انحطاط وفشل وارتهان

ماذا لو أبصرَنا "ابن خلدون" اليوم؟!
قادري أحمد حيدر
March 30, 2023

انحطاط وفشل وارتهان

ماذا لو أبصرَنا "ابن خلدون" اليوم؟!
قادري أحمد حيدر
March 30, 2023

إلى روح الصديق الأستاذ الجليل الفقيد عبدالله أحمد علوان الحناني "الذبحاني". 

هو صديق العمر الجميل. في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، كانت بداية علاقتنا الفكرية والسياسية والثقافية. كان أجملنا وأنبلنا وأكثرنا فروسية، وجدارة بصفة ومعنى، المناضل/ المثقف والإنسان. كان كبيرًا وكثيرًا في كل شيء؛ في التضحية والفداء والعطاء، دون مَنّ.

كان خيمتنا الكبيرة الأنيقة، والحضن الدافئ بالحبّ والحنان، بما فيه العطاء المادي والمعنوي، والعطاء المعرفي، والشعري، والفكري، والنقدي. يمكنني القول إنّنا من جيل واحد، كان هو في طليعتنا، نجد فيه خلاصة عبير المحبة والصدق، ومنتهى الجمال في الوفاء والعطاء.

الأستاذ الصديق الفقيد/ عبدالله علوان، شخصية ثقافية إنسانية عصامية، صنعت وحفرت مجد اسمها بقدراتها الذاتية الخاصة، دون مساعدة المدرسة والجامعة؛ كان بحد ذاته مدرسة وجامعة للتربية الأخلاقية والفكرية والسياسية والجمالية والحياتية، ومن هنا استمرار حضور ذكراه العطرة بيننا، ومن هنا -كذلك- روعته وجماله في كل شيء: الشعر، والنقد، وفي غيرهما من الكتابات الإبداعية.

بعينَي زرقاء اليمامة كان يرى، وبروحية الصوفي المتنبئ كان يقرأ ويكتب، ولذلك قرأ مبكرًا ما يلوح في الأفق من العتمة والغبار والعفن، وقال كلمته لنا جميعًا، نقدًا ثقافيًّا وسياسيًّا عامًّا، بنفس تلك الصورة والعادة التي كان عليها يكتب ويتكلم، ولكنها هذه المرة، وفي مواجهة ذلك العفن، كان قوله معجونًا بمرارة معاناته الذاتية والوطنية والإنسانية، مرارة الرائي العظيم، تجاه ما يخبئه ويخفيه الواقع بين تلافيفه من استبداد وفساد، حين كنّا لا نرى سوى ما نرغب أن نراه، ويرى هو ما لا نرى، وكنّا لا نوافقه على ما أخبرته به عينا زرقاء اليمامة، "رؤيته الصوفية". وصدقت رؤيته ونبوءته، وكذبت فراستنا، وما يحصل اليوم خير شاهد على ما كان يرى.

 إليه: حيث هو، مع عظيم محبتي، مع الصدّيقين والصالحين والشهداء.

______________

لو أراد الله (سبحانه وتعالى) مسخ شعب/ أمة إلى ما هو الأدنى من القِرَدَة، والأسوأ من مخلوقاته في التاريخ الحيواني، لَمَا مسخهم إلّا على هيئة هذه الصورة التي نحن عليها اليوم.

إنّ حالتنا العربية الراهنة هي الأكثر بؤسًا وانحطاطًا ممّا هو قائم على خارطة الأرض العالمية، وليس في ذلك أيّ مبالغة في القول؛ فحالنا في اليمن هو الأكثر فظاعة وبشاعة وتدهورًا وتقهقرًا، قياسًا إلى ما هو حاصل في المنطقة العربية؛ لأنّ مقارنتنا بالعالم الآخر، خارج النطاق العربي، غير جائزة وظالمة لذلك الآخر، هذا فقط لمجرد المقارنة، التي لا وجه شبه يقربنا أو يماثلنا بهم.

نحن في الدرك الأسفل من الانحطاط والتخلف والمذلة والمهانة على كافة المستويات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والقيمية والأخلاقية. لقد وصلنا إلى "أسفل السافلين"- حسب تعبير الروائي التركي عزيز نيسين، وصلنا إلى مستوى من التراجع والتخلف والانحدار لا نُحسد عليه، مستوى من السقوط والفشل السياسي، يثير معه الشفقة والاحتقار لكل من يعاين ما نحن عليه اليوم، بعد أن شلّت إرادتنا عن القدرة عن أن تكون لدينا إرادة وكرامة وسيادة على أرضنا وحتى على أنفسنا (مذلون ومهانون)، بعد أن أصبحنا نرى وطننا يتفكك ويتعثر ويتبعثر كقطع لا مالك لها، نحن "مال سائب": الأرض في مواقعها الاستراتيجية يحتلها ويسيطر عليها الخارج، موانئنا مجمّدة وشبه محتلة، خدمة لتفعيل وتشغيل موانئ الآخرين، ومطاراتنا شبه متوقفة، ومياهنا البحرية يتقرصنها القراصنة الصغار والكبار، وبرلمان منقسم ومنتهي الصلاحية وفاسد، وبدون ميزانيات معلومة للدولة من عدة سنوات، وبدون سلطة دولة وطنية فِعليّة مع وجود أكثر من مسمى للسلطة، موزعة على مناطق البلاد المختلفة، وتحكمها قوى ميليشيّة متعدّدة الأسماء، ونخب سياسية تابعة ومرتهنة للخارج، لما يصلها أو تتلقّاه من فتات موائد أموال السحت الخاصة بهم ضمن موازنات "اللجنة الخاصة"، أو غيرها من الهبات والعطايا تحت العناوين المختلفة، في وقت يعيش فيه أكثر من 75% من موظفي الدولة خارج نطاق استلام الراتب، الذي لم يعد يكفي حتى لو تم صرفه شهريًّا، لإيجار منزل، أو لصرف خمسة أيام معيشة لأسر مهدَّدة بالطرد من مساكنها، بعد أن انخفضت القيمة الشرائية والنقدية للعملة الوطنية إلى أقل من 25% من قيمتها التي كانت قبل خمس سنوات. 

إنّنا حقًّا في وضع هو الأشدّ بُؤسًا والأكثر مهانة ومذلة في العالم كله، ليس لأنّنا فقراء وبدون مصادر دخل، وبدون ثروة طبيعية، وغيرها -فضلًا عن امتلاكنا إلى جانب كلِّ ما سبق، ثروةً بشرية وقدرات إنسانية هائلة- وإنّما فقط لأنّنا فرطنا بكرامتنا الوطنية، وبالنتيجة بسيادتنا على وطننا، لأنّنا فقدنا إرادتنا الذاتية الوطنية الحرة، لصالح إرادة الخارج! 

من يفقد إرادته، يفقد بعدها كل شيء، حتى اسمه، وهُويته، يتحول معه شأنه الداخلي (الوطني)، وحتى الحياتي الخاص (العائلي)، إلى قضية خارجية. لذلك تحولنا إلى مجرد لعبة، "دُمية"، بِيَد الخارج، لأنّنا كـ"قيادات سياسية"، تحوّلنا بالفعل إلى طرف مشارك في صناعة الأزمة والمأساة الراهنة، بهذه الصورة أو تلك. 

نعيش حالة أفول كسلطة ودولة، وحالة انقراض واضمحلال وتحلل كبشر، بشر يطالهم جور عظيم من الداخل السياسي التابع قبل الخارج. هذا هو حالنا ووضعنا الذي لا يمكننا مقارنته بما كان عليه حال العرب في المرحلة والفترة التاريخية التي ألهمت ابن خلدون فيها لكتابة مقدمته، الكتابة التي جسّدت أصدقَ وصفٍ وتعبير لحال انحطاطنا السياسي والعمراني، الذي بشرنا بغروب شمس الحضارة العربية الإسلامية، وبداية انتشار "صوت الغراب" في سماء أيام تاريخنا، المستمر من ذلك الحين حتى اليوم.

تقول تقارير العالم (الأممي)، إنّ اليمن هو البلد الأكثر بؤسًا والأكثر كارثية في حضور المأساة الإنسانية فيه، وإنّ أكثر من 21 مليونًا من السكان بحاجة ماسة إلى الغذاء والدواء والسكن، وللراتب، للبقاء في حدود الكفاف، أي على قيد الحياة، حتى لا يطالهم الموت الذي يتخطفهم في كل لحظة، بعد أن توقّفنا عن الإنتاج، والتنمية (العمران)، وعن توليد الأفكار والمعرفة (الكتاب)، أغلقت معها آخر مراكز الدراسات والبحوث، عن أن تكون مراكزَ للبحث، وتحولنا إلى متلقين ومستقبلين سلبيين لكل ما يصلنا من الخارج، بما فيه الحلول لمشاكلنا السياسية والوطنية، وحتى الخاصة التي صارت تصدر إلينا من الخارج!

طبقة وسطى انقرضت وصارت في العراء، ومسكونة بالخوف والجوع والجنون والانتحار، وكل ذلك لم يحرك إرادة "النخبة السياسية"، المرتهنة للخارج؛ لأنّها بدون نخوة وطنية، قاعدة/ قاعدين فقط، في انتظار أجورها الشهرية والعطايا من الكفيل في أبراجها العاجية! ولا يكفّون عن التنظير عن/ حَول الوطن، والوطنية، واستعادة الدولة! 

إنّنا حقًّا، نعيش حالة أفول كسلطة ودولة، وحالة انقراض واضمحلال وتحلل كبشر. بشر يطالهم جورٌ عظيم من الداخل السياسي التابع قبل الخارج. هذا هو حالنا ووضعنا الذي لا يمكننا مقارنته بما كان عليه حال العرب في منتصف القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، المرحلة والفترة التاريخية التي ألهمت ابن خلدون فيها لكتابة مقدمته، الكتابة التي جسّدت أصدق وصفٍ وتعبير لحال انحطاطنا السياسي والعمراني، الذي بشرنا بغروب شمس الحضارة العربية الإسلامية، وبداية انتشار "صوت الغراب" في سماء أيام تاريخنا، المستمر من ذلك الحين حتى اليوم.

وكأنّ "النخبة السياسية"، من المواقع المختلفة، قد صارت وتكوّنت لهم مصلحة مادية وسياسية مباشرة أو غير مباشرة، في استمرار عدم الاستقرار السياسي الحاصل، وفي استمرار الحرب! حتى تحولها -الحرب- إلى تجارة سياسية ومالية مع أمراء الحرب، ولا تفسير لصمت "النخبة" العجيب والمريب، وهدوئهم غير المفهوم على كل ما يحصل من تدهور في أوضاع البلاد والناس، سوى أنّ "في فمهم ماء"، يمنعهم من الكلام ومن تفسير وشرح كل ما يجري في البلاد منذ أكثر من سبع سنوات! 

في "المقدمة"، يتحدث ابن خلدون عن أسباب زوال الدول، في أنّه يعود "للانفراد بالمجد والدخول في عوائد الترف". والمصيبة، أنّ "نخبتنا السياسية"، لم تعرف المجد، ولم تصنعه في حياتها، ولكنّها -حسب ابن خلدون- فقط، "دخلت في عوائد الترف"، الترف الخاص بها وحدها؛ لأنّه ليس هناك ما يدل على المجد، أو على ما يمكن أن يُفتخَر به، في صورة أعمال منجزة، سوى صورة الدمار والخراب العظيم الذي يغطّي وجه البلاد بالعار والسواد!

ما نحن عليه، كيمنيّين، يفوق قدرة أيّ ابن خلدون معاصر على تصويره وتجسيده في كتابة، لأنّ الواقع يفوق قدرة الخيال على تصوره وتصويره وتجسيده في كتابة، بل هو يفوق قدرة الأسطورة والخرافة (الميثولوجيا)، على ابتداع أشكال تعبير لتفسيره وشرحه وتبريره. ما نحن فيه وعليه، يدخل في عداد اللامعقول حتى في مسرح كافكا، وصمويل بيكيت، وجان كوكتو،... إلخ.

في تقديري، لو عاد ابن خلدون ليرى ما نحن عليه وفيه، وبعد أكثر من ستة قرون على كتابته لـ"مقدمتــه"، لأعجزه واقع حالنا، وفشلنا، عن القدرة على كشف وتحليل ما نحن فيه، ولن يقول عنا سوى أننا لم نعد بشرًا أسوياء، نصلح لأن نكون مادة للبحث، وهو لذلك لا يستطيع أن يكتب عمّن يقعون خارج دائرة البشر والإنسانية السوية.

إنّ التصوير والوصف الدقيق والعميق والشامل الذي سجّله ابن خلدون في "مقدمتــه"، عن واقع المغرب والأندلس -عصره- التصوير والوصف الذي يكشف عن مدى الانحطاط والتراجع في السياسة وفي العمران والانقسام في المجتمع والضعف والهوان في الإرادة- ينطبق على واقع حالنا اليوم في المنطقة العربية، وفي اليمن خصوصًا، مع فارق الزمن التاريخي، أي أكثر من ستة قرون تفصلنا عن فترته/ تاريخه والذي يحسب لصالح المرحلة التي عاش فيها. 

وعلى عمق ودقة تصوير ابن خلدون لواقع الانحطاط السياسي والعمراني والإداري والاجتماعي الذي شهده عصره، ونقده الموضوعي العقلاني التاريخي لكل ذلك، على أنّه ومع كل ذلك، كان يرى أو يشهد من خلف الأفق المباشر، من خلف الكوامن، من خلف الأفق المستتر، من خلف الظاهر المعاين، ميلاد عصر جديد، سمّاه: "خلق جديد، ونشأة مستأنفة، وعالم محدث".

 أما نحن اليوم، فلا نرى –مع الأسف– ضوءًا في آخر النفق. 

في فترة العدوان والحرب على الثورة والجمهورية، وصولًا لحصار صنعاء 62-1968م، حين كان العالم يتوقع هزيمة الثورة، وسقوط صنعاء خلال أربع وعشرين ساعة، في تلك الظروف الصعبة التي تفلّ الحديد، وبعد خروج الجيش العربي/ المصري الداعم للثورة، انتصرنا بقدراتنا الذاتية الخاصة، وبدون الاستنجاد بأحد، في مواجهة كل العالم الاستعماري والرجعي والإمامي، لأنّنا كنّا بكامل هيئتنا الإرادية المستقلة الحرة، وفي كامل لياقتنا السياسية والوطنية والإنسانية، ونملك زمام أمرنا بأيدينا. وهذا هو الفارق النوعي السياسي والتاريخي بين الأمس الثوري والثائر، وبين حالنا الخانع والراكع اليوم، بعد أن فقدت "نخبنا السياسية"، كرامتها الوطنية والشخصية، وصارت الشكوى والرفض والنقد لواقع حالنا اليوم، يلمسها ويعيشها ويعبر عنها الخاص والعام في معظم أرجاء البلاد، شمالًا وجنوبًا، وحسب تعبير ابن خلدون: "كأنّما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، فبادر بالإجابة"، ونحن اليوم –كما سبقت الإشارة – بدون إجابة على كل ما يحصل في أرضنا وبلادنا، في انتظار ابن خلدون معاصر أو "صلاح الدين" جديد، وكلاهما نفتقدهما اليوم!

إنك حين تفقد إرادتك السياسية الحرة المستقلة، تكون قد فقدت كل شيء، بما فيه اسمك، وهوية وطنك، وهذا هو حالنا في اليمن اليوم.

رحم الله امْرَأً عرف قدر ظلمه لنفسه، والأهم معرفته بظلمه لشعبه؛ لأنّ "نخبنا السياسية" –مع الأسف– ما تزال في غي مصالحها وغنائمها الخاصة تعمه/ يعمهون! 

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English