التراث الشعبي الشفاهي، بكل ما ينطوي تحت هذا المسمّى من مرويات شفاهية، كالشعر الشعبي التراثي، والبدع والجواب، والأحكام والأحاجي والألغاز، والأمثال وحكاياتها، والقصص الشعبية وغيرها، هي جزء مهمّ وأصيل من تاريخ الشعوب وذاكرتها المتوارثة عبر الأجيال، وهو كنز ثمين يصعب تعويضه أو استحداثه، وبفعل التحولات السلبية التي تمرّ بها المجتمعات والشعوب، يصبح هذا الموروث عرضة للضياع والاندثار والسطو والتحوير، ما لم تكن هناك جهود صادقة ومتصلة للحفاظ عليه وجمعه وصونه بكل الأساليب العلمية والمنهجية، والإنفاق بكل سخاء على هذا الهدف بوصفه هدفًا وطنيًّا وقوميًّا، وعنصرًا من عناصر الهُوية والخصوصية المحلية والثقافية، وذلك ما انتبهت إليه الشعوب من حولنا في الجزيرة العربية والخليج، وأخذت منذ منتصف القرن الماضي، تهتم بجمع موروثاتها الشفاهية وتدوينها تدوينًا علميًّا عبر سلسلة من المشروعات الوطنية، وتوفير كلّ أشكال الدعم للمبادرات والباحثين المشتغلين بالتراث الشفاهي، وربما استنقذوا بعضًا من موروثاتهم ومروياتهم الشفاهية.
أمّا في اليمن التي تزخر -يقينًا- بأعظم الموروثات الثقافية الشعبية، والممتدة عبر تاريخها وحضارتها البعيدة في التاريخ الإنساني، فإنّ كارثة فقد الموروثات الشفاهية وضياعها كانت كبيرة، وهي كارثة متراكمة منذ عقود وإلى أيامنا هذه، بسبب غياب الوعي المؤسسي الحقيقي بأهمية جمع الموروثات الشعبية الشفاهية وتوثيقها، وكل ما تم منذ نهاية السبعينيات حتى الآن، أكان على مستوى الحكايات الشعبية أو الأمثال -على سبيل المثال- هو نتاج وعي فردي ومبادرات فردية قام بها أشخاص بذلوا جهودًا غير منكورة، حفظت لنا بعضًا من نزيف الموروثات المستمر، وعلى الرغم من أهمية هذه الجهود ودورها في ظل غياب دور المؤسسة الرسمية أو الأكاديمية أو الأهلية، فإنّ هذه المبادرات تفتقر إلى الأساليب العلمية والمنهجية في جمع هذه الموروثات الشفاهية ومعالجتها بأساليب علميّة تمنحها القيمة الثقافية والتاريخية اللازمة، ممّا قد يسهّل على الباحثين والدارسين توفيرَ المادة التراثية للاشتغال عليها في مختلف الجوانب البحثية والمعرفية في مجال التوثيق التراثي.
وكلما تذكرت كلمات ابن رشيق القيرواني في كتابه (العمدة في محاسن الشعر وآدابه) عن المفقود من جيد كلام العرب، وإن كان يقصد به الفصيح، تذكرت كارثة ضياع جزء كبير من موروثاتنا الشفاهية، والفقد من الناحية المنطقية أمرٌ أكيد لا يمكن لذي عقل إنكاره، وتألمت كثيرًا لعدم الاستجابة السريعة في الاعتناء بموروثاتنا الشفاهية الشعبية التي لم يكف نزيفها المستمر إلى غياهب الفناء والنسيان منذ عقود، وعن مثل هذا الفقد والضياع يقول ابن رشيق القيرواني: "ما تكلّمت به العرب من جيد المنثور أكثر ممّا تكلمت به من جيد الموزون، فلم يحفظ من المنثور عُشره، ولا ضاع من الموزون عُشره"، وأظنّ أنّنا لم نحفظ من تراثنا الشفاهي عُشر العُشر، فكلّما تأخّر ذلك، سقط الجزء الكبير من الذاكرة، فضلًا عن واقع القطيعة التي تعيشها أجيالنا عن مختلف أشكال موروثاتنا الإيجابية، بفعل مجموعة من العوامل التي يتداخل فيها التغيير الاجتماعي بالتغييرات العاصفة الأخرى، كالسياسي والاقتصادي والثقافي والنفسي. وإذا أخذنا نموذج التراث الشفاهي الحِكائي، فإنّ ذاكرتنا الآن لا تحتفظ منه إلا بأقل القليل، والنزر اليسير؛ فأيُّ تراثٍ أضعناه؟! وأيُّ جهد بذلناه؟! ماذا لو جاءت المبادرة مبكرة قليلًا، قبل سبعين أو خمسين سنة -مثلًا- لا شكّ أنّ الحصاد سيكون مقبولًا على نحوٍ ما، وقت أن كانت الذاكرة الشفاهية الحكائية فيه من الصفاء والنقاء ما يكفي من الاطمئنان إليها، قبل أن تجتاحها عوامل التلوث الحكائي في زمن تقنيات الصورة والتلفزة والاتصال التي أثّرت على ذلك النقاء، فتداخَلَ المروي التراثي المحلي بالدرامي والسينمائي وحكايات الآخرين، والتي توشك أن تنصهر وتصبح جزءًا من ذاكرة أخرى تفقد خصوصيتها وهُويتها المحلية والوطنية. كما أنّ العديد من رواة الحكايات في كل قرية أو حارة، والذين كنّا نلتفّ حلولهم في العقود الماضية، ونستمع إليهم بشغف قد تخاطفهم الموت منذ أمد بعيد، بعد أن تقدّم بهم العمر، ولم ترث الأجيال التالية منهم ما كان عليها أن ترثه، ولم تصن منه ما يجب أن تصنه! فهي أجيالٌ جديدة بعيدة عن تاريخها وموروثاتها، وبالتالي بعيدة عن ذاتها وهُويتها.
إنّ أيّة مبادرة لجمع التراث الشعبي الشفاهي يجب أن تكون الآن، والتشبُّث بما بقي من فرصة أخيرة في هذه السنوات، التي يمكن أن نطلق عليها فرصة الزمن الضائع، لعلّنا نستنقذ بعضًا من ذلك العُشر الباقي قبل الفناء التامّ في العقود القادمة، وهذا -من وجهة نظري- لا يتم إلا وفق أسس علمية ومنهجية في جمع التراث الشفاهي وتوثيقه، ولن يتم ذلك إلا بجهد مؤسَّسِي تقوم به فرقٌ بحثية يتم تدريبها وتأهيلها لهذه المهمّة الجليلة، بعيدًا عن سماسرة المنظمات الدولية وضجيجها الذي لا يتمخّض عن شيء ذي بال، فكثيرًا ما نسمع عن مؤتمرات وورش تدريبية تقوم بها منظمات دولية وسماسرة محليون، وتنفق عليها الأموال الطائلة ولا نجد لها أي مردود بعد ذلك، وهذه حقيقة واقعية، وأمرٌ تجب المكاشفة فيه، ولذلك يجب أن تكون أية مبادرة في هذا مجال التراث الشعبي الشفاهي من قبل مؤسسات وطنية، حكومية أو أهلية، ولعل المراكز العلمية في الجامعات هي المؤهلة لهذه المهمة، وهي التي يمكنها أن تخرج نتاجها في عمل موسوعي يمكن الاطمئنان إليه، وخصوصًا بعد اجتياح المراكز البحثية الوهمية واقعنا. ومن ناحية أخرى يجب استحداث الجوائز التشجيعية في الكتابة والتفرغ في مجال الأبحاث التي تخدم تراثنا المحلي، وأن تكون مساهمة الرأسمال المحلي مساهمةً سخية، من أجل أن تتضافر الجهود في استنقاذ ما يمكن استنقاذه، فهل من استجابة واعية قبل أن يفرط هذا الجيل في ذاكرته التراثية، ويكون -لا سمحَ الله- الحلقة المعطوبة في سلسلة الأجيال التي حافظت على خصوصياتها وتراثها وهُويتها الوطنية والثقافية.