نصف اليمن كويتية

الحقيقة التي ما زالت ماثلة أمامنا حتى اللحظة
صلاح الأصبحي
July 15, 2024

نصف اليمن كويتية

الحقيقة التي ما زالت ماثلة أمامنا حتى اللحظة
صلاح الأصبحي
July 15, 2024
مبنى كلية الطب بجامعة صنعاء - دعم الكويت لليمن

بصفتي كاتبًا يمنيًّا شابًّا، يظن أنه قرأ تاريخ بلاده بتمعن ووعي، ولا سيما علاقة اليمن بأشقائه العرب، ودور الأشقاء في دعمه على أكثر من صعيد سياسي اقتصادي تنموي، أجد أن دولة الكويت تفرّدت بعلاقتها الحقيقية ودورها التاريخي ومصداقية الروابط والجذور والهموم، على مدى عقود، لم تنازعها دولة أحبت اليمن مثلها، ولم يرتقِ نظامٌ بنَى اليمن طوبة طوبة كالنظام الكويتي الشقيق، الذي تبنّى احتياجات اليمن ومشاريع تنميتها وكأنها جزءٌ من مهامه وهدفٌ من أهداف دولته لدرجة باعثة للحيرة والدهشة من إمكانية وجود علاقة فعلية مثالية سخية بين شعبين شقيقين كعلاقة الكويت باليمن.

لم أستوعب حجم السخاء ومقدار العطاء وصورة الإخاء وعظمة البقاء التي تظلّل هذه العلاقة المتينة، وتحيط بالضوء الذي جسّدته الكويت في الجغرافيا اليمنية القاحلة شمالًا وجنوبًا، وسعيها الحثيث لترسيخ أركان ومؤسسات وبنية تحتية في الشطرين بما يكفل كسب المجتمع لتلك المشاريع العظيمة، وتخفيف معاناته والتخلص من افتقاره لمشاريع ملحّة تُخرجه من غياهب اللادولة، وتضعه في صلب التنمية واللحاق بركب الحياة المتحضرة، والخدمات الأساسية التي تمس حاضره ومستقبله.

ثمة علامة فارقة تثير الدهشة حول عمق العلاقة تلك، فإلقاء نظرة فاحصة على طبيعة تلك الهِبات، تبيّن أنّها لم تكن آنيّة أو أنّ أهدافها لحظية، بل في الحقيقة كانت غايتها مستقبلية، هدفها الإسهام في إكساب المجتمع قوةً تنموية متمثلة ببناء جيل مؤهل قادر على النهوض بالمجتمع؛ لأنّ معضلة الأمية التعليمية والتأهيل الجامعي كانا أكبر خطرٍ يُبقي اليمن عاجزًا عن تحقيق طموحاته، ولذا كان اهتمام شقيقتنا المبجّلة بقطاعي التربية والتعليم، والتعليم العالي، اهتمامًا مشهودًا وفاعلًا.

لبنة أولى في صنع المستقبل

فبعد ثورة 1962، كانت المدارس منعدمة، والتربويون اليمنيون لم يوجدوا بعد، فتولت الكويت على عاتقها بناء الكثير من المدارس في محافظات عدة، واستجلاب تربويين عرب، والتكفل بدفع رواتبهم عدة سنوات، حتى انزاحت الأمية وشعشع نور العلم في المدن والأرياف، وليس هذا فحسب؛ بل أتبعته باحتواء مؤسسات التعليم العالي؛ على رأسها جامعة صنعاء، التي كان للكويت فضلٌ كبير في إرساء دعائمها وتوسيع قطاعاتها، كبناء كلية الطب، وإنجاز كثيرٍ من مرافقها من قاعات دراسية ومبانٍ إدارية ومكتبات، وتأثيثها وتجهيزها بأرقى الطرق والوسائل المتاحة حينها، ثم حفزت الطلاب اليمنيين الملتحقين بالجامعة وتكفلت بمخصصات مالية شهرية لكلّ طالب، كما تكفّلت برواتب الأكاديميين العرب المحاضرين والزائرين والمعارين في جامعة صنعاء، حتى غدت الجامعة شعلة تنويرية، وقيمة معرفية يشار إليها بالبنان، أخرجت الخبرات والكوادر اليمنية في مختلف المجالات، وكانت تمثّل اللبنة الأولى في صنع مستقبل اليمن في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. فيا له من دعمٍ استثنائي ذلك الذي يغير بنية المجتمع وينقل أبناءه من دور العبء إلى دورٍ يصنع التحول والتحديث.

إلى جانب ما سبق، يمكنني استعراض بعض المشاريع الحيوية التي حقّقتها الكويت لليمن من باب التمثيل، وليس من باب الحصر؛ لأنّها لا تُحصر: مستشفى الكويت، المستشفى العسكري بصنعاء، مستشفى الحديدة العام، ثمانية عشر مستوصفًا في عدة محافظات: المعهد الصحي، بنك الدم، المختبر المركزي، كلية الشرطة، مبنى الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد، المعهد الصناعي، المكتبة المركزية لجامعة صنعاء، دار الكتب، المكتبة الوطنية بعدن، ميناء عدن، مشروع وادي زبيد، شق طرق، بناء جسور، ترميم أماكن أثرية مثل باب اليمن في صنعاء. أمجادٌ لا تقدر بثمن، ومعالم لا تخطئها العين، وبنية تحتية شكّلت القفزة النوعية لليمن والاستقرار المعيشي الخدمي والنهوض الاقتصادي، عبر استغلال الطاقات والقدرات والإمكانيات التي صنعت نهضة تنموية شاملة بفضل سخاء الشقيقة وعطائها الباذخ. وسيذكر التاريخ أنّها أنشأت منتصف الستينيات هيئةً خاصة لدعم برامج التنمية في اليمن، وكان أحد الفاعلين فيها الراحل الكبير الشاعر أحمد السقاف.

وعلى ضوء ما سبق، يمكن الاعتراف بحقيقة مفادها أنّه: لم تحظَ اليمن بدعم إقليمي أو دولي كما حظيت به من دولة الكويت الشقيقة، منذ قيام النظام الجمهوري في 1962، لدرجة يصعب معها حصر مشاريع التنمية والبناء التي شيّدتها الكويت في اليمن، وكأنها هي الدولة، وهي المسؤول الأول عن العمران والبنية التحتية اليمنية أكثر من النظام الحاكم. 

وليست مبالغة القول إنّ نصف اليمن كويتية، وإنما هي الحقيقة المطلقة التي ما زالت ماثلة أمامنا حتى اللحظة، وما يثير الغرابة الاستفسارُ حول شكل اليمن بدون تلك المعالم والمؤسسات التي قدّمتها كويت الخير لشقيقتها اليمن بسخاء منقطع النظير وإخلاصٍ متفانٍ في النهوض باليمن أرضًا وإنسانًا.

والمفارَقة المُرّة أن اليمن اقترف ذنبًا فادحًا وجسيمًا بحق الكويت، ذنبًا لا يقبله لا عقل ولا منطق ولا عرف ولا شرع خلال الاعتداء العراقي الغاشم فيما عُرف بحرب الخليج الثانية، مع أنّ المنطق حينها يفرض علينا حتمًا الوقوف إلى جانب الكويت، ورفض واستهجان العدوان عليه تحت أي مبرر، لكن حماقة السياسة وسذاجة الوعي وغباء التقدير ورّط اليمن بموقف سخيف وجبان لا يليق بفضل وعطاء وودّ الكويت.

كان دور الكويت التاريخي منذ منتصف الستينيات، يسعى جاهدًا في تغيير التركيبة المجتمعية اليمنية المعقدة دينيًّا واجتماعيًّا، عن طريق التعليم والثقافة ومشاريع اقتصادية تهدف لترك المجتمع ثقافة القبيلة والمذهب، والالتحاق بركب التمدن والتحضر والديمقراطية، وكان هذا الطموح المضمر يُصَدّ ويُرفض من خلال سعي أشقاء أشقياء ودعمهم لتحالفات قبَلية وتوجهات دينية سلفية متشددة، أعاقت بناء الدولة وبناء مجتمع مدني ديمقراطي يتغلب على كل موجات التبعية العمياء والتعصب القبَلي وقوى التخلف والرجعية.

مدينون باعتذار كبير لها

سيظلّ اليمنيون يحتقرون تلك اللحظة المخزية التي جرحت شرف الكويت ومكانته الزاهية في صميم اليمنيين، إذ يدينون باعتذار شعبي والتِماس العفو والغفران من الكويت، حكومةً وشعبًا، إزاء ذلك الموقف الصادم والخذلان غير المتوقع، وسيبقى اليمن يشعر بالخجل والتأنيب أمام الكويت، عقودًا.

وحين غرق اليمن في مستنقع الحرب وانقلاب الميليشيات على السلطة الشرعية في سبتمبر 2014، لم يقف الكويت موقف المتفرج المتشفّي، وإنما أعلنت انضمامه ومساندته للسلطة المنتخبة ضد سيطرة الميليشيات، وحين رأت أنّ الحرب ستطول، رعت حوارًا طويلًا بين الأطراف، في العام 2016. 

كان دور الكويت التاريخي منذ منتصف الستينيات يسعى جاهدًا في تغيير التركيبة المجتمعية اليمنية المعقدة دينيًّا واجتماعيًّا، عن طريق التعليم والثقافة ومشاريع اقتصادية تهدف لترك المجتمع ثقافة القبيلة والمذهب، والالتحاق بركب التمدن والتحضر والديمقراطية، وكان هذا الطموح المضمر يُصَدّ ويُرفض من خلال سعي أشقاء أشقياء ودعمهم لتحالفات قبَلية وتوجهات دينية سلفية متشدّدة أعاقت بناء الدولة وبناء مجتمع مدني ديمقراطي يتغلب على كل موجات التبعية العمياء والتعصب القبَلي وقوى التخلف والرجعية.

الجدير بالذكر في هذا السياق، أنّ الكويت استأنف موقف العطاء والإخاء، ولم يطاوعه ضميره ونبله أن يترك اليمن في محنته، بل سارع مخلصًا عظيمًا شهمًا ومقدامًا في التكفل بعدة مشاريع واحتياجات إنسانية عاجلة في المحافظات المتضررة من الحرب، كتعز وغيرها، والإسراع كعادته النبيلة، في ترميم وإصلاح المدارس والكليات في مدينة تعز بعد أن دمّرتها الحرب وأخرجتها عن الخدمة.

أثبتت الكويت أنّها كبيرة ومتجاوزة للجراح والمواقف للحدّ الذي لم نتخيل فيه فرادة وتميّز ونبل العلاقة الأخوية بيننا، التي ما بخلت علينا يومًا بشيء، وأغدقت علينا ما نعجز عن مجازتها بالشكر والامتنان.

أختم بوحي الشفيف وأسفي العميق بأن للكويت مكانة خاصة في نفسي، وعشقها متجذر في أعماق روحي، وأمنيتي أن أحظى بزيارتها، وتقبيل رأس وجبين أميرها وولي عهدها وكل مَن مدّ يد العون والمساندة لوطني الجريح من أصحاب القرار والمسؤولين فيها، كأقل تقدير يتحتم عليَّ القيام به بصفتي مواطنًا يمنيًّا أولًا، وكاتبًا تفرض عليه ثقافته ووعيه وإنسانيته ردّ النزر اليسير والامتنان لدولة شقيقة أخلصت لأجل بلده، وقدّمت ما عجز عن تقديمه الأشقاء والأصدقاء في الماضي وفي الحاضر.

•••
صلاح الأصبحي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English