يمكن اعتبار قطاع غزة، منذ تدشين موجة أعمال العنف في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، مسرحًا للجرائم الأكثر دموية ورمزية على الصعيد العالمي، انطلاقًا من حِدّة ونطاق الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي بصفة يومية، وحجم التدمير المتسع، والقتل والإصابات التي تشير فعليًّا إلى وقوع انتهاكات خطيرة للقانون الإنساني الدولي وانتهاكات جسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان، بما فيها الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. مع ذلك، تظهر جليًّا ازدواجية المعايير في ردود الفعل الدولية، خاصة من الدول الغربية، التي تتخذ مواقف منحازة وغير متسقة مع القانون الدولي الإنساني إزاء الفظائع التي ترتكبها إسرائيل.
تشهد الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخاصة قطاع غزة، موجة من العنف الأهوج، اتسم بالوحشية الشديدة وبارتكاب جرائم خطيرة وخلّف دمارًا واسعًا جدًّا في البنية التحتية الحيوية بما فيها المرافق الصحية، إلى الحد الذي لا يمكن للمجتمع الدولي أن يغض الطرف عنه، وعن المعاناة القاسية التي يتجرعها سكان غزة. وفي خضم هذا القهر والعقاب الجماعي اللا إنساني، وفّرت الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، المساندةَ السياسية والدبلوماسية الفضفاضة لإسرائيل، كما أخذت هذه الدول، التي تدعي مناصرتها للإنسانية، على عاتقها إيصال الإمدادات العسكرية بكل سلاسة ويسر إلى الجانب الإسرائيلي، بينما لم تفعل ما يكفي لتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية إلى ملايين السكان الذين يعانون التنكيل في غزة، بسبب الحصار الظالم والجائر الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي على القطاع تحت ذرائع واهية، كما فشلت في إدانة الفظائع التي ترتكبها إسرائيل بحق الأطفال والنساء والمسنين ليل نهار.
ممّا لا شكّ فيه أنّ الدعم العسكري والدبلوماسي الغربي لإسرائيل ساهم بصفة حقيقية في تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة، وتسبّب في ارتفاع معدلات القتلى والجرحى بصورة لم يشهد لها العالم مثيلًا في موازاة تزايد حدّة الاعتداءات الإسرائيلية في كل يوم، حيث مورست الانتهاكات في قطاع غزة بواسطة أسلحة ذات دمار واسع النطاق، وفّره الغرب، بما في ذلك القصف الجوي المكثف والبربري، والقصف البري بالدبابات والمدفعية الثقيلة، وبواسطة قذائف الفسفور الأبيض المحرّم دوليًّا.
الغرب أخذ على عاتقه مسؤولية إيصال الإمدادات العسكرية لإسرائيل، ولم يفعل ما ينبغي لإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة.
لم يعد خفيًّا أنّ العالم الغربي غالبًا ما يُظهر انحيازًا غير أخلاقي لصالح إسرائيل، ويلتزم الصمت النسبي إزاء الفظائع المرتكبة، لا سيما فيما يتعلق بمبدأَي التناسب والتمييز، حيث سمح هذا الانحياز بأن تمر جرائم الاحتلال الإسرائيلي دون رادع، ما يثير تساؤلات حول مدى اتساق وعدالة مواقف الدول الغربية، ومدى نجاعة القانون الإنساني الدولي الذي بدأ يتآكل، وتقويض مصداقيته وفعاليته، حيث بات يبعث برسالة مفادها أنّ الدول التي تحظى بدعم الدول الغربية يمكن أن تتصرف بوحشية تامة نظرًا لمنحها ضوءًا أخضر وحصانة من أيّ مساءلة دولية.
يبقى قطاع غزة مدمرًا كليًّا ومستنزفًا أمام أنظار العالم بأسره، وسكّانه يعانون يوميًّا من محدودية الوصول إلى المرافق الأساسية والخدمات، بما فيها الرعاية الطبية بسبب كثافة الغارات الجوية وشحة الوقود والمشتقات النفطية، وأبلغت الكوادر الطبية أنّ هناك نفاذًا للمستلزمات الطبية لعلاج الحالات الحرجة، حيث تُجرى العمليات الجراحية دون تخدير.
ويعاني سكان غزة من ظروف قاسية في خضم عمليات القتل والتدمير المستمرة، نتيجة الافتقار الحادّ إلى الغذاء والمياه وغيرها من الاحتياجات الأساسية الأخرى المترتبة على العيش في سياق القصف العشوائي والحصار الجائر، كما أجبر الأبرياء على البحث عن ملاذ آمن في مراكز الإيواء والمستشفيات والكنائس. فيما ما يزال الوضع في شمال غزة مأساويًّا بشكل خاص.
كما أزهقت أرواح الكثيرين، إذ لم ينجح السكان في إنقاذهم؛ بسبب عدم توفر معدات للإنقاذ وانتشالهم من تحت الأنقاض، نظرًا للعدد الهائل من الضربات الجوية التي وقعت وأعداد القتلى والجرحى الذين سقطوا، مع ذلك، من المحتمل أن يكون العدد الفعلي للقتلى من المدنيين أعلى بكثير مما هو معلن، حيث تم العثور على جثث في الساحات والشوارع والمنازل المدمرة.
تحتاج المنظمات الحقوقية الدولية وقتًا طويلًا لتوثيق جميع الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل، غير أنّ الحقيقة التي لا شك فيها أنّ الفظائع التي يتعرض لها السكان المدنيون ستترك ندوبًا لن تمحى، بما في ذلك على الأجيال المقبلة، وعلى الأهل الذين اضطروا إلى دفن أطفالهم، والأشخاص الذين شاهدوا أصدقاءهم يُقتَلون بدم بارد، وجميع أولئك الذين أجبروا على مغادرة منازلهم المحبوبة للغاية مع احتمالات غير مؤكدة للعودة إليها من جديد، بسبب الدمار واسع النطاق.
إنّ المعايير المزدوجة في التعامل مع الجرائم الإسرائيلية تعمل على تغذية الاستياء والتطرف، وهو ما يمكن أن يكون له آثارٌ مزعزعة للاستقرار في المنطقة. كما أنّ عدم اتخاذ إجراءات حاسمة للتصدي للجرائم الإسرائيلية، يديم دائرة العنف ويعوق الجهود الرامية إلى تحقيق سلام دائم، في الوقت الذي يتمسك فيه الفلسطينيون بحقهم في إقامة دولتهم المستقلة وإنهاء التمييز العنصري والمعاملة المهينة والقاسية التي تنتهجها إسرائيل ضدهم طيلة 75 سنة المنصرمة، ينبغي تكثيف الجهود الدبلوماسية لتعزيز الحوار بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مع التركيز على تحقيق سلام عادل ودائم. وينبغي للوسطاء الدوليين أن يكونوا محايدين وملتزمين بمعالجة شواغل الطرفين.