العمى الفكري؛ هاويةُ الأخلاق والقيم

الحياة الجيدة هي تلك التي يلهمها الحب وتقودها المعرفة
إيناس السبئي
October 15, 2024

العمى الفكري؛ هاويةُ الأخلاق والقيم

الحياة الجيدة هي تلك التي يلهمها الحب وتقودها المعرفة
إيناس السبئي
October 15, 2024
.

"لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم لا يرون".

لم تكن هذه مجرد عبارة على لسان المُبصِر الوحيد في رواية العمى، بل كانت تلخيصًا للحقيقة البشرية، للصراع بين الواقع المجتمعي والبعد الأخلاقي، لذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بين مادة الإنسان وجوهره. ربما يقود العمى الفكري إلى خللٍ اجتماعي واضطرابٍ شامل في هذه المنظومة، لكن لماذا يستدعي الخلل الاجتماعي اضطرابًا أخلاقيًّا يجرد الإنسان من إنسانيته؟

إن الإبحار في الأصل الميتافيزيقي للإنسان لن يكون نافعًا بعد الآن؛ فاعتباره يحمل الشر المطلق أو الخير المطلق، وإلقاء اللوم على القوة المتسببة بخلق الإنسان على هذه الصورة، هو ضربٌ من الهرطقة والجنون؛ فنحن اليوم أمام واقع يستدعي بالضرورة إيجادَ أسبابٍ يمكن دراستها وفرض معالجات لها، إذ إن التسليم بتأصل سلوك معيّن في الإنسان يلغي الجانب الفكري والعملي في ذات الآن، ويُصيِّر الحياة إلى فيلم عبثي طويل، نتحرك فيه مفرغين من العقل والوعي كقطع الشطرنج.

فعلى ضوء رواية العمى والعديد من الشواهد التاريخية والتحليلات النفسية والاجتماعية للكائن البشري، أسعى في هذا المقال إلى الإجابة عن سؤال رئيسي واحد، وهو: لماذا تضطرب المنظومة الأخلاقية وتسقط القيم في الأزمات البشرية؟

وهذا الاضطراب عائد إلى مشكلة في تركيب الإنسان نفسه أم أنه -أي الإنسان- يُقاد بطريقةٍ ما إلى أن يكون لا أخلاقيًّا أو دعيًّا أخلاقيًّا يرمي بأقنعته في أول أزمة؟

الإنسان هو نواة حائرة دائمة البحث عن خليتها، فإما أن يكون نواةَ جماعةٍ قاتمة تنغلق عليه وتعزله عن أي معرفة، وإما أن يكون نواةَ مجتمعٍ منفتح على العالم ديدنه مواكبة الحداثة والتغيير اللذين يدفعان الإنسان إلى المعرفة الأخلاقية والإنسانية الشاملة دون ادّعاء الصواب.

نواة حائرة تبحث عن خليتها

قرأت مرة عن الشدة المستنصرية، التي شهد عليها المقريزي في أحد كتبه مما حدث فيها من وحشية بشرية وأكل البشر بعضهم بعضًا في تلك المجاعة التي استمرت سبع سنوات. الأمر مشابه أيضًا لمجاعة الصين المعروفة، والتوحش البشري والخسارة الإنسانية الحاصلة حينها. وأيًّا تكن أسباب المجاعة -التي يُرجعها المؤرخون إلى الفساد والفشل السياسي- فالمهم بالنسبة لنا هنا هو حقيقة وجود وحش بشري -كما يذكر في كتاب حيونة الإنسان- من دونه. ويقول إريك فروم في هذا السياق: "الإنسان يختلف عن الحيوان في حقيقة كونه قاتلًا"، فهل يصنع الفساد والفعل السياسي الشائك هذا العبث بالإنسان كما بالمجتمع؟

الإنسان هو نواة حائرة دائمة البحث عن خليتها، فإما أن يكون نواةَ جماعةٍ قاتمة تنغلق عليه وتعزله عن أي معرفة سوى معرفتها وتُصيّره وقودًا يحترق في سبيل الوصول إلى غايات صنعتها له وأوهمته بصنعها، وإما أن يكون نواةَ مجتمعٍ منفتح على العالم، ديدنه مواكبة الحداثة والتغيير اللذين يدفعان الإنسان إلى المعرفة الأخلاقية والإنسانية الشاملة دون ادّعاء الصواب.

ولا بد بالضرورة أن نتساءل عن الفرق بين هذين المكونين (المجتمع والجماعة)، وعلاقتهما بوحشية الإنسان وسقوطه الأخلاقي. وهنا يمكن للتاريخ طرح شواهده، مثلما حدث في الحرب العراقية الإيرانية من اغتصاب الجنود الإيرانيين لآلاف العذراوات حسب اعتقاد ديني يخصهم، وهو أنهم بهذا يحرموهنّ من دخول الجنة. فكان الفعل الإجرامي هنا مكتسيًا معتقداتٍ تخص جماعة معينة، ومندفعًا من حقدٍ دفين على جماعة أخرى، وهذا هو ديدن الجماعات. من جهة أخرى، هناك ما عاناه الهنود الحمر فيما سُمّي باكتشاف أمريكا، من إبادة مبنية على فعل عنصري ينكر على الهنود الحمر صفة الإنسانية فقط؛ لأنهم يختلفون عن الجماعة البيضاء. 

وفي كلتا التجربتين، لا بد من وجود أفراد في هذه الجماعات يستنكرون هذا الفعل الإجرامي، فجميع تجارب الجماعات الإرهابية، وحتى تجارب ما نسميه بالدول الجمهورية -قولًا لا فعلًا- تسجل وجود حالات فردية معارضة، وهم ما يصنفون في أغلب الأحوال بالخونة أو العملاء، وفي كثير من الأحيان يُخفَونَ دونما أي تصنيف، وتشهد على هذا معتقلات التعذيب التي لا تخلو منها أرض، كما في سوريا واليمن والعراق وغيرها، فهي الدليل الأول على افتقارنا للتكوين الاجتماعي السليم.

إن الإنسان الذي يشغر جزءًا في هذا المكون المسمى جماعة، مفروضٌ عليه أن يمتزج بجوهر الجماعة وينحل فيه حتى يتسم بصفاته التي تتضمن الوحشية والاستبداد بالآخر في أغلب الأحوال. فالإنسان هنا لا ينشأ على مبدأ غير الذات (الجماعة) ضد الآخر (المختلف) ويتعلم تسويغ الحجج للأفعال الإجرامية وإلباسها مبررًا دينيًّا أو عِرقيًّا أو حتى طبقيًّا، ويبدع كذلك في تكريس المعرفة العلمية في أفعال الشر التي تبقى مغلّفةً بكونها الصوابَ والحقيقة. فالجماعة صانع الحقيقة، والإنسان مستهلكها.

فهل لهذا الإنسان الذي نشأ على هذه الممارسات اللاإنسانية أن يُظهِر تعاطفًا إنسانيًّا في الأزمات؟

إنه الإنسان الذي تربى على التضحية بالآخر لأجل الجماعة، وهو بهذا يمكنه التضحية بالجماعة والأفراد وكل ما دونه لأجل ذاته.

لا يمكن أن يوجد الإنسان على الذاتية والأنا بالفعل الفطري، بل هي مكتسب ضروري يقوده إليه الخوف، وهذا الخوف هو ما ينحدر به إلى مهالك الجماعات الوحشية.

يقول راسل إنّ الخوف سيئ بكل أشكاله، وأنه "أبو الوحشية" على حد وصفه، وأن الحياة الجيدة هي "تلك التي يلهمها الحب وتقودها المعرفة". وحتى الأساطير اشتملت على معالجاتٍ لهذا الخوف، فأسطورة تحويل إنكيدو إلى إنسانٍ مجردٍ من الوحشية عن طريق الحب، تشير إلى أن الكائن البشري مفطورٌ على شيئين: الخوف والبحث عن الأمان والذات، فمتى ما وجدَ جوابًا ما يُذهِب خوفه ويمنحه ذاتًا، استمات في سبيله، وبهذا المنطق ينضمّ إلى الجماعات التي توهمه بقيمته، لكن هذا الانضمام يربّيه تربية نفسية سامّة بعيدة كل البعد عن قيم الإخاء والإيثار والأخلاق بعمومها، فيصبح ضحية تمارس الإجرام عن قناعة عقلية مجردة من الوعي الأخلاقي، وهذا أسوأ موت للعقل الإنساني.

بين سمو العقل وانحطاطه يقع الإنسان، الفرد الخائف التائه الذي تُلقي به التجارب والخبرات الفردية، نحو أحد الاتجاهين، ولا فرق إن كان يحمل معرفة أم جهلًا علميًّا، فالعلم المجرد لا يمنع الانحطاط الأخلاقي، والجهل العلمي لا يضرب بالسمو الأخلاقي عرض المستحيل.

الضمير هو أعلى مراتب العقل

إن الضمير الإنساني هو أعلى مراتب العقل، والطريق الوحيد المؤدي إليه هو الوعي الأخلاقي، وعلى النقيض، فأحط مراتب العقل الشهوة، التي تشمل الشر وإطلاق العنان للذات، وربما هذا ما وصفه فروم بقوله: "إن الإنسان يبحث عن الدراما والإثارة في الحياة، وحين لا يحقق الاكتفاء بهما من مستويات سامية، فإنه يخلقهما لنفسه من خلال دراما التدمير"، وبالطبع فهذا ما يتصف به المتخم بالجهل الأخلاقي.

فالجهل الأخلاقي ليس هنا نقيض المعرفة الأخلاقية وحسب، بل يُعدّ بالنسبة لممارسيه معرفةً تستند عليها شرورهم، التي بالطبع تعتبر صوابًا وفقًا لهذه المعرفة.

وبين سمو العقل وانحطاطه يقع الإنسان، الفرد الخائف التائه الذي تلقي به التجارب والخبرات الفردية، نحو أحد الاتجاهين، ولا فرق إن كان يحمل معرفة أم جهلًا علميًّا، فالعلم المجرد لا يمنع الانحطاط الأخلاقي، والجهل العلمي لا يضرب بالسمو الأخلاقي عرض المستحيل.

إذن، فجلُّ قضيتنا هي في هذا المكسوب الاجتماعي الذي يحصل عليه الفرد في الأسرة والمؤسسة التعليمية، وحتى المؤسسة العلائقية، فكون الإنسان دائمَ البحث عما يزيل مخاوفه ويجيب أسئلته، ويمنحه قضية يعيش لأجلها، فهو عرضة للاستغلال الفكري والسياسي، والتحويل من كائن بشري إلى بيدق مجرد من الشعور.

وهذا ما ظهر في رواية العمى، التي أراد بها ساراماغو، على حد ظني، العمى الفكري، ولكن الفكر هنا هو تعطُّل الضمير والقدرة على إدراك الحقيقة، حقيقة الإنسانية وحقيقة الأزمة وحقيقة الصواب، وبهذا تحول البعض إلى وحوش بشرية يأخذون النساء مقابل منح الطعام، وبعضهم الآخر إلى وحوش أقل قوة وأكثر انحطاطًا، يضحّون بالنساء ويأخذون الطعام، وبهذا هوى الإنسان من السمو الأخلاقي للعقل إلى انحطاط الشهوة والشر.

والكارثة الكبرى هي أن هذا الانحطاط الأخلاقي المتمثل بحب الذات وكراهية الآخر اللذين يقودان لما دونهما- هذا الانحطاط بدأ يلبس زيًّا أخلاقيًّا ويدرس على أنه فضيلة ويُنشأ عليه، وبهذا أخذت السلطة السياسية وسلطة الطوائف والجماعات تصنع الإنسانَ الذي تحتاج، لا الذي يحتاج هو.

•••
إيناس السبئي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English