لا يختلف اثنان على القول إن الحرب المدمرة التي تعيشها اليمن منذ 6 سنوات، خلفت أزمة اقتصادية بكل المقاييس، وأدت إلى أسوأ كارثة إنسانية على مستوى العالم في العصر الحديث، ولا يوجد شيء في الأفق يجعلنا نتطلع إلى نهاية مآسي الحرب والدمار والدخول في مضمار السلام وإعادة البناء والإعمار.
فعلى المستوى الاقتصادي الكلي، انكمش الاقتصاد بحوالي النصف، وتحقق معدل نمو للناتج عند مستوى سالب 36% في عام 2015، واستمر بالتراجع حتى عام 2020 عند سالب 5%، وفقًا للتقارير الدولية، ويرجع ذلك إلى فرض الحصار على تصدير النفط والغاز، وتوقف تنفيذ مشاريع التنمية من الموازنة العامة، إضافة إلى إلغاء أو تجميد معظم القروض والمساعدات التي حصلت عليها اليمن في مؤتمر المانحين بالرياض عام 2012، وبذلك خسرت مشاريع التنمية قرابة 9 مليار دولار، كما تلاشت الاحتياطيات الدولية من العملة الأجنبية؛ مما سبب تدهورًا في قيمة الريال مقابل العملات الأخرى إلى حوالي الثلثين، ودفع بمعدل التضخم في أسعار السلع الاستهلاكية وغيرها إلى حوالي ثلاثة أضعاف.
وبسبب انقسام البنك المركزي بين صنعاء وعدن عجزت الحكومتان عن دفع رواتب موظفي الدولة، وبرزت مشكلة ندرة السيولة في البنك المركزي والقطاع المصرفي، وتراكم حجم الدين العام المحلي من أذون الخزانة والسندات الحكومية، وعجز البنك المركزي عن الوفاء بالتزامات الحكومة تجاه البنوك والمؤسسات، كما توقفت العديد من أنشطة القطاع الخاص الصناعية والتجارية والخدمية، كل ذلك أدى إلى تدهور المستوى المعيشي لغالبية السكان وتزايد معدل البطالة، وخاصة بين الشباب إلى أكثر من 60%، وارتفاع معدل الفقر إلى حوالي 70%، وهذا يعني أن أكثر من 30% من الأسر وقعت في فخ الفقر والفاقة، بسبب الحرب.
في الجانب الاجتماعي، تضررت قطاعات التعليم والصحة بشكل واسع من الحرب والصراع، ففي قطاع التعليم يحتاج أكثر من 8 ملايين طالب وطالبة في سن الدراسة إلى المساعدة في مجال التعليم في عموم المحافظات، وفي قطاع الصحة، يحتاج حوالي 20 مليون شخص للمساعدة الطبية، نصفهم تقريبًا بحاجة ماسة للمساعدة
وعلى المستوى القطاعي، يشير تقرير البنك الدولي، الصادر عام 2020، عن "التقييم المستمر للاحتياجات في اليمن" أن الأضرار المادية للحرب التي لحقت بست عشرة مدينة يمنية تقدر بأكثر من 15 مليار دولار، كان نصيب قطاع الإسكان حوالي 75%، يليه قطاعات الصحة والكهرباء والمياه والصرف الصحي ثم التعليم والنقل، وتكبدت مدينة صنعاء حوالي ثلث الأضرار تليها تعز ثم الحديدة، وتأتي صعدة في مقدمة المدن التي تعاني من توقف الخدمات فيها، ثم تعز بالمرتبة الثانية، وهكذا في بقية المدن؛ موضوع التقرير.
ووفقًا للتقييم، فإن تكلفة إعادة الإعمار لما خلفته الحرب في تلك المدن تقدر بحوالي 25 مليار دولار، وبالتأكيد فإن التكلفة قد تكون أضعاف ذلك لجميع المدن والقرى التي دمرتها آلة الحرب، إضافة إلى أن هذا التقييم للأضرار اعتمد على المسح الجوي بالأقمار الصناعية، وهناك هامش كبير بينه والتقييم المباشر من عين المكان.
وفي مجال البنية التحتية، ألحقت الحرب أضرارًا واسعة ومدمرة في قطاعات الكهرباء والطرقات والجسور والاتصالات والمطارات والموانئ، والمباني والمنشآت الحكومية والخاصة ويتطلب إعادة بنائها إلى موارد مالية ضخمة.
اختلالات متعددة
أفرزت الحرب اختلالات عميقة في بنية النظام الاقتصادي، إذ توسع ما يمكن تسميته "اقتصاد الحرب" أو اقتصاد الظل، ويشمل السوق السوداء للمشتقات النفطية، بسبب الحصار المفروض على استيرادها، وانتشار المضاربة بالعقارات والمباني، بسبب انعدام فرص الاستثمار في القطاعات الإنتاجية والخدمية، إضافة إلى تنامي سوق الصرافة واستحواذه على أعمال وأنشطة البنوك، بسبب فقد الثقة بالنظام المصرفي وضعف التعامل معه إيداعًا واقتراضًا، كما أن أصول البنوك تراجعت إلى ثلث ما كانت عليه قبل الحرب.
وأدت الحرب إلى ضعف الأداء المؤسسي لكلٍّ من حكومتي صنعاء وعدن، والمتمثل في عدم الالتزام بالمصوغات الدستورية والقانونية لإدارة الموارد العامة، حيث لا توجد ميزانية عامة مُقرّة من مجلس النواب وتنفذ وفقًا للقانون، مما يثير تساؤلات جادة وخطيرة حول حوكمة إدارة المال العام وانعدام الشفافية والمساءلة في ذلك.
كما أن انقسام البنك المركزي بين صنعاء وعدن نتج عنه انتهاج حكومة عدن سياسة نقدية متهورة وتمويل نفقاتها من مصادر تضخمية عن طريق الإصدار النقدي؛ مما أدى إلى تصاعد كبير في معدل التضخم وفي تدهور سعر صرف الريال في المناطق الخاضعة لها، وبالمقابل استطاعت حكومة صنعاء المحافظة على الاستقرار النسبي لأسعار السلع والخدمات ولأسعار صرف، إلا أنها تخلت عن مسؤولياتها في صرف مرتبات الموظفين وتوفير الكهرباء وغيرها من الخدمات، رغم أن تحصيل الموارد من الضرائب والجمارك يفوق ما كان عليه الحال قبل الحرب.
إضافة إلى انهيار نظام التأمينات والمعاشات، وتوقف صرف مرتبات المتقاعدين من السلك المدني والعسكري والأمني، وتلاشي نظام الرعاية الاجتماعية، وتوقف الحكومة عن تقديم المعونات النقدية لأكثر من 1.5 مليون أسرة في مختلف المحافظات، وفي هذا الجانب فإن التقارير الدولية أضحت تصنف اليمن ضمن الدول الفاشلة، وهو أسوأ من الدول الهشة.
وفي الجانب الإنساني، واستنادًا إلى وثيقة "النظرة العامة للاحتياجات الإنسانية، اليمن 2021" الصادر عن مكتب الأمم المتحدة بصنعاء، فإن اليمن يشهد أكبر أزمة إنسانية على مستوى العالم، فهناك حوالي 20.7 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بما في ذلك ما يقرب من 12 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، ويحتاج حوالي مليوني طفل إلى العلاج من سوء التغذية الحاد، ربعهم تقريبًا مهدد بفقدان الحياة، فاليمن من أسوأ دول العالم في مؤشرات سوء التغذية بين الأطفال، ويبلغ عدد النازحين أكثر من 4 ملايين شخص، ويحتاجون إلى الغذاء والدواء والمأوى والمياه والصرف الصحي والتعليم، وغيرها من المساعدات، للحفاظ على صحتهم وسلامتهم والعيش عند مستوى الكفاف.
تدهور يطال القطاعات الخدمية
إضافة إلى الوضع الإنساني الكارثي، عانت اليمن من آثار الكوارث الطبيعية والتغير المناخي، حيث جرفت السيول المزارع والمنازل في عدد من المناطق، وتسببت في انتشار الأمراض والأوبئة، مثل الكوليرا وحمى الضنك والدفتيريا، وجاءت جائحة كورونا لتزيد الوضع سوءًا وخطورة، وفي هذه الأحوال ينطبق على اليمن قول الشاعر:
حادثات السرور توزن وزنًا *** والبلايا تكال بالقفزان
وخلال السنوات الأولى للحرب، تعاطف المجتمع الدولي مع الأزمة الإنسانية في اليمن، وعقدت مؤتمرات سنوية لتقديم الدعم للإغاثة الإنسانية، وفقًا لـ"خطة الاستجابة الإنسانية لليمن"، التي تحدد القطاعات ذات الأولية في الدعم، وتشمل الأمن الغذائي والزراعة والتغذية والصحة والمياه والصرف الصحي والتعليم والمأوى والمواد غير الغذائية والحماية الاجتماعية، ومع استمرار فترة الحرب تراجع حماس المانحين، وبرز ما يمكن تسميته "إرهاق المانحين"، ففي عام 2015 كان حجم الدعم قرابة 900 مليون دولار، وتزايد حتى بلغ حوالي 3.8 مليار دولار في عام 2019، بعدها تراجع إلى 1.7 مليون تقريبًا في مؤتمر المانحين الأخير في مارس 2021، والذي يساوي النصف تقريبًا من خطة الاستجابة الإنسانية، كما أن جائحة كورونا أثرت فعلًا على أولويات الدول المانحة وعلى مستوى دعمها لمناطق الحروب والصراعات.
وفي الجانب الاجتماعي، تضررت قطاعات التعليم والصحة بشكل واسع من الحرب والصراع، ففي قطاع التعليم يحتاج أكثر من 8 ملايين طالب وطالبة في سن الدراسة إلى المساعدة في مجال التعليم في عموم المحافظات، إضافة إلى ذلك هناك أكثر من 172 ألف معلم بحاجة ماسة إلى الدعم والمساندة، ومعظمهم انقطعت رواتبهم، وتشير التقديرات أن حوالي 2500 مدرسة دمرت كليًّا أو جزئيًّا أو تستخدم لأغراض غير تعليمية من قبل أطراف الصراع.
وفي قطاع الصحة، يحتاج حوالي 20 مليون شخص للمساعدة الطبية، نصفهم تقريبًا بحاجة ماسة للمساعدة، ويعاني القطاع الصحي من الهشاشة في البنية والأداء، فوفقًا لتقرير الأمم المتحدة، فإن المرافق الصحية في الغالب لا تستطيع تقديم الرعاية الكافية، وهناك نقص حاد في عدد الأطباء وفي عدد المساعدين وفي التجهيزات المخبرية والدوائية لمعظم المرافق الصحية في عموم المديريات، إضافة إلى أن الأوبئة وغيرها من الأمراض المتفشية تثقل كاهل النظام الصحي الضعيف أصلًا.
وفي مجال المياه والصرف الصحي، يمثل الوصول إلى المياه الصالحة للشرب أولوية قصوى، وتمثل ندرة المياه إحدى التحديات الوجودية للإنسان اليمني، فحوالي 49% من السكان لا يحصلون على مياه آمنة، و42% لا يوجد لديهم صرف صحي ملائم، مع تفاوت كبير بين المناطق الحضرية والريفية. وأدت الحرب إلى إلحاق أضرار بالغة في مرافق المياه والصرف الصحي، كما أن نزوح الملايين من السكان عن قراهم ومزارعهم زاد من حدة مشكلة المياه، وخاصة في مخيمات النازحين.
وفي مجال المأوى والمواد غير الغذائية، تشير التقارير إلى أنه بعد حوالي ست سنوات عجاف من الحرب -والتي أسفرت عن مقتل الآلاف من المدنيين وتشريد حوالي 4 مليون شخص وتدمير البنية التحتية الحيوية والمنازل والمزارع، وما يزال 7.3 مليون شخص بحاجة إلى المساعدة في توفير المأوى والمواد غير الغذائية، مع ما يقارب 3 مليون شخص يعيشون في ظروف قاسية للغاية- أن الافتقار إلى المأوى المناسب يحرمهم من الأمن والسلامة والكرامة، ويعيش أكثر من 11 مليون شخص في مناطق قريبة من خطوط الاشتباكات، مما يعرض حياتهم للخطر بشكل مستمر.
وإجمالًا، فإن كل المؤشرات تؤكد أن الخسائر الاقتصادية للحرب والاحتياجات الإنسانية والاجتماعية كبيرة وواسعة، ولا يمكن للمساعدات الطارئة تغطيتها في عموم المحافظات، ولذلك فإن على أطراف الصراع الجنوح للسلام وتحقيق الأمن والاستقرار في ربوع البلاد، والانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي، ويمكن البناء على وثيقة "نحو خطة للتعافي وإعادة الإعمار في اليمن" التي أعدها خبراء البنك الدولي في عام 2017، وقدرت الاحتياج الأولي لإعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي بحوالي 88 مليار دولار، تخصص لخمس أولويات مهمة، هي: 1) الأمن الغذائي، 2) الاحتياجات العاجلة للموازنة والتمويل، 3) التنمية البشرية، 4) البنية التحتية، 5) توفير فرص العمل.
وواضح أن تلك التقديرات كانت قبل ثلاث سنوات، وبالتأكيد فإن أضرار الحرب تزايدت خلال تلك الفترة وشملت معظم القطاعات، وأن الاحتياج قد يتزايد إلى الضعف، إن لم يكن أكثر من ذلك.