صباحًا كعادته كل يوم، يسير عوض باصالح (70 عامًا)، وهو مزارعٌ من قرية (المَعْمَلة) بوادي (يُون) نحو حقله، جارًّا خلفه حماره المُرهَق، والذي أَصبَحَ مؤخرًا بدل أن يُعينه في حراثة الأرض والاهتمام بها تحوّلَ إِلى وسيلةٍ لتنقلاته، بل ولنقل منتجاته من الموز والتُّمور والحُبوب وغيرها بمشقّةٍ كبيرةٍ إلى السُّوق؛ لبيعها، فلم تعد وسائل المواصلات المختلفة الكبيرة منها والصّغيرة تستطيع الدخول للقرية.
وقرية المَعْمَلة إحدى قُرى وادي يُون، وتقع شمال غرب مدينة المكلا عاصمة حضرموت، وتبعد عنها بحوالي (85) كيلو مترًا، وأغلب سكانها امتهنوا الزّراعة وتوارثوها أبًا عن جد. وتشتهر بأشجار السدر (العِلب) والنخيل. وتزرع وتبيع بكميّاتٍ كبيرةٍ الموز، حبوب الذرة الرّفيعة، السّمسم، الدِّجر، وأصنافًا مختلِفةً من الحمضيّات. وتربتها خصبة تُسقى من أربعة وديان رئيسة من أودية حضرموت، ولذلك فإن المياه تجري فيها باستمرار، وتكاد تكون كل أراضيها مزروعة طوال أيام السّنة. كما تشتهر أيضًا بإنتاج أجود أنواع العسل الحضرمي (البغيّة).
انقطاع الطرق
ويُعاني أهالي قرية المَعْمَلة في وادي يُون منذ مطلع مايو/ أيار 2023 المنصرم، من انقطاع طريق السيّارات الوحيد لقريتهم، والذَّي يُمثِّل بالنسبةِ لهم شريان الحياة؛ كونه يربطهم بمن حولهم من القُرى والمُدن الأُخرى، ويُساعدهم في التسويق والبيع لمنتجاتهم الزراعيّة المختلفة، وذلِكَ بسبب الأمطار الغزيرة التي هطلت، تبعتها سيول عارمة خلّفت خسائر كبيرة، تسببت في انهيارِ عددٍ من المنازل، وجرفت معها أنابيب ضخ المياه الخاصّة بمشروع القرية الأَهليّ، وعطّلت المزارع والحُقول، وأتلفت المحاصيل، كما دمّرت طريق القرية كُليًّا، وبذلكَ عُزِلوا تمامًا عمّن حولهم، وأَضحى الدخول والخروج من وإلى القرية ضربًا من المستحيل، إلا مشيًا على الأقدام، أو ركوبًا على الحمير.
آثارُ دمارٍ ماثلةٍ لا تُخطئها العين، يشكو باصالح من انعكاساتها على حوالي (1,000) نسمة، وهم سُكان قرية المَعْمَلة. إذ يقول لـ "خيُوط"، وكله أمل بعودة الحياة قريبًا لقريته: "أصبحنا معزولين تمامًا كأننا في آخر العالم، لا نستطيع الدخول والخروج إلى قريتنا من خلال وسائل المواصلات كبقيّة النّاس، أرضنا زراعية تجود بخيرٍ كثيرٍ، لكننا لم نعُد نستطيع تسويق منتجاتنا خارج المَعْمَلة إطلاقًا، واعتمادنا الكُلّي على الزِّراعة في توفير لُقمة العيش". يؤكد ذلك سعيد بادبيس، عضو المجلس المحلي للمديريّة عن قرية المَعْمَلة في حديثه لـ "خيُوط"، قائلًا: "تعدُّ الزِّراعة مصدرَ الرزق الوحيد لكلّ سُكّان المَعْمَلة، وقد امتهنوها منذُ عقودٍ طويلةٍ مضت".
ورغم الواقع البائس الذي عاشته وما زالت تعيشه المَعْمَلة حتّى اليوم فإن رغبة أهاليها في إيجاد الحلول لأنفسهم بدلًا من انتظارها طويلًا بدت واضحةً، حيث ظهرَ التّكاتف المجتمعي جليًّا في أنبل صوره؛ من أجل استمرار الحياة وتواصل فصولها، متمثلًا في تنظيم عدد من المبادرات الأهليّة المجتمعيّة منذ الأيام الأولى لوقوع الكارثة؛ لإصلاح ما يمكن إصلاحه، فنجحوا بصغيرهم قبل كبيرهم، في إعادة تأهيل مشروع المياه، وقاموا بترميم بعض أجزاء من الطّريق المدمّرة، ولكنهم وصلوا بعد مرور أكثر من خمسة شهور على وقوع الكارثة إلى مرحلة من عدم القُدرة؛ نظرًا لأن الواقع باتَ يفوق قدراتهم وإمكانياتهم بكثيرٍ، كونهم يعملون بأدواتٍ يدويّةٍ بسيطةٍ وبدائيةٍ، دون معدّات أو آلات.
يشكو الأهالي من تلفِ كميّاتٍ كبيرةٍ من منتجاتهم الزراعيّة؛ نتيجة تدمير الطريق الذي من خلاله يتم تسويقها وبيعها وتوزيعها، ويتخوفون من أن عددًا من طُلاب المدارس لن يستطيعوا الذهاب إلى مدارسهم، خصوصًا الصِّغار منهم؛ إن استمرّ هذا الوضع على ما هو عليه؛ بسبب وعورة، وصُعوبة المشي في الطّريق بعد الكارثة.
وعود لم تتحقق
وهُنا يُضيف بادبيس: "تواصلنا منذ اليوم الأول مع السلطات المحلية بالمديرية والمحافظة ومكاتبها التّنفيذيّة المختلفة، فوجّه محافظ محافظة حضرموت الأستاذ/ مبخوت بن ماضي، مشكورًا، مكتب الأشغال العامّة والطُّرق بساحل حضرموت على وجه السُّرعة، بضرورة تقييم الوضع ورفع الاحتياج، ووضع خطة عاجلة للتّدخُّل، ورفعها. وبالفعل نزل المهندس المختص إلى المَعْمَلة، ورافقتهُ شخصيًّا؛ لتسهيل عمله وإِطلاعه على الوضع عن كثب، وتمَّ رفع التَّقرير للسّلطات، بالمحافظة في حينه". ويختتم حديثه مُتعجِّبًا مُتسائِلًا عن الأسباب: "لكن لماذا لم نرَ هذا التّدخُّل الموعود والمُلِحّ والعاجِل منذ ذلك اليوم حتّى يومنا هذا؟!".
ويشكو أهالي المَعْمَلة من تلفِ كميّاتٍ كبيرةٍ من منتجاتهم الزراعيّة؛ نتيجة تدمير الطريق الذي من خلاله يتم تسويقها وبيعها وتوزيعها إلى الأسواق والمناطق والمُدن المجاورة، ولهذا بلغت نسبة التّلف من المنتجات الزراعيّة بشكلٍ عامّ من 55% إلى 65% تقريبًا. كما يتخوّف الأَهالي من أن عددًا من طُلاب المدارس لن يستطيعوا الذهاب إلى مدارسهم هذا العام -والذي دُشَّن في 27 أغسطس/ آب 2023- خصوصًا الصِّغار منهم؛ إن استمرّ الوضع على ما هو عليه؛ بسبب وعورة، وصُعوبة المشي في الطّريق بعد الكارثة.
انجراف خطوط الضخ
أما عن الأضرار التي لحقت بمشروع المياه الأهلي -المُتهالِك أصلًا- فيرى سالم باسرُور (56 عامًا)، رئيس لجنة مشروع مياه وادي يُون، في حديثٍ لـ"خيُوط"، أنّ أقل ما يمكن أن توصف به: "الجسيمة والكارثية"، إذ جُرفت خُطوط الضخ (قُطر 4 هنش) النّاقلة للمياه من المشروع إلى بيوت الأهالي لمسافة تزيد على 500 مترًا، مما أدى إلى انقطاع كُلِّي للمياه لفترة اضطر الأهالي خلالها إلى شُرب مياه من مصادر مفتوحة ملوثة كادت تنشر بينهم أمراضًا، وتُحدث أضرارًا لا تُحمد عُقباها؛ لذا تمّ العمل على إعادة تشغيل مشروع المياه من جديد، ولو "بشكلٍ آني، وبإمكانيّات بسيطة، وحلول مُمكِنة"- كما يقول. ويؤكِّد باسرُور بأَنّ: "مشروع المياه بأكمله بحاجة ماسّة وعاجِلة للتّدخُل، وإصلاحه، وصيانته بشكلٍ كاملٍ".
وتبقى مسألة عودة الحياة لتدب في قرية المَعْمَلة من جديد رهنًا بإعادة تأهيل مشروع مياه الشُّرب، وكذلك بالإصلاح الكُلِّي للطريق الذي يصلها ويربطها بالمناطق من حولها؛ ليستطيع الأَهالي من خلالها تسويق وبيع خيرات ما تجود به أراضيهم الخيِّرة التي لا يملك النّاظر إليها إلا أن يقول: سبحان الله، ما أبرك هذه الأرض، وأجودها!