ينصرف اهتمام المؤرخين والإعلاميين، فضلًا عن الساسة "المتغلبون"، في معظم الأحيان إلى تناول السرديات الراسخة للأحداث الكبرى وكتابة القشرة البادية من سطح الأحداث، دون الولوج إلى التفاصيل الكامنة خلفها، أو زواياها المتعددة، وخصوصًا في المجتمعات التي اعتادت دائمًا على تلقي السردية الواحدة، والنظر إلى التاريخ من زاوية واحدة. ومن هنا تكتسب المذكرات والسير الذاتية أهمية خاصة في أثناء تقديمها الشهادات الفردية للوقائع والتاريخ، وخصوصًا من قبل الشخصيات العامة المشارِكة في صناعة التحولات التاريخية ولديها القدرة على الكتابة، ذلك أنّ المذكرات ممارسة كتابية ترتبط بالوعي الكتابي وبالجرأة وشجاعة أصحابها، وتكمن أهميتها بوصفها الفن العابر للحدود بين ما هو تاريخي وعام، وما هو ذاتي وفردي، وبين ما هو مرجعي وما هو أدبي، وهذا التموضع البيني للمذكرات بين الأدب والتاريخ، هو ما يتيح النظر إلى الأحداث الكلية أو الكبرى في حياة المجتمعات من زوايا عديدة ووجهات نظر مختلفة، وكلما زاد عدد المكتوب منها، زاد اقترابنا من تكوين صورة كلية عن الماضي وملابساته، وهي إذ تمنحنا متعة التلقي ومعايشة الشخصيات والأحداث والظروف، إذا ما تحقّقَ لها البعد الجمالي في طريقة كتابتها وأسلوب صوغها، فإنها تمنحنا حصانة من أجل فهم التاريخ وتفسير أحداثه؛ لأنها ببساطة تعيد بناء الأحداث، وتصويب الوقائع التاريخية أو تنقض بعض المسلَّمات أو السرديات الراسخة.
تاريخ مفخخ بالصراعات
والخلاصة أن المذكرات "سرد كتابي لأحداث جرت خلال حياة المؤلف، وكان له فيها دور بارز، أو كان له حظ مراقبتها وملاحظتها عن قرب، ومعايشتها عن كثب، مما يتيح لصاحبها فرصة الكتابة عنها ومتابعة التأريخ لها"، وعلى الرغم ممّا قد يَسِم هذه الكتابات بالادعاء وتضخيم الذات، فهي تؤدي وظائفها على المستوى الفردي والاجتماعي، ومن بينها: تقديم صورة عن الذات والدفاع عن مكانتها وتخليد أدوارها، أو دفع الظلم الذي تشعر أنه لَحِق بها أو بالسرديات الأخرى الغائبة عن الناس.
تكريس خطاب زائف تحت عنوان تجاوز جراحات الماضي، وعدم الرغبة في المكاشفة التي يمكنها أن تصنع قطيعة حقيقية من الماضي، كل ذلك مما يجعل كتابة المذكرات محفوفة بالكراهة والمخاطرة، ومجوبة بالحساسيات والتحفظات.
على المستوى اليمني، قد تلفت نظر القارئ ندرة (إن لم نقل غياب) المذكرات السياسية جنوبًا، ولعلّ سبب ذلك يكمن في طبيعة التاريخ المفخخ بالصراعات الدموية خلال الحقبة الماضية، وتكريس خطاب زائف تحت عنوان تجاوز جراحات الماضي، وعدم الرغبة في المكاشفة التي يمكنها أن تصنع قطيعة حقيقية من الماضي، كل ذلك مما يجعل كتابة المذكرات محفوفة بالكراهة والمخاطرة، ومجوبة بالحساسيات والتحفظات، إذا ما استُثنيَ عامل سوسيولوجي مهم، وهو ندرة الوعي الكتابي عند كثير من الساسة، ولم تفلت من ذلك غير كتب قليلة، شاردة ونادرة تمامًا، توفرت لها دوافع قوية للكتابة، مثل (شهادتي للتاريخ) للسياسي الجنوبي الكبير عبدالقوي مكاوي، عام 1976، ولعلها تاريخيًّا أول المكتوب جنوبًا في المذكرات السياسية، أما في السنوات الأخيرة وتحديدًا مع بداية العشرية الجديدة من هذا القرن، بدأت المذكرات السياسية تكسر جدار الصمت، وأخذ بعض الساسة الجنوبيين في إصدار كتبهم بفضل توفر عوامل جديدة، ومنها، في ظني، ذروة الاختناق السياسي الذي تعيشه اليمن الآن، والتحولات العنيفة في ظل الحرب وما أفرزته من أوضاع، أسقطت كل التحفظات، فضلًا عن خروج جيل كبير من المشهد السياسي الحالي، كان عليه -أي هذا الجيل- أن يسجل كلماته ويثبت سرديته للتاريخ، ومن بين هذه الكتابات: مذكرات محمد سالم باسندوة (البداية؛ نضال من أجل الاستقلال) 2022، وما بين مكاوي وباسندوة أكثر من أربعين عامًا من التيه والغياب للكتابة المحرمة!
قراءة سردية الاستقلال
هل لنا الآن بين يدي ذكرى الاستقلال الوطني لجنوب اليمن من الاحتلال البريطاني في 30 نوفمبر 1967، أن نعيد قراءةَ جانبٍ من سردية الاستقلال فيما كتبه الساسة الجنوبيون في مذكراتهم؟! وعلى وجه الخصوص في سردية عشية الاستقلال، التي جاءت -كما هو معلوم- ثمرة صراع عنيف بين أكبر جبهتين خاضتا نضالًا مسلحًا ضد الاحتلال البريطاني: جبهة التحرير، والجبهة القومية. بمعنى آخر: كيف جاءت المذكرات السياسية تعبيرًا عن سرديتين متناقضتين، استطاعت إحداهما أن ترسخ وجودها في التاريخ السياسي الرسمي، فيما ظلت الأخرى تنافح عن نفسها في كتابات أصحابها.
في السردية الأولى، يكتب الرئيس الجنوبي علي ناصر محمد، وأحد قادة الجبهة القومية، في مذكراته (ذاكرة وطن) تحت عنوان "هل سلمت بريطانيا السلطة للجبهة القومية أم اضطرت لذلك؟". ما يشكل محاولة للإجابة عن السؤال وتعزيز السردية الرسمية الراسخة، خلاصتها أن بريطانيا كانت مدفوعة دفعًا للقبول بتسليم السلطة للجبهة القومية والاعتراف بها بوصفها الممثل الشرعي الوحيد لشعب الجنوب وفقًا لبيان المندوب السامي البريطاني همفري تريفليان في الثامن عشر من نوفمبر 1967، ومن خلال سرد اليوميات ومتتالية الأحداث التي سبقت لحظة الاستقلال، يقدم مجموعة من التفاصيل والإجراءات الصارمة التي قامت بها الجبهة القومية، من أجل تعزيز استلامها السلطة، وبينها تجريد القوى الأخرى من السلاح بقوة "الإجراءات الثورية الرادعة"، وأن ذلك جاء من أجل "الحفاظ على الاستقرار الداخلي للجنوب وأمن المواطنين، ومنع أي مظاهر للفوضى حتى إعلان قيام الدولة وتسمية الحكومة، وقد تمت عن وعي سياسي وحسٍّ سياسيّ عالٍ بالمسؤولية". وهذا يشير إلى اللحظات المتوترة التي شهدتها عشية الاستقلال، وأيًّا كانت الحقيقة، فهذه الشهادة التاريخية المكتوبة بعد أكثر من أربعين سنة تحمل في خطابها صيغة تبريرية في مواجهة اتهام بالاستحواذ على السلطة أو اختطافها، كما تقدمه السردية الأخرى الغائبة. (ذاكرة وطن، 2023: 112 وما بعدها).
من طبيعة المذكرات السياسية، التركيزُ على التفاصيل، وعرضها من وجهة نظر أصحابها، وهي ضرورة يبررها سردها بحاجتنا إلى الانتقال من القشرة البادية إلى الطبقة المطمورة، وشيطان المذكرات يكمن في المجمل لا في التفاصيل المحكية.
تتشكل السردية الأخرى لعشية الاستقلال في مذكرات رئيس الوزراء الأسبق، وأحد قادة حزب الشعب الاشتراكي ثم جبهة التحرير، محمد سالم باسندوة (البداية؛ نضال من أجل الاستقلال)، إذ يصف الأجواء الإيجابية التي سادت مفاوضات الجبهتين في شهر الاستقلال: الجبهة القومية برئاسة فيصل عبداللطيف الشعبي، وجبهة التحرير برئاسة عبدالقوي مكاوي، في القاهرة حتى السابع من نوفمبر، ومن بينها الاقتراب من الاتفاق على تشكيل وفد مشترك للتفاوض مع البريطانيين حول انتقال السلطة إلى حكومة مشتركة لإدارة الجنوب، لكن هذا الاتفاق لم ترضَ عنه بريطانيا، بحسب باسندوة، فقد أفشلته، وجاءت صدمة بيان المندوب السامي البريطاني همفري تريفليان "الذائع الصيت في فن حبك الدسائس ورسم المؤامرات وإخراجها إلى حيز التنفيذ"، بالاعتراف بالجبهة القومية فقط، والاتفاق معها وحدها على تسلم السلطة في الجنوب، وبحسب باسندوة وأصحاب هذه السردية، فقد تعرض التحريريون للخداع والانتقام البريطاني. (البداية، 2022: ص236 وما بعدها).
من القشرة إلى الطبقة
وإذا كان من طبيعة المذكرات السياسية التركيزُ على التفاصيل، وعرضها من وجهة نظر أصحابها، فهي ضرورة يبررها سردها بحاجتنا إلى الانتقال من القشرة البادية إلى الطبقة المطمورة، وشيطان المذكرات يكمن في المجمل لا في التفاصيل المحكية التي تقدم صورة درامية للتاريخ، كما أن معدلات التكرار وتنوع المنظورات يجعلنا نلمّ بأكبر قدر من أجزاء الصورة المتخيلة أو الحقيقة الغائبة، وهذا ما تقدمه أكثر المذكرات السياسية الجنوبية تراجيدية تاريخية عن عشية الاستقلال في: (شهادتي للتاريخ) لعبدالقوي مكاوي، أحد قادة جبهة التحرير الذين تبنّوا الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني في عدن، وظل من المنفيين عنها حتى الموت.
يحتدم النقاش بين الاثنين، ويهدّد المندوبُ السامي، الجنرالَ ناصر بريك بالمحاكمة العسكرية، يسخر الجنرال منه، ويقول له لم يعد يهمه ذلك في هذه اللحظة الحرجة من التاريخ، ويتهم البريطانيين بالتآمر وزرع المشكلات للبلدان التي يخرجون منها، كما فعلوا في فلسطين.
يكتب مكاوي في مذكراته، تفاصيل اللحظات الأخيرة التي جمعت الجنرال ناصر بريك العولقي، قائد جيش اتحاد الجنوب العربي، والمندوب السامي البريطاني، والحوار الطويل الساخن الذي دار بينهما بحضور كبار الضباط البريطانيين، وهو يقدم في أثناء ذلك سردية محجوبة عن الذاكرة الوطنية، ولم يُكتب لها الانتشار، وخلاصتها: يُفاجَأ الجنرال بإذاعة بيان المندوب السامي البريطاني حول الاعتراف بالجبهة القومية ممثلًا وحيدًا لشعب الجنوب، يغضب الجنرال ويقرر الذهاب إلى مكتب المندوب السامي الذي يرفض مقابلته، لكنه يصر على مقابلته بقوة، وفي الممر الطويل باتجاه مكتب المندوب السامي يخبر قائد الحرس المندوب عن قدوم الجنرال ناصر بريك إليه، الذي أصبح يعلم بوجود كلٍّ من قحطان الشعبي وفيصل الشعبي في مكتب المندوب في تباحث سري، وهما قائدان كبيران في الجبهة القومية، لم يرغبا وقتئذ في رؤيتهما في مكتب المندوب، وحين يدفع الجنرال الباب يكون الاثنان قد ذهبا للاختباء في الشرفة، يصرخ الجنرال في وجه المندوب محذرًا من السياسة البريطانية التي قد تتسبب في حرب أهلية بين الجبهتين، ويحاول أن يقنعه بالعدول عن هذا الموقف الغريب، وخصوصًا بعدما بدا للجنرال أن البريطانيين كانوا يدفعون ببعض ضباط الجيش الجنوبيين للالتحاق بالجبهة القومية وتسهيل مدّها بالسلاح واحتلال المواقع. يحتدم النقاش بين الاثنين، ويهدّد المندوب السامي، الجنرالَ ناصر بريك بالمحاكمة العسكرية، يسخر الجنرال منه، ويقول له لم يعُد يهمه ذلك في هذه اللحظة الحرجة من التاريخ، ويتهم البريطانيين بالتآمر وزرع المشكلات للبلدان التي يخرجون منها، كما فعلوا في فلسطين، عندئذ تعمد المندوب البريطاني رفع صوته ليسمعه المختبئان في الشرفة، وهو يقول للجنرال: "لماذا تكرهون الجبهة القومية؟!". ذلك ما ينقله محمد البار في (ذكريات وإضاءات، 2019: ص365 وما بعدها)، وقد تعرض الجنرال ناصر بريك للتنكيل، وتم تفجير منزله، وتخبرنا الوقائع التاريخية كيف أفسدت بريطانيا فرحة الاستقلال الوطني، ومارست انتقامها المروع في زرع بذور الحرب الأهلية وتفخيخ الجنوب اليمني بالصراعات الدموية.