بعد مرور أكثر من شهرين عن الهجوم الأول في 20 يوليو/ تموز، عاودت طائرات العدو الإسرائيلي استهداف مدينة الحديدة المطلة على البحر الأحمر غربي اليمن، مساء الأحد 29 سبتمبر/ أيلول، بهجمات أكثر قوة وقسوة، مستهدفةً البنية التحتية وما تبقى من منشآت حيوية تخدم المدنيين في المحافظة التي لم يتعاف أبناؤها بعد من ويلات الحرب المستمرة منذ عشر سنوات.
ضربة مؤثرة للكهرباء
في الهجوم الأخير مساء يوم الأحد 29 سبتمبر/ أيلول دمرت عشرات المقاتلات الإسرائيلية محطتي راس كثيب والحالي لتوليد الكهرباء، وميناء رأس عيسى النفطي، متسببة بمقتل أربعة ضحايا ونحو 50 مصابًا كلهم من العاملين في هذه المنشآت المدنية، بحسب السلطات الصحية في المدينة.
من بين ضحايا الهجوم الذين تم التعرف عليهم مديرُ الصيانة لمحطة الحالي الكهربائية، المهندس وهيب المغلس، وشاب آخر يدعى زكريا الشراعي كان يعمل سائقَ شاحنةٍ لنقل الوقود من ميناء رأس عيسى النفطي.
ولم يقتصر الضرر على هذه المنشآت وعلى العاملين فيها، فقد تطايرت شظايا القصف إلى منازل السكان وأصيب عدد منهم داخل منازلهم، ناهيك عن حالات الاختناق، والحساسية الجلدية، التي اشتكى منها السكان بفعل السموم والأدخنة التي أفرزها القصف.
وفيما تم احتواء النيران في ميناء رأس عيسى بمديرية الصليف، بسبب أن الجهات المعنية كانت قد قامت بتفريغ خزانات الوقود قبل أيام من الضربة الإسرائيلية التي كانت متوقَعة، ردًا على هجمات جماعة أنصار الله "الحوثيين" داخل العمق الإسرائيلي، واجهت فرق الإطفاء والدفاع المدني صعوبة في إطفاء الحرائق التي اشتعلت لساعات بمحطة الحالي لتوليد الكهرباء.
ونتيجةً مباشرة لهذا الهجوم، خرجت محطة الكهرباء عن الخدمة، وغرقت مدينة الحديدة في ظلام دامس، مع ارتفاع درجات الحرارة، ما ضاعف مأساة السكان الذين تشكل لهم الكهرباء شريان حياة في المدينة الساحلية الحارة جدًا.
داخل منشآت النفط بميناء الحديدة كان المشهد مروعًا وقاسيًا. فقد حاصرت النيران عشرات الموظفين المدنيين داخل مبنى المختبر والشؤون البحرية، نجا من هذا الحريق الضخم نحو 90 شخصًا بإصابات وحروق وتشوهات بالغة، لكن تسعة من العاملين في المكان تحولت جثامينهم إلى رفات نتيجة النيران التي فحمت أجسادهم في الساعات الأولى عقب الهجوم.
عن الاعتداء الأول
عند السادسة من مساء يوم السبت 20 يوليو/تموز 2024، هزت مدينة الحديدة عدة انفجارات عنيفة تصاعدت بسببها ألسنة اللهب من داخل الميناء.. غطى الدخان الأسود سماء المدينة، ودب الخوف والهلع بين السكان نتيجة الانفجارات الضخمة ووصول النيران إلى خزانات أخرى مليئة بالوقود.
مئات السكان في الأحياء الفقيرة القريبة من ميناء الحديدة ومحطة رأس كثيب الكهربائية، مثل حي البيضاء الغربية، غادروا منازلهم من الخوف، وخشية وصول النيران إلى منازلهم، فيما تدافع الكثير من المواطنين إلى محطات الوقود خشية وقوع أزمة وقود، كانت لحظات صعبة لم تعشها الحديدة من قبل، خيمت فيها هواجس توسع الحرب والهجمات الإسرائيلية.
داخل منشآت النفط بميناء الحديدة كان المشهد مروعًا وقاسيًا، فقد حاصرت النيران عشرات الموظفين المدنيين داخل مبنى المختبر والشؤون البحرية، نجا من هذا الحريق الضخم نحو 90 شخصًاً بإصابات وحروق وتشوهات بالغة، لكن تسعة من العاملين في المكان تحولت جثامينهم إلى رفات نتيجة النيران التي فحمت أجسادهم في الساعات الأولى عقب الهجوم.
أبو بكر حسين عبد الله فقيه، أحمد عبد الله موسى جيلان، وصلاح عبد الله مقبل الصراري، وعبد الباري محمد يوسف عزي، ونبيل ناشر عبده عبد الله، وإدريس داود حسن أحمد، ستة من أصل تسعة ضحايا، كانوا زملاء عمل في شركة النفط، ولكل واحد منهم حياته وعائلته وقصصه الصغيرة، لكن اللحظات الأخيرة كانت متشابهة. لقد وجدوا أنفسهم محاصرين بالنيران من كل مكان، عاجزين عن الفكاك من هذا الحصار والنجاة بأرواحهم. رحيل فظيع ومفجع، خلَّف على إثره حالة من الحزن والصدمة الواسعين داخل مدينة الحديدة، وفي عموم اليمن.
أبو بكر الفقيه أحد هؤلاء الضحايا. كان ميكانيكيًا شابًا في مطلع الثلاثينيات من عمره، ينحدر من مديرية المراوعة في الريف الشرقي لمدينة الحديدة. تحدث شقيقه آدم لخيوط بغصة وحزن بالغين عن رحيل أخيه الذي ترك وراءه طفلة لا يتجاوز عمرها ستة أشهر، وعائلة مكونة من أبيه وأمه وزوجته، كانوا جميعهم يعتمدون عليه لتوفير لقمة العيش، مشيرًا إلى أن أبا بكر كان يعمل في شركة النفط منذ سنة 2012، في قسم تفريغ الناقلات النفطية داخل منشآت النفط بميناء الحديدة، الذي كان يوجد فيه لحظة الضربة التي ذهب ضحيةً لها هو ومجموعة من زملائه.
أحمد جيلان، رجل أربعيني، كان أحد الطلاب اليمنيين المبتعثين إلى العراق. عاد إلى اليمن متخصصًا في مجال التنقيب النفطي، وهو واحد من الكوادر المهمة التي كان ينتظرها الوطن. لكنه وبلا سابق ذنب، بلا سابق إنذار، قضى هو الآخر في الهجوم حين كان يمارس عمله داخل المختبر، ووراءه طفل يتيم وزوجة ثكلى وعائلة كانت تستند عليه، كما يؤكد جاره في حي الشحارية، قاسم عبد الرحمن.
خزانات وصهاريج الوقود التي تعرضت للهجوم لم تكن تستقبل المشتقات النفطية التجارية أو التابعة لشركة النفط منذ عامين، بل كانت هذه الخزانات والصهاريج مخصصة لمازوت الكهرباء والمشتقات النفطية التابعة للمنظمات الدولية. وجميع ناقلات الوقود التجارية كانت تفرغ حمولتها في منشآت النفط بميناء رأس عيسى النفطي الواقع على بعد 88 كيلومترات شمال غرب مدينة الحديدة.
خسائر خارج الحصر
بلغت قيمة الأضرار المادية للضربة الإسرائيلية الأولى على ميناء الحديدة لوحده نحو 20 مليون دولار، بحسب نائب رئيس مجلس إدارة مؤسسة موانئ البحر الأحمر، نصر النصيري. لكن الأضرار التي خلفها الهجوم بشكل عام كانت أكبر، ولم تُعلَن نتائج حصر الأضرار بشكل رسمي حتى اليوم. فبالإضافة إلى استهدف الهجوم الإسرائيلي منشآت النفط وميناء الحديدة فقد تم استهداف المحطة المركزية لتوليد الكهرباء الواقعة في منطقة الكثيب بمديرية الصليف، فدمرت ثلاثة خزانات للوقود في المحطة، ما أدى لخروجها عن الخدمة.
وخلال رحلة البحث وجمع المعلومات تمكنت خيوط من جمع شهادات عدد من العاملين والموظفين في ميناء الحديدة، خلاصتها أن الهجوم الإسرائيلي على ميناء الحديدة دمر اثنين من الكرينات الجسرية الخاصة بتفريغ الحاويات في الميناء، كما دمر بشكل كامل أو جزئي نحو 31 خزانًا و صهريجًا خاصًا بمادة المازوت المشغلة للكهرباء، وبالمشتقات النفطية الأخرى، ونتيجةً لانتشار النيران وعدم القدرة على إطفائها، توالت الانفجارات على مدى أيام، نتيجة تمدد النيران في شبكة أنابيب نقل الوقود من السفن إلى الصهاريج، كما أن 12 صهريجًا خاصًا بمادة الغاز هي الأخرى كانت عرضة للانفجار، إذ كانت عملية تبريدها تتم بطريقة بدائية عبر تغطيتها بقطع قماشية كبيرة ورشها بالماء، لكن خطر تسرب الغاز واشتعال النار من جديد ما يزال قائمًا.
وقال مهندس مطلع رفض ذكر اسمه لخيوط:
"إن خزانات وصهاريج الوقود التي تعرضت للهجوم لم تكن تستقبل المشتقات النفطية التجارية أو التابعة لشركة النفط منذ عامين، بل كانت هذه الخزانات والصهاريج مخصصة لمازوت الكهرباء والمشتقات النفطية التابعة للمنظمات الدولية، مشيرًا إلى أن جميع ناقلات الوقود التجارية كانت تفرغ حمولتها في منشآت النفط بميناء رأس عيسى النفطي الواقع على بعد 88 كيلومترات شمال غرب مدينة الحديدة، وهو ما أدى لعدم حدوث أزمة وقود في مناطق سيطرة أنصار الله "الحوثيين،" لكن المصدر أكد خروج الرصيف رقم واحد الخاص باستقبال سفن الوقود والغاز بشكل كامل عن الخدمة، نتيجة تضرر شبكات الأنابيب الناقلة للوقود من السفن إلى الخزانات بالإضافة إلى تعطل شبكة إطفاء الحرائق الموجودة في هذا الجزء من الميناء.
لقد عاش الموظفون الذين كانوا موجودين داخل المبنى، والذي يضم المختبر في الدور الأرضي، والمنشآت البحرية في الدور العلوي، لحظاتٍ مروعة، منذ لحظة ارتطام الضربة بالميناء، وحتى احتراق وتفحم أجسادهم، وما تم تشييعه هو ما تبقى من رفات وعظام الضحايا. والمؤلم أن التعويضات المالية التي قدمتها شركة النفط لذوي الضحايا لم تتجاوز مبلغ مليوني ومائتي ألف ريال يمني.
هجوم مروع ووحشي
الصحفي بسيم جناني، واحد من أبرز نشطاء المدينة، وكان على تواصل وثيق مع موظفين وعاملين داخل الميناء، يقول لخيوط:
"لقد عاش الموظفون الذين كانوا موجودين داخل المبنى، والذي يضم المختبر في الدور الأرضي والمنشآت البحرية في الدور العلوي، لحظات مروعة، منذ لحظة ارتطام الضربة بالميناء، وحتى احتراق وتفحم أجسادهم، وما تم تشييعه هو ما تبقى من رفات وعظام الضحايا. والمؤلم أن التعويضات المالية التي قدمتها شركة النفط لذوي الضحايا لم تتجاوز مبلغ مليوني ومائتي ألف ريال يمني."
ويتابع الجناني حديثه قائلاً: "بذلت فرق الدفاع المدني الحكومية، وفرق الإطفاء التابعة لشركات تجارية كبيرة، جهودًا مكثفة لاحتواء الحريق، لكن حجمه كان يفوق الإمكانيات المتاحة، ما عقّد عملية إخماد الحريق على مدى أسبوع كامل، وأدى إلى تضرر نحو 80 % من منشآت النفط داخل ميناء الحديدة، بفعل الهجوم، ما يؤخر عملية حصر وإعلان كامل الأضرار والخسائر."
"كان الهجوم الإسرائيلي مروعًا وشنيعًا، وأحدث دمارًا بالغًا قد لا يتم إصلاحه على مدى سنوات، علاوة على الصدمة الكبيرة التي عاشها سكان الحديدة، والخوف والفزع الذي دفع السكان للنزوح من الأحياء القريبة من الميناء، وسط حالة من الغضب والاستنكار لهذا الهجوم الوحشي على منشأة مدنية تضم مئات العمال والموظفين المدنيين،" يستطرد الجناني حديثه.
جريمة حرب مدانة
خلال أقل من ساعة من هجمات يوليو أعلنت (إسرائيل) تبنيها للهجوم عبر رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو والمتحدثين العسكريين، وأطلقوا على الهجوم اسم (اليد الطويلة،) فيما تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية عن مشاركة نحو 18 طائرة مقاتلة من طراز إف-35 وإف-15، في الهجوم الذي أسقطت فيه الطائرات أكثر من 10 أطنان من المتفجرات على عدة أهداف. لكن وبالنظر إلى طبيعة الهجوم فإن إسرائيل لم تستهدف منشأة عسكرية أو قيادات تابعة لجماعة أنصار الله الحوثيين، بل استهدفت خزانات الوقود في ميناء الحديدة ومحطة رأس كثيب الكهربائية، وهي منشآت مدنية واقتصادية يؤثر استهدافها على جميع اليمنيين، ويفاقم من معاناة المدينة التي تكبدت مآسي الحرب والفقر .
وهو ما دفع منظمة هيومن رايتس ووتش لحقوق الإنسان، إلى اعتبار الضربات الإسرائيلية على ميناء الحديدة جريمة حرب محتملة، وقد يكون لها تأثير طويل المدى على ملايين اليمنيين الذين يعتمدون على الميناء للغذاء والمساعدات الإنسانية، مشيرة إلى أن الضربات تسببت في أضرار غير متناسبة للمدنيين والأعيان المدنية. وأضاف البيان الذي أصدرته المنظمة بهذا الشأن أن مخلفات الأسلحة التي جمعتها منظمة مواطنة في موقع الضربة حملت علامات (وودوارد، Wood Ward،) وهي شركة تصنيع أمريكية، وهذه المخلفات تتطابق مع المخلفات التي جُمعت في سياقات أخرى، من سلسلة القنابل جي بي يو- 39 التي تصنعها شركة بوينغ The Boeing Company الأمريكية متعددة الجنسيات.
منظمة مواطنة بدورها دعت إلى فتح تحقيق دولي، وأكدت أن الهجمات الإسرائيلية على منشآت البنية التحتية المدنيِّة في مدينة الحديدة تمثل جريمة حرب، انتهكت حماية القانون الدولي الإنساني للمنشآت والأعيان المدنية والبنية التحتية، وانتهكت مبادئ القانون الدولي الإنساني، كالتناسب والحماية والتمييز، وقوضت الحماية التي تتمتع بها الأعيان المدنية طبقًا للمادة 54 من البروتكول الإضافي الأول من اتفاقيات جنيف 1977.
تداعيات الضربة متعددة
لم تقتصر تداعيات الهجوم الإسرائيلي الأول على الخسائر البشرية والمادية، بل امتدت لتخلف مخاطر بيئية حذر منها مرصد الصراع والبيئة (CEOBS،) وهي منظمة خيرية بريطانية تراقب التأثير البيئي للصراع، إذ أكدت أن الحريق والانسكابات المرتبطة به ستولد انبعاثات خطرة في الهواء وتلوثًا كبيرًا للأرض مع احتمال تلوث البيئة البحرية، وقال ويم زوينينبورج من منظمة بناء السلام الهولندية (PAX،) إن عشرات الآلاف من اللترات من النفط احترقت في أعقاب الهجوم، محذرًا من أن الأبخرة الضارة تشكل مخاطر صحية خطيرة. وأضافت فرح الحطاب من منظمة حماية البيئة والتصدي لآثار تغيّر المناخ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (Greenpeace،) إن التلوث الساحلي الناجم عن الضربات على ميناء الحديدة يؤثر بشكل محتمل على ملايين الأشخاص الذين يعتمدون في عيشهم على الصيد.
وأظهرت صورة عالية الدقة التقطتها الأقمار الصناعية من شركة ( MAXAR TECHNOLOGIES،) اشتعال النيران في عدة خزانات نفط مع تصاعد ألسنة اللهب الضخمة والدخان الأسود الكثيف من مصافي النفط المستهدفة والبنية التحتية الكهربائية، وقال جاك كينيدي، رئيس قسم مخاطر الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لدى (S&P Global،) أحد أكبر الشركات العاملة في مجال تقييم التصنيف الائتماني المستقل، إن اللقطات تشير إلى وجود أضرار كبيرة في مرافق تكرير وتخزين الهيدروكربونات في ميناء الحديدة، بالإضافة إلى محطة للطاقة ورافعات مناولة البضائع، وأضاف أن الضربة من المرجح أن تعطل عمليات التجارة والمساعدات الإنسانية.
الجدير بالذكر أن نحو 3,400 شخص يعملون في ميناء الحديدة، جميعهم مدنيون، كما أن نحو 70% من واردات اليمن التجارية و80% من المساعدات الإنسانية تمر عبر هذا الميناء الحيوي، ما يجعل من هذا الهجوم سببًاً جديدًاً في تعميق المأساة الإنسانية لملايين الأشخاص في اليمن.