تطوف مدينة عمران للبحث عن فندق نظيف، ولا تكاد تجد !فنادق متردية كحال المدينة والبلاد التي تعاني من تدهور في البنية التحتية والمشاريع السياحية والفندقية ومختلف قطاعات وأنشطة الأعمال والتي دمّرت فيها الحرب الدائرة منذ أكثر من سبع سنوات كلَّ ما يمت للحياة بصلة؛ يقف على باحة الاستقبال المتهالكة أشخاص، عددٌ منهم كانوا مدرسين ووجدوا أنفسهم خلف مكاتب للاستماع إلى طلبات نزلاء مضجرين من مختلف المناطق.
حين تدخل للاستعلام عن الغرف والأسعار يباشرك موظفو الاستقبال كمن يحاول جذبك أو إثارة دهشتك "يوجد لدينا شاشات". يحيلك هذا العرض للقطة في فيلم التيتانك حين قال عامل الفحم لبطل الفيلم وهو يحاول التسلل إلى قلب الفندق المتحرك الذي يحمل علية القوم؛ يوجد هناك في الأعلى "بار" ملهى ومسبح وصالة رياضة وفرقة موسيقية.
كان موظف الاستقبال هذا مدرّسًا في يريم، عرفت هذا بعد دقيقة من الحوار وقد أصبحنا أصدقاء، لقد ساقه القدر ليشغل هذه الوظيفة القاتلة في رتابتها بعد أن انقطع راتبه. بالنسبة له يمضي الوقت هنا ببطء وكأن ساعات هذه المدينة قد سقطت من كوكب "بلوتو".
يا للحسرة، كيف استبدل المعلم عصا الطلاب بعصا النظافة، والطباشير بماسحات الأراضي، وصار يتلقى الأوامر بما ينبغي عليه فعله من غرباء يحملون الأسلحة؛ إنها الحرب التي استهدفت المعلمين والتعليم وأقوات الناس وسبل عيشهم وحياتهم وتركتهم بين فكّي كماشة العوز وقسوة البحث عن لقمة العيش!
في السابق، كان هذا الرجل يتعامل مع الطلاب، يستيقظ صباحًا ليرتدي تلك البدلة التي تتشابه مع معظم أقرانه في كل المحافظات، يحمل على كتفه شنطة بداخلها دفتر التحضير وقلم أحمر سائل من نوع "بايلوت" وقفص من الطباشير الطبية، والكثير من المعرفة، وها هو اليوم مضطر للتعامل مع آباء الطلاب، مجردًا من كل ما يمنحه قيمة كمدرس.
وأنت تحدق في وجه المدرس اليائس تدرك أنّ مقولة لوركا في أن كل رصاصة تقتل اثنين معًا، هي ليست دقيقة؛ في الحقيقة أنّ الرصاصة بوسعها أن تقتل جيلًا كاملًا.
خدمات بمرارة العيش
في شوارع عمران، تلاحظ كيف تمضي الحياة هنا ببطء، تجد التعب في وجوه الناس، والنساء أيضًا كسيرات بلا طاقة؛ كأنّ أحدًا ما سحب الحياة من أرواحهم. هذا انعكاس لوضعية المرأة في المجتمعات المنغلقة التي تُدرِج النساء تحت قائمة "العيب"، وهو أمر شائع يسري على مختلف المجتمعات المنغلقة ذات الطابع القبلي في مختلف المناطق اليمنية.
لا تحصل المرأة هنا حتى على الخصوصية في وسائل النقل العامة، فقد تجلس فتاة في كرسي ويمكن أن يتوقف صاحب الباص ليقل شخصين بجوارها، تلاحظ ذلك عدة مرات وأنت تتنقل من ضفة لأخرى في هذه المدينة التي يبدو عليها البؤس والتعب كحال كثير من المدن اليمنية.
الرجال مبالِغون في إظهار سطوتهم، العديد يرفعون أحزمة الجنابي (الخنجر اليمني المعروف) فوق خصورهم حتى منتصف بطونهم الممتلئة، البعض منهم ينأى بذقنه عن الاصطدام برأس الخنجر بغرابة.
في فندق آخر كان عامل الاستقبال أيضًا مدرِّسًا، الأمر ليس مصادفةً، كان هذا العامل يمسح باحة الاستقبال بمكنسة ذات شعيرات قماشية طويلة لونها بني. يا للحسرة، كيف استبدل المعلم عصا الطلاب بعصا النظافة، والطباشير بماسحات الأراضي، وصار يتلقى الأوامر بما ينبغي عليه فعله من غرباء يحملون الأسلحة؛ إنها الحرب التي استهدفت المعلمين والتعليم وأقوات الناس وسبل عيشهم وحياتهم، وتركتهم بين فكّي كماشة العوز وقسوة البحث عن لقمة العيش.
أخذنا لكي نلقي نظرة على الغرف في الطابق الثالث، وفورًا قررنا المغادرة لسوء حال هذا الفندق .كان عامل الاستقبال يرجونا من أجل المبيت، سعر الجناح لا يتجاوز 8 آلاف ريال (حوالي 10 دولارات)، لكن المكان كان في وضعية مزرية بشكل يصعب تصوره، لا أعرف كيف يعرض الملّاك خدماتهم الفظيعة بكل هذه الطمأنينة!
حاول معنا العامل، وهو شخص ملتحٍ ونحيف ويبدو في منتصف الأربعين من عمره، يرتدي فنيلة بيضاء، وبنطلونًا كلاسيكيًّا باهتًا يشبه تلك السراويل في المسلسل السوري الشهير "باب الحارة"، وحذاء بلاستيكيًّا يشبه الأحذية التشيكية القديمة، ويربط خصره بشال عملت عوامل التعرية على تحويل لونه من الأحمر إلى الرمادي.
أخبرته بصدق أنّ فندقهم غير مناسب، وطلبت منه النصح بفندق آخر، حدّق في وجهي وضحك قائلًا: "تريدني أن أدلك على فندق منافس؛ هذا يشبه أن أخرج اللقمة من فم أطفالي الجائعين لأعطيها لجاري".
أردت التهوين عليه بأن حديثي كان من باب النصح فقط لا غير، لكنه تمتم بحديث لم أفهمه، خلاصته؛ "ليس هناك ذنب في عدم إعطاء نصيحة قد تسبب لك الضرر".
مدينة تتوق للدولة
في مديرية خمر شمال مدينة عمران، أوقفنا رجل في السبعين من عمره تقريبًا، وعرض علينا شراء العنب، كان يضعها بطريقة مرتبة بداخل جالونات حديدية، كانت فيما قبل خاصة بطلاء الجدران. شكرناه على عرضه وقلنا إننا لا نريد، فردّ بحنق؛ "كنتم لا تأكلوه -العنب- إلا أيام مجاهد وعبدالله"، في إشارة إلى زمن الشيخين المنحدرين من هذه المنطقة، عبدالله الأحمر ومجاهد أبو شوارب.
في الصباح التالي، في مدينة عمران ذهبنا لتناول طعام الإفطار في أحد المطاعم القريبة، وبينما نحن ننتظر أن يضع النادل (العامل) الإفطار على الطاولة بعد أن دفعنا الحساب مقدمًا، وصلتنا الكراسي المتطايرة في الهواء بفعل شجار نشب فجأة بين أحد أبناء المدينة، كان ذلك واضحًا من لهجته، وبين الكاشير (المحاسب).
تطور الشجار بلحظات، ليشمل عمال المطعم ومجموعة من رفاق المعتدي. كانت الأمور تتصاعد بشكل خطير بعد أن اقتحم المكان أحد الأشخاص شاهرًا "جنبيّته" وهو يصرخ بكلمات نابية، باحثًا عن "المحاسب" العامل في المطعم.
ثم لحقته مجموعة من ثلاثة أشخاص اقتحمت المطعم وطاردت العمال إلى المطابخ، ولا نعرف على وجه الدقة ما الذي حدث تاليًا، فقد قمنا بمغادرة المكان حفاظًا على سلامتنا. والحق أنّ العمال نالوا من ذلك الشخص الذي تعارك معهم قبل أن يتدخل رفاقه؛ كان السلاح المستخدم عبارة عن هراوات وجنابي وكراسي.
في عمران يمكنك أن تعكس الخط السريع، وأن تقود سيارتك بدون لوحات، وأن تقف في منتصف الخط بدون سبب. في جامعة عمران تستقبلك بركة ماء على المدخل تمامًا، لا أعرف كيف يشق الطلاب والطالبات طريقهم نحو القاعات، المياه تتسرب من السقف على حواف المبنى، والطحالب قد نبتت في جدرانها .
عمران مدينة تتوق إلى الدولة، تحلم بمن ينتشلها من وضعها، هي ليست مخزنًا للمقاتلين، إنها تكره هذا الدور الموصوم بها منذ القدم، أبناؤها يحلمون أن يعيشوا بكرامة وسلام.