في بداية سبعينيات القرن الماضي ونحن طلاب في الإعدادية، كان الأستاذ أحمد علي الهمداني أستاذ اللغة العربية الذي تتلمذت على يديه هو والأستاذ فيصل صوفي وتلقيت منهما دروسًا ثرية في حصص اللغة العربية، وحصّلت منهما تشجيعًا لي على مثابرة الطريق نحو الشعر والأدب، بعد أن اكتشفا موهبتي الشعرية النامية حينما أريتهما أولى قصائد المراهقة الشعرية. كان الهمداني يشجعنا على فطرية الشعر وموسيقاه، بينما الصوفي ينمي فينا الحاسة النقدية والتحليلية.
وذات يوم ألقى الأستاذ الهمداني في حضني كتيبًا أخضر، بدا لي أنه ديوان شعر، وقال لي :
احفظ قصائد من هذا الديوان، ستفيدك في تنمية موهبتك الشعرية.
كان الأستاذ الهمداني من مدرسة حفظ الشعر العربي من الجاهلي حتى يومنا، وكان يُلقي على مسامعنا مقتطفات من الشعر العربي في دروس اللغة العربية وفي خارج الفصل في الباحة، ويسمعنا أبياتًا من محفوظاته الواسعة الطيف من الشعر الجاهلي والأُموي والعباسي وحتى شعر الإحياء وإلى شعر الجرادة ولطفي أمان والزبيري وغيرهم.
كان هذا الديوان المتواضع الطباعة بطباعته المحلية، الذي ألقاه الأستاذ بين أحضاني، هو أول بطاقات التعارف بيني وبين الشاعر الذي لا يفصل بيتي عن بيته سوى بضعة شوارع في قسم (بي) في الشيخ عثمان، فأنا أقطن في شارع (١١)، ومنزله في شارع (٧)، وهو نفس الشارع الذي يقطنه الأستاذ الهمداني، بينما الأستاذ الصوفي في شارع (٩)، وبعدها شارع رقم (٨)، وهي حارة الشيخ وإمام مسجد الهاشمي والأديب والإذاعي المرحوم الشيخ عبدالله محمد حاتم.
وهذا الديوان الذي ألقاه الأستاذ الهمداني بين أحضاني، كان أول لقاء لي بالشاعر إدريس حنبلة صاحب الديوان الأخضر الغلاف، جاهدت نفسي أن أحفظ قصائد من هذا الديوان أو حتى أبياتًا منه لتدريب النفس على حفظ الأشعار، لكنني لم أجد نفسي في هذه المنطقة، لا لشيء في شعر الشاعر حنبلة، بل لأني لست من طائفة الحفظ التي كانت مدرسة شائعة في تدريب الشعراء على حفظ أكثر من ألف بيت من شعر الشعراء الذين سبقوك حتى تصير شاعرًا مفوهًا وتنطلق في نظم الشعر.
تبدّل الزمن وتغيّرت الأحوال، وحياة البادية حيث الفصاحة ونقاء اللغة وصفاء الشعر تبدّلت إلى حياة مدنية اختلطت فيها لغة الأدب والشعر مع لغة الصحافة والعامية، وكنت شخصيًّا لا أحبذ الحفظ بل الاستمتاع بالتحليل واتباع الفطرة ومجايلة العصر، وبدا لي أن شعر الشاعر حنبلة (العمودي) وموضوعاته الذاتية المفرطة في هذا الديوان، ليس من زماني. ففشلت في المهمة وأرجعت الديوان للأستاذ الهمداني دون أن أحفظ بيتًا، ودون أن أنبس بكلمة معبرة عن الرضا أو النفور، ولكنني بقدر ما صعب عليّ حفظ الشعر استمتعت بقراءة شعر تجلى فيه وجه من أوجه كتابة الشاعر إدريس حنبلة، وهو الشعر الوجداني.
بين مكانين.. بين أستاذين
كانت القرابة المكانية بين الأستاذ الهمداني والشاعر إدريس هي ما جعلت من الأول يتنكب خطوات الثاني قربًا وصداقة وتعلمًا من مدرسة هذا الرجل الذي خاض الحياة صراعًا بين حياة سياسية عاصفة في فترة الخمسينيات والستينيات والعمل النقابي الذي كان في ذروة نشاطه الوطني والثوري، وبين تنقل في قيادة وإدارة المنظمات والفرق الرياضية والفنية والاجتماعية وتجارب قاسية في السجون والمعتقلات.
وإزاء هذا الطود الشامخ لإنسان وشاعر وسياسي وتربوي ووثائقي وأستاذ ومعلم هو إدريس حنبلة، ربط الهمداني ذلك الشاب اليافع والشاعر الشاب المتخرج حديثًا من الثانوية العامة حبل صداقة، وجلس على كرسي تلمذته أمام هذه الشخصية الشاملة، وظل يرافقه ويجاوره وينهل من تجاربه الغنية، الشعرية والسياسية والنضالية والإدارية، ويكرس جزءًا كبيرًا من حياته الأدبية والنقدية والبحثية الأولى لهذا الشاعر والمناضل المهمل القابع وحيدًا دون زوجة أو عائلة، مدرسًا للغة الإنجليزية أو منظمًا لمكتبه التوثيقي الرائد.
زد على ذلك أنّ حالة الحصار والمراقبة السياسية والأمنية للشاب الهمداني في السنوات الأولى من السبعينيات التي جعلته في حالة دائمة من التوجس الأمني، دفعته لجعل المناضل والسياسي ستار حماية ومصدًّا من كل تطفلات بعض مناضلي مرحلة العنف الثوري المنظم. ولقد امتد الفضل بينهما إلى أن يتوسط الشاعر الحنبلة لدى أعلى قيادة سياسية في الحزب لمنح هذا الشاعر الشاب والأديب والمتفوق منحةً دراسية، وكان له ما أراد وحقّق أمنيته بالتخرج بالدكتوراة في الأدب الروسي وفي أدب تشيكوف تحديدًا، وانطلق قطاره إلى ما هو عليه من رفعة في عالم الأدب والنقد والبحث والترجمة، وذلك بفضل من الله وبتاريخ ناصع لمناضل استحق الاحترام، وإن لم ينل حقه من التكريم والمكانة يوم كان يمشي في الشارع مع الأستاذ الهمداني أو الأستاذ يونس مدرس اللغة الإنجليزية الآخر أو مدرس اللغة العربية المفوه عبده سعيد صوفي، بكل تواضع ودون وجاهة أو منصب، أو يدور بين فصل وفصل مدرسًا ومعلمًا بكل تواضع التربوي، وقد كنت أحد طلابه في إعدادية (٣٠ نوفمبر) في الشيخ عثمان - عدن.
لذا فإنّ كتابات ودراسات د. أحمد علي الهمداني هي أصدق الكتابات وأدقّها بحثًا ونقدًا وتعريفًا بحياة وإبداع هذه الشخصية التي أهملها الساسة، وتركه النقابيون ولم يلتفت إليه المناضلون الذين تولوا المناصب وقيادة الدولة وتركوه وحيدًا، لأنه ليس من جيل حركة القوميين العرب، بل كان بعثيًّا في إحدى مراحله السياسية ونقابيًّا حرًّا، ثم ترك الحياة النقابية بعد انحرافها عن مطالب الاستقلال الناجز، وظل عصاميًّا وانكفأ على ذاته يقلبها بين صفحة الوجدانيات والصداقات.
نعم، من أراد قراءة حياة الشاعر العصامي والمناضل السياسي والنقابي ويقلب صفحات حياته، فإن الشاعر والناقد والباحث أحمد علي الهمداني قد كرس كتاباته الأولى لهذا الشاعر المظلوم تاريخيًّا ونقديًّا، واستطاع أن يجلي غبار النسيان والإهمال عن شخصية سطرت أنصع اللحظات النضالية في تاريخ عدن الخمسينيات والستينيات، حيث كان صوته النضالي جهوريًّا في وجه الاستعمار وعملاء الاستعمار، وكان شعره النضالي صحيفة ناطقة بكل الأحداث الجارية ومواكبة لكل نضالات عدن والجنوب اليمني المحتل من نضال مدني سلمي عبر النقابات والمنظمات أو معبرًا عن التأييد للكفاح المسلح والنضال الثوري.
أقصت السلطة الوطنية من تاريخ النضال والكفاح ضد الاستعمار أيَّ حديث عن دور الحركات الوطنية المناضلة ضد الاستعمار سلمًا ومدنية بالقلم أو السياسة أو الشعر أو أي شكل من أشكال من النضال المدني واقتصر تدوين تاريخ النضال بتاريخ الكفاح المسلح.
الشعر بين السياسة والجمالية
الشاعر إدريس حنبلة، سفر نضالي من تاريخ الحركة الوطنية في الجنوب اليمني، وإذا كانت المرحلة النضالية المدنية المتمثلة بنضالات الحركة النقابية والإضرابات العمالية والمظاهرات والمواقف السياسية للأحزاب السياسية والآراء المتقدمة لبعض الشخصيات الوطنية، قد أكلتها مرحلة الكفاح المسلح واستلام السلطة من لدن إحدى هذه الحركات المسلحة (الجبهة القومية) وقضت على تاريخ الحركة الوطنية والنضال المدني والشعبي الذي كان له الفضل في التعجيل بيوم الاستقلال في ٣٠ نوفمبر ١٩٦٧، حيث كان لا يُعترف بالنضال ضد الاستعمار إلا بمن حمل السلاح وقاد المعارك، وتجاهل حكام السلطة الوطنية الناشئة بعد الاستقلال دور النضال المدني والسلمي ضد الاستعمار.
ولقد مس هذا التجاهل التاريخي للنضال المدني غير المرتبط بالكفاح المسلح والذي تقدم انبثاق ثورة ١٤ أكتوبر ١٩٦٣ ومن بعدها حتى يوم الاستقلال، مسّ كثيرًا من الشخصيات الوطنية الذين كان لهم دور في النضال ضد الاستعمار، ومِن ضمن مَن تم تجاهلهم الشخصية الوطنية والنضالية الشاعر إدريس حنبلة.
لقد كان احتكار السلطة من قبل التنظيم السياسي الجبهة القومية وشطبها لكل المناضلين والنضالات الوطنية في مراحل مواجهة الاستعمار وعدم إشراكهم في الحياة السياسية، بل والتشكيك في نضالية عددٍ منهم، خطأً تاريخيًّا من قيادة الدولة الناشئة.
لقد أقصت السلطة الوطنية من تاريخ النضال والكفاح ضد الاستعمار أيّ حديث عن دور الحركات الوطنية المناضلة ضد الاستعمار سلمًا ومدنية بالقلم أو السياسة أو الشعر أو أيّ شكل من أشكال النضال المدني المناهض للاستعمار، واقتصر تدوين تاريخ النضال ضد الاستعمار بتاريخ الكفاح المسلح، وهذا ما أقصى من المشهد السياسي والنضالي طائفةً واسعة من المناضلين المدنيين غير المقاتلين.
وهو ما وجدنا عليه الشاعر إدريس حنبلة الذي خاض نضالًا مريرًا ضدّ الاستعمار وأعوانه، وسجّل التاريخ له صفحات ناصعة من النضال الدؤوب في مقاومة النظام الاستعماري الحاكم في عدن بالكلمة الشعرية والمواقف السياسية الصلبة.
ولولا أنّ الشاعر حنبلة كان يخلد مواقفه السياسية ودعواته النضالية بالكلمة الشعرية والخطابات السياسية، لضاع تاريخ هذا الشاعر المناضل في رمال الإهمال وتحت تراب النسيان، فإنّ القيمة التاريخية لشعر إدريس حنبلة خلال مرحلة الاستعمار أنها صارت سفرًا مكتوبًا دون مواقف الشاعر النضالية، وسطرت أحداثًا سياسية مهمة ودونت بالشعر تاريخًا أهمله الرفاق الحكام الجدد طوال فترة حكمهم الشمولي، وما كان كل كلمة كتبها أو شعر ألقاه ونشره إلا استحضارًا لتاريخٍ كان لا بد أن يأخذ موقعه في المشاركة السياسية وفي صياغة التاريخ لنضال شعب الجنوب دون ابتسار أو غمط حق أو تجاوز مرحلة نضالية ما على نحو تراتبي وتراكمي من أول الهبَّات الشعبية حتى الكفاح المسلح، وبينهما يأتي التاريخ النضالي المدني والسلمي والسياسي باعتباره من المقدمات النضالية والوطنية لمرحلة الكفاح المسلح المنظم الذي اندلع في ١٤ أكتوبر ١٩٦٣. وهذا ما لمسناه من تجاهل وإنكار وإهمال لتاريخ شخصيات وطنية لعبت دورًا مهمًّا في مرحلة ما من أصعب مراحل النضال الوطني ضد الاستعمار.
الشعر السياسي بين القضية والفن
كتب الشاعر إدريس حنبلة في مجرى حياته السياسية والنضالية ضد الاستعمار أشعارًا ذات نفحة سياسية فاقعة، ولقد أخذته نبرته السياسية حينها بأن جعلت من شعره خطابيات أهملت فنون الجمالية الفنية حتى كان المضمون السياسي يطغى على الملمح الفني والتذوقي.
يقول د. أحمد علي الهمداني في مقدمة المجموعة الكاملة - الجزء الأول:
"وقد عني الشاعر بالقضايا الوطنية أكثر من اعتنائه بالشعر نفسه، ولكننا نجد إخلاص الشاعر لقضاياه كل الإخلاص. ومن باطل القول أن يصف ناقدٌ شعرَ إدريس حنبله السياسي بأنه جاف؛ إذ كيف يمكن أن نطلق صفة الجفاف على شاعر نحس فيه بحرارة الحياة؟".
ومما يحسب لشعر إدريس حنبلة السياسي أنه صار سفرًا لكتابة تاريخ تلك المرحلة من وجهة نظر الشاعر، ولكنها مفتوحة على الكتابة التاريخية الموضوعية لرصد الأحداث ومتابعة المواقف السياسية.
ولأن الشاعر حنبلة كان صوتًا عالي الصرخات غير مبالٍ بالمترتبات الناجمة عن تأثير شعره المناهض للاستعمار وللوجود الاستعماري، وداعيًا إلى الحرية والاستقلال بعيدًا عن التبعية، فقد كان حظه من السجن ليس قليلًا أو يسيرًا، فقد يقول قصيدته ومخدته بيده، ولا يجاريه في تجربة السجون إلا الشاعر المبصر عبدالله البردّوني.
بقدر ما كان يضع نفسه في المقام السياسي الرفيع حين يباشر مواجهة الاستعمار، كان -بالقدر نفسه- على استعداد أن يجد في نفسه إنسانًا طبيعيًّا يبحث عن الصداقة والإخاء الإنساني والتأمل الحياتي.
بين النضالية والذاتية
يجهد شعراء القضية في أن يبتعدوا من ساحة الكتابة عن الذات والولوغ في تفاصيلها، سعيًا منهم إلى نفي الذاتي في شعرهم؛ باعتبارهم حملة قضايا كبرى، وإن الشروع والإفراط في التحدث عن الذات سلب للقيمة النضالية للشاعر المناضل وتقليل من مكانته السياسية، بل إن البعض من الشعراء يرى في هذا المنحى انتقاصًا أو انحرافًا عن الصورة النمطية للشاعر المناضل والمجاهد في سبيل قضية كبرى.
وقد تجد شيئًا من الشعر الغزلي في أشعار هؤلاء، نحو الحبيبة أو الأم أو المرأة عمومًا، لكنها في كل الأحوال تكون إما مرمّزة لوطن أو حبًّا حقيقيًّا وعشقًا دائمًا ما يكون نادر الكتابة.
في تجربة الشاعر إدريس حنبلة، ثمة مفارقة تستحق الالتفات النقدي والمتابعة الموضوعية لظهور حالتين أو تجربتين من الشعر في دواوين وقصائد الشاعر، تتمثل بين قصائد أو دواوين في الشعر السياسي المحض وبين الانغماس الداخلي للذات.
ففي الأولى نجد الخطابية الصارخة البعيدة أحيانًا عن الحليات الفنية والصور الجمالية، وارتكازها على المضمون السياسي والخطابية المباشرة، وكأن الشاعر يقف خطيبًا أخفى ملامح إنسانه وشخصيته لصالح الموقف السياسي وجهورية الخطاب الشعري في نقع الجراح من داخلها بمبضع الشعر الحديدي وبكلماتها وجملها التي تصل إلى حد العادية.
وفي الجانب الآخر، يتجلى في الشاعر ونصوصه الوجدانية انغماسًا في الذات ومخاطبات وجدانية ومشاعر إنسانية وتجليات جمالية، لا تظهر ذلك الشق الصلب في نصوص الشاعر السياسية بل تتجاوزه إلى مدى آخر ولغة أخرى وعواطف ذاتية، وتنقلب من المدرسة الواقعية إلى المدرسة الرومانسية، كما في التقسيم السكولائي (المدرسي).
فما الذي يجعل الشاعر الثائر يتحول بين عشية وضحاها من دار سياسة ونضال إلى دار صداقة وإخوانيات وجدانية ووقفات تأملية؟
في اعتقادي أن الشاعر أدريس حنبلة، من خلال معايشتي المتواضعة معه كطالب وكشاعر زائر له في مكتبه فيما بعد، تجلت سيمياء الرجل في كونه شخصية لا تحمل صفة الأنا العالية بل كان في منتهى التواضع وعدم البحث عن مقام أو منصب.
إدريس حنبلة لديه من القدرة على عدم اصطناع شخصية مقامية، بل كان أقرب إلى الشخصية الشعبية المتزنة الأركان مقامًا وتماسكًا داخليًّا.
لذا أرى أنه كشخص وإنسان لا تعنيه تفصيل الشخصية إلى حالة حدية واحدة، بل كان يمكنه أن يجعل من ذاته متنوعة الشخصيات ذات معانٍ مختلفة، فهو في حياته العادية ابن الحارة، وفي المدرسة المعلم المثابر في تحصيل حصة الدراسة، وفي المجلس يتوزع بين الرصانة ولين المعشر وصاحب الحديث الطريف، وبين الناس الباحث عن الصداقات والقربى الإنسانية.
إذن فهو شخصية لا تبحث الوجاهة، ولا تحفظ لنفسها إلا مقام الشراكة الإنسانية مع الآخرين، فلا غرو أن نرى هذه الصفات، وأن يكون وهو في قمة نشاطه السياسي باحثًا عن معاني الصداقة والوجدان والتأمل الذاتي دون وجل ممن يخدش ذلك الاتجاه المناضل حول قضية وأن يعد نفسه سياسيًّا مفرطًا في تقمص السياسي على حساب الإنسان بداخله، فأطلق العنان لمكنوناته الذاتية والتعبير عن وجدانياته دون حساب للشخصية السياسية؛ بدليل أنه حين اعتزاله الحياة النقابية اشتغل في أعمال إدارية، منها إدارة فرقة أحمد أحمد قاسم الغنائية، وقبلها إدارة فرق رياضية.
الشاعر إدريس حنبلة بقدر ما كان يضع نفسه في المقام السياسي الرفيع حين يباشر مواجهة الاستعمار، كان -بالقدر نفسه- على استعداد أن يجد في نفسه إنسانًا طبيعيًّا يبحث عن الصداقة والإخاء الإنساني والتأمل الحياتي.
وهذا ما صاغه شعرًا منذ بداياته حتى أخريات عمره حيث تناوب في شعره بين السياسي والإنساني، بين القضية والوجدان، بين شرف النضال وجلال البحث عن الذات دون حرج أو اختلال في وضع شخصيته في المقام العالي أو الإنسان العادي.
ومن هنا تنوعت كتاباته الشعرية، بين الموضوعي الهادف والموجه وبين الذاتي الباحث والمتأمل.
إدريس حنبلة.. رجل التوثيق
كان إدريس حنبلة متنوع النشاط، وأبرز نشاطاته كان في تأسيس التعليم الأهلي حيث كان مؤسسًا لمدرسة النهضة وعند توحيدها بمدرسة بلقيس أصبح سكرتيرًا للمدرستين، وكان له دور في قيادة وإدارة الاتحادات والندوات الثقافية والموسيقية والرياضية والكشفية. كان رجلًا شاملًا في الاشتغال الاجتماعي والإبداعي إلى جانب النشاط النقابي والسياسي في مرحلة الوجود الاستعماري.
إلّا أنّ النشاط اللافت في حياة حنبلة اهتمامه بالتوثيق، وكانت هذه هواية بل مهنة رافقته حتى آخر أيام حياته، حيت أسس مركز حنبلة للتوثيق، ضمّ كل ما لا يخطر ببال أحد من تذاكر الريل (قطار عدن) حتى آخر قصاصات الباصات، ضم المركز وثائقيات تبدو غير ذات بال، لكنها كانت تستقصي الوجود الآني واليومي في مدينة عدن وأهلها وبنيانها وعمرانها وحركة حياتها وذكريات شخصياتها الخاصة والعامة وأبرز شخصياتها الوطنية والتربوية والاجتماعية والرياضية.
هذا المركز الذي كان موقعه في قسم (سي) في الشيخ عثمان، ظل في حياة الشاعر وبعد وفاته بزمن مركزًا لتجمع الأدباء والشعراء، ومنهم الأدباء الشباب في الثمانينيات والتسعينيات، وأنا كنت واحدًا من رواده، لكنه بعد رحيل الشاعر تقاسمته لعنات الأقرباء في حمى شهوة شراء العقارات، وتناثرت أشياؤه، وقيل إنها سُلمت لجامعة عدن، ولكن لا أثر لهذه الموجودات التاريخية القيّمة أو أنها ما زالت في رفوف النسيان والإهمال.
هذا المركز قيمته وهدفه الذي ابتغى منه الشاعر حنبلة، بعيدًا عن مفهوم توثيق كبرى الأحداث وتاريخها، أن يوثق التاريخ اليومي للأماكن والناس وحركة الحياة في عدن في مختلف مراحلها الاستعمارية والوطنية.
كانت المقتنيات المحفوظة على بساطتها تمثل تاريخًا للمدينة عدن منذ مئة عام أو يزيد، يمكن لأي مؤرخ حصيف أن يجد تاريخًا يمشي على الأرض.
وهذه الخاصية التي تمتع بها الشاعر حنبلة في التوثيق، ربما تجسد إحساسه بانفلات الزمن من يدي العامة، ولكن قبضة الشاعر حنبلة كانت تبحث عما يجمد زمانها بين يديه ويحيلها إلى ذاكرة متجمدة المكان والزمان تحكي قصتها في قصاصة أو صورة أو وثيقة أو ما شابه.
وكما كان الشاعر إدريس ينفعل بالأحداث التي عايشها وترجمها في كلمات وصور تشتعل في أبيات قصيدة، فإن إحساسه بالمكان الثابت وأشياؤه المتداولة كانت بحاجة إلى ترجمة تواصل معنا.
وهكذا اكتملت صفة التوثيق الشعري للأحداث والشخصيات والمواقف والانفعالات مع صفة التوثيق المكاني والإنساني للحياة وللعمران، لتولد الشخصية المشتركة للشاعر والموثق في شخص إدريس حنبلة.
ظل إدريس حنبلة، ذلك الشاعر المناضل السليط بلسانه الوطني والثوري ضد الاستعمار وأعوانه، يتراوح بين حياة المعتكف الزاهد ورغبة المتطلب للآخر الصديق أو الرفيق.
رؤية شخصية لشاعر كهل مهمل
الشاعر إدريس حنبلة كما رأيته شخصيًّا معلمًا وأستاذًا ثم رفيقًا للأدباء، كان يبدو لي كثير التمسك بوجوده الحاضر مع من يقابله، إنه مثلًا كان يجز على الكلمات المنطوقة من فمه، كما كانت تبدو حركة جسده وانفعالاته وأحاديثه تريه كشخص جدّي وربما صارم التعامل مع الآخر، وإذا بدت الفكاهة منه فإنها على سبيل المزحة الجادة.
صحيح أنّنا بصفتنا تلاميذ له، يبدو هذا الأمر طبيعيًّا لمعلم يُظهر الجدية في تصرفاته، لكننا بعد أن تجاوزت علاقتنا به إلى أبعد من شخصية المعلم، إلى شخصية الشاعر الكهل صاحب التجربة الطويلة في مضمار الشعر والسياسية، كانت ملامح الموضوعية والجدية تجعله في مضمار الإنسان الباحث عن مكان في الأرض وعن معنى في المكان.
ربما هذا التجاوز عن طبيعة الشخصية العادية تجعله محل استفسار، وربما محل بعض من السخرية المكتومة لدى التلاميذ، خاصة حين يُلقي أشعارًا أنجلو عربية ساخرة.
لكن الشاعر الكهل، وقد تركه الزمن وغادره الأصحاب وتغيرت الأوضاع دون التفاتة تقدير لشاعر مناضل أمام صبيان الساسة، ظلّ في مرحلةٍ ما يضع المعلم والأستاذ الذي بقي له محط تواصل من نوع آخر مع الحياة والناس.
وكان تواصله مع الوجود الباقي له إما بالسخرية مع الآخر الذي لا يفقه مكانته، أو بالتفرغ الذاتي والانكفاء على النفس.
لقد تركته السياسة أو تركها طوعًا، وتحقّقت أوضاع ثورية لم تلتفت لرجالات النضال السلمي قبل الاستقلال، بل شرعت في تشريد أكثرهم، وبقي هو صامدًا في مكانه غير طامع بوجاهة، واختار المعلم شخصيةً، والطلاب محيطًا مقربًا، والتدريس والتعليم مهنة.
ولذلك ظل الشاعر المناضل، طوال مرحلة الاستعمار يناضل نضالًا سلميًّا بالكلمة والقلم، وبممارسة العمل السياسي والنقابي، قيمة مهدرة وصفحة للنسيان الآني، لا يعرف قيمتها إلا بعض السادة الحكام الرفاق إذا اقتضى أمر الوصول إليهم منه بطلب إنساني لآخرين محتاجين لعونه واستخدام سلطته المعنوية عليهم.
ظل إدريس حنبلة، ذلك الشاعر المناضل السليط بلسانه الوطني والثوري ضد الاستعمار وأعوانه، يتراوح بين حياة المعتكف الزاهد ورغبة المتطلب للآخر الصديق أو الرفيق.
وهذا ما عبرت عنه دواوينه التي نظمها في فترة ما بعد العام ١٩٦٧، حتى مماته في التسعينيات.
ربما غلبة العمل الإداري الحر في حياة الشاعر، جعلت منه نظاميًّا وجادًّا في نظر البعض، لكن داخله الإنساني والشعري كان يبحث عن الآخر ليكمله، وهو ما ترجمه في شعر الذات والإخوانيات والأصدقاء.