تُشكِّل العودة إلى الرواية التاريخية أحد أهم ملامح الخطاب الروائي اليمني في زمن المحنة والحرب، وهو الزمن الذي يبدأ منذ النصف الثاني من العقد الأول من هذا القرن، والذي شهد تحولات كبيرة وعنيفة على مستوى الواقع اليمني، فضلًا عمّا شهده العالم من تحولات كبرى، وصولًا إلى ما نعيشه في هذه الحرب التي نعيش تفاصيلها وتأثيراتها على مختلف أوجه حياتنا، ومن بينها حقل الأدب وكتابة الرواية التي زادت معدلاتها قياسًا بالعقود السابقة، وصنعت المفارَقة المدهِشة بين عُقم الواقع السياسي وخُصوبة الإبداع الأدبيّ، والذي بات يشكّل ردّة فعل إيجابية في مواجهة سنوات المحنة والحرب وتأثيراتها السلبية، فضلًا عمّا يوفره تاريخ اليمن القديم من مادة سردية ثرية قابلة للتوظيف والاستلهام، تجعل من سرديات الماضي شهادة ماثلة في مواجهة مع سرديات الواقع والنكوص!
وقد تنوعت أساليب العودة إلى الرواية التاريخية بتنوع التجارب في الكتابة، منذ "رؤيا شمر يرعش" لأنور خالد 1992، في تناولُه دورَ هذا الملك الحميري في مواجهة الغزاة وتوحيد ممالك اليمن، كتبها عشية إعلان الوحدة اليمنية، في سنواتها الرومانسية الأولى، وليس بغريب أن تنطوي على خطاب "المماهاة"، ثم جاء الغربي عمران في "ظلمة يائيل" 2012، التي عالجت موضوع المهمشين في التاريخ الإسلامي الوسيط، مرّر فيها سردية متخيلة في قضايا الاختلاف والموقف من الآخر، وليس نهاية بوليد دماج في "وقش؛ هجرة الشمس" 2021، والتي تناولت جذور الصراع المذهبي وبداياته في اليمن، وغير ذلك من التجارب المتراكمة في الكتابة التي تنطلق من رؤى متعددة في التعاطي مع المادة التاريخية وتسريدها في أعمال روائية؛ منها ما يوظف أحداث التاريخ ويسقطها الواقع، ومنها ما يستنطق التاريخ ليماثل بين أحداثه الماضية وأحداث اليوم، ومنها ما يذهب بمشكلات الواقع وفجائعيته إلى التاريخ، فيؤول أحداثه الماضية بقراءة معاصرة، ولم تعد العودة إلى التاريخ مجرد لحظة رومانسية في الكتابة أو مجرد بدايات في الكتابة تستلهم التاريخ؛ ما يستدعي التأمل في دلالة هذه العودة ودوافعها.
وستندرج رواية (قوافل البخور)، لصالح السحيقي، في إطار هذا الاشتغال على التاريخ والوعي بدلالاته. تعضد الكاتب في انتقاله إلى مجال الرواية التاريخية خبرتُه بتاريخ اليمن القديم وحضارته، في أثناء اشتغاله البحثي على كتابين على الأقل، هما: "تاريخ الملك أبي كرب أسعد الكامل"، و"هندسة البناء والتشييد في حضارات اليمن القديم"، ما يرفع من أفق توقعات القارئ بمادة سردية تنطوي على دهشة خاصة، مصدرها المعرفة في المزاوجة بين ما هو مرجعي وتخييلي، ولن يكون سياق التلقي، بكل مشكلاته الآن، بعيدًا عن أفق خاص تصنعه لحظة الكتابة.
في الموضوع الروائي الذي يتناول جانبًا من التاريخ اليمني القديم (التاريخ الحميري)، جاءت الرواية بعد تجربتين في هذا التناول، هما: "رؤيا شمر يرعش" لأنور خالد، و"الدائرة المقدسة" لبسام شمس الدين 2009. وما يميز "قوافل البخور" أنها جعلت التاريخ مجرد إطار لموضوع الرواية الذي يخبو فيه التاريخ بأحداثه ووقائعه وشخصياته لصالح التخييل الذي ينشئ سرديته على قصة قافلة تجارية تجوب مدن اليمن وشمال الجزيرة العربية في رحلة تجارية تنطلق من حريب، في وسط اليمن، وتصل بها جنوبًا إلى ميناء قنا، وشمالًا إلى مدينة غزة، وفي أثناء حركة القافلة التي يقودها "شرحبيل" الشاب الذي يخلف أباه في تجارة البخور واللبان، ويتوفر على علامات النبوغ والحكمة في تجنيب القافلة مشاكل وأخطار عديدة؛ إنها قافلة للاكتشاف- نتعرف على جانب من جغرافية العالم القديم وقوانينه، وتقاليد تكوين القوافل وطقوسها، ونظامها في التجارة، وطرق وممرات التجارة في العالم القديم؛ طريق أسعد الكامل، وطريق الحرير، والطرق الفرعية البديلة، وغير ذلك من المعلومات التاريخية التي حملها إلينا التخييل من عالم التاريخ إلى عالم الرواية، في بنية سردية تعتمد على التشويق والمغامرة، في أثناء معايشة تفاصيل حركة القافلة وما تواجهه من أخطار؛ كالتمرُّد، واللصوص، والحيوانات المفترسة، والمرض والموت، وغير ذلك من التفاصيل التي تسربت من خلالها جوانب عديدة عن الحياة الاجتماعية التي نكتشفها من خلال رحلة القافلة، والتي تتحول من رحلة تجارية، إلى رحلة في تفاصيل الحياة الاجتماعية التي عاشها الناس في المجتمع القديم، وهذا أحد عناصر الدهشة في الرواية.
تتخذ الرواية بنية النص الرِحلي، ولعلّ موضوعها استوجب تخيُّر هذه البنية السردية، ما خلق تعالُقًا نصيًّا بين أدب الرحلة والفنّ الروائي، وغنيٌّ عن البيان أنّ أدب الرحلة ينطوي على العديد من الاختيارات؛ منها الواقعي الذي يقوم به الكاتب في العالم الذي ندركه، ومنها التخييلي، الذي قد يتجاوز في بعض الأحيان حدود التاريخية إلى الفانتاستيكية والعوالم غير الطبيعة، وغنيٌّ عن البيان كذلك أنّ فنّ الرواية يستقطب العديد من التقنيات والأساليب من الفنون الأخرى، ويدمجها في بنية روائية تمنح كلَّ نصٍّ خصوصيته وإنتاجيته، وفي "قوافل البخور" نحن بصدد بنية سردية مستمَدّة من أدب الرحلة، ما يمكن إيجازه في الآتي: (الدوافع، الإعداد، البداية، الانتقال أو الارتحال،، نقطة الوصول، ثم العودة) وهذه عناصر تتسم بالخطيّة على المستوى الزماني: (رحلة تجارية في نحو ثلاثة أشهر)، وفي المستوى المكاني: (الانتقال التعاقبي في الأمكنة: تمنع، مارب، قنا، نشق، قرناو، براقش، نجران، العقبة، غزة، هجر سمعن، ظفار ذي ريدان، بينون، صرواح، مارب. وهي الأمكنة التي حملتها عناوين فصول الرواية) ثم على مستوى الموضوع الرحلي: (المشاهدة، الاكتشاف، المعلومات، معرفة الآخر، الوصف) وسوف يستقطب الوصف مجمل عناصر الرواية، بوصفه العنصر الجوهري في كلٍّ من الرحلة والرواية.
وقد استطاع الراوي توظيف عنصر الوصف الرحلي في تمرير العديد من المعلومات التاريخية، منها على سبيل المثال، طريقة بناء السدود وصيانتها، ومنها: سد مارب، البناء العمراني القديم، بناء المعابد والقصور والحصون، طريقة كتابة النقوش ونحت التماثيل، وغير ذلك ممّا يدخل في زمننا في علم الآثار، وصف المدن والطرق والممرات ومحطات القوافل، والخصائص الطبوغرافية في أثناء مرور القافلة بالأمكنة المتعددة، أحوال الناس بين مشابهة ومغايرة، والأخيرة تبرز في أثناء الانتقال باتجاه شمال الجزيرة العربية، حيث الفينيقيون وأهل غزة، ممّا يدخل في باب الاكتشاف والمغامرة وكتابة الاختلاف. سرد وصفي مسهب في بناء صور عن الحياة القديمة، يتراجع فيه الحدث، أو يكاد يخبو لصالح عنصر الوصف الذي يحمل العديد من المعلومات التاريخية التي ربما يطلّع قارئ الرواية على تفاصيلها للمرة الأولى، لوحات ومشاهد ممّا يتصل بالحياة الاجتماعية والنشاط التجاري الذي كانت اليمن إحدى ركائزه في العالم القديم، وهنا مكمن دلالة الخطاب الذي يلقاه قارئ اليوم المفارِق لكلِّ تفاصيل ذلك التاريخ، وقد حملت الرواية خطابًا في الهُوية والانتماء، من خلال الإشارة إلى الهجرات التاريخية التي دفعت باليمنيين إلى خارج مجالهم الجغرافي، ومشكلة تولد أجيال من أحفاد المهاجرين القدامى الذي استقرّوا في مدن العالم القديم ومعاناتهم في الانتماء، وكأنما الرواية تؤكّد على تيمة الهجرة والهُوية ومشكلاتها منذ القدم (قصة التاجر يامن، حفيد أحد التجار اليمنيين المهاجرين ممّن يعانون من مشكلة الهُوية في البلدان التي هاجر إليها أجدادهم، ص213-217). وهناك العديد من القضايا الموضوعية والجمالية التي حملتها الرواية في لغة سردية عذبة لم تخلُ من التصوير والتشويق، تجعل القارئ وكأنه يسير في رحلات قوافل البخور كتفًا بكتف، وخطوة بخطوة، ويكتشف تفاصيل العالم القديم من خلال انخراطه في لعبة التخييل والاكتشاف والمقارنة.