحبس الاحتياطي من حق محكمة الاستئناف عبر رئيس النيابة نفسه بعد سماع أقوال المتهم والنيابة العامة، ولمدة لا تتجاوز الخمسة والأربعين يومًا أيضًا، وبعد ذلك يجوز تمديد الحبس الاحتياطي بموافقة النائب العام لمُدَد لا تتجاوز الثلاثة الأشهر، ومن ثم يصبح الإفراج عن المتهم وجوبيًّا، أي إنّ مُدَد الحبس الاحتياطي يجب ألّا تتجاوز ستة أشهر إجمالًا، وبعدها يصبح الإفراج عن المتهم وجوبيًّا.
وعلى أعضاء النيابة العامة كواجبات في حالة تلقيهم بلاغًا عن احتجاز شخص بدون مسوغ قانوني، الانتقال فورًا لمكان احتجاز الشخص والتأكد من قانونية احتجازه، وفي حالة تبين عدم قانونية الاحتجاز، يتم الإفراج عنه فورًا، وتحرير محضر بهذه الإجراءات وبالواقعة. وفي حالة تلقي أعضاء النيابة العامة بلاغًا حول وجود مكان احتجاز بالمخالفة لأحكام القانون، فيجب عليهم الانتقال فورًا لمكان الاحتجاز والتأكّد من مشروعيته، والتأكّد من مشروعية احتجاز الأشخاص فيه، والإفراج عمن احتُجِزوا بغير مسوغ قانوني منهم، وإحالة من لديه شبهة إلى المنشأة العقابية المختصة قانونًا، ويجب عليهم في هذه الحالة فتح تحقيق بذلك.
وفي هذه المرحلة تتكرّر العديد من خروقات المرحلة السابقة، من استمرار إخفاء لكثير من الضحايا عن ذويهم، وعدم تمكينهم من التواصل بمحاميهم والاستعانة بهم، وفي هذه المرحلة أيضًا قد يُجهل كيفية أخذ أقوال الضحايا نتيجة كونهم مختفين قسريًّا، وذلك في وقائع الاحتجاز التعسفي والإختفاء القسري.
النيابة العامة في كثير من الحالات، تتجاهل بطلان إجراء أجهزة الضبط في إحالة المقبوض عليه إليها خلال أقل من أربع وعشرين ساعة من وقت القبض عليه. ولا تقوم النيابة العامة باستدعاء المتهم للاستماع لأقواله خلال المدة اللاحقة لإحالة الملف إليها، وعوضًا عن ذلك يتم أخذ أقوال المتهم بعد مرور مدة طويلة تتجاوز المدة القانونية. كما أنّ أعضاء النيابة يقومون بعقد جلسات التحقيق في غير مقر النيابة العامة، والانتقال لإجراء التحقيق في أماكن أخرى. بالإضافة إلى ذلك، لا يتم إعلام محامي المتهم أو المتهم ذاته بمواعيد جلسات الاستجواب، وفي كثير من الحالات لا يتمكّنون من الاطلاع على الأسئلة التي ستوجّه للمتهم لتحضير دفوعهم، وفي الغالب لا يتم تمكينهم من تقديم كافة دفوعهم؛ ممّا يُسقط مبدأ الدفاع الشرعي في هذه المرحلة.
وفي بعض جلسات التحقيق، يتم مواجهة المتهمين ببعض محاضر جمع الاستدلال دون تمكينهم من الاطلاع عليها، وإرغامهم على الإقرار بمحتواها. وفي حالة تمكُّن المتهمين من توكيل محامين، فلا يُمَكّن مُحاموهم من تصوير محاضر جلسات التحقيق أو إبداء ملاحظاتهم حولها؛ وتصدر قرارات الاتهام دون أن يتمكّن المحامون من تقديم كافة أوجه دفاعهم.
مرحلة نظر القضية من المحكمة
في مرحلة المحاكمة، أوجب القانون أن تلتزم المحكمة بإجراءات المحاكمة العادلة، وأن تساوي بين الأطراف، وأن تسارع وتوالي جلساتها، ولا تقوم بتأجيل الجلسات لفترات طويلة، خاصة للمتهمين الذين لا يزالون محبوسين، وأن تمكّنهم من كافة حقوقهم. على سبيل المثال، الحق في توكيل محامٍ، والحق في تقديم كافة دفوعاتهم وأدلة براءتهم، وأن تأخذها المحكمة بعين الاعتبار، وأن تعطيهم الفرص الكافية للردّ على قرار الاتهام والدعاوى المقدمة ضدّهم، وأن تمكّنهم من تصوير محاضر جلسات المحكمة وكافة الوثائق المقدّمة ضدّهم ليتمكّنوا من الرد عليها، وأن تلزم أجهزة الضبط بإحضار المتهمين لجلسات المحكمة، وأن تعقد كافة جلسات المحكمة في مقر المحكمة المختصة، وأن يتم إعلام المتهمين ومحاميهم بمواعيد انعقاد الجلسات، وأن تفترض في المتهمين البراءة باعتباره مبدأً أصيلًا في القانون، ويجب عليها تمكين أسرهم من زيارتهم، وأن تستمع إلى شكاواهم، وتأمر بالتحقيق فيها.