منذ شهرين تقريبًا، تشهد أسواق محافظة حضرموت خاصّةً، والأسواق اليمنيّة عامّةً، ارتفاعًا كبيرًا في أسعار محصول البصل، الّذي يُعدُّ مكونًا رئيسيًّا في معظم أكلات اليمنيين؛ حيثُ وصلَ سعر الكيلو جرام الواحد منه في أسواق التّجزئة بمدن محافظة حضرموت، لمستوياتٍ قياسيّة، تخطّت حاجز الــ(2,500) ريالٍ يمنيٍّ (ما يُعادل 1.6 دولارًا أمريكيًّا)، فصار البصل اليوم -ولو مؤقتًا- عصيًّا على الشِّراء، وهو المعروف بأنّه من أرخص السلع ثمنًا، إذ كانت بالكاد يُباع الكيلو جرام الواحد منها بــ(700) ريالٍ يمنيّ.
أمام هذا الواقع تفاعلَ روّاد منصات ومواقع التّواصل الاجتماعي ساخرينَ عبر منشوراتهم، وسط تساؤلات مُتهكِّمة: "كم سعر البصل اليوم؟!"، فراجت عبارات من باب السّخط والتّندر بأن "البصل أَصبَحَ يُنافِس الدُّولار"، كل ذلك بالتّوازي مع تصاعد التّضخم الاقتصادي في البلاد، وتراجُع قيمة الريال اليمني أمام الدُّولار.
قلة إنتاج
وأَرجَعَ صالح بازقامة، رئيس جمعية الفلاح الحضرمي الإنتاجية بوادي حضرموت، لـ"خيُوط"، أسبابَ هذا الارتفاع إلى قلّة الإنتاج العالمي من البصل، وتوقف التّصدير من أبرز الدول المصدّرة له حول العالم، المتمثلة بالهند، وباكستان، ومصر؛ بسبب التأثيرات المناخيّة في هذه البُلدان، التي ألحقت أضرارًا كبيرةً بمواسم ومنتجات زراعيّة، ومنها البصل، فانخفضَ الإنتاج وسط ارتفاعٍ في الطّلب، ما أدّى إلى ارتفاع سعره عالميًّا، فزادَ الطَّلب على البصل اليمني دوليًّا، وهوَ ما شجّعَ التُّجار في بلادنا على تصدير كل الكميّات المتبقية لدى المزارعين، والموجودة في مخازنهم.
بالتّزامن مع هذا الارتفاع الكبير في أسعار البصل، أصدر وزير الزراعة والري والثروة السمكية في الحكومة المعترف بها دوليًّا قرارًا وزاريًّا حمل الرّقم (2) لعام 2024، يقضي بإيقاف تصدير محصول البصل إلى الخارج عبر كل المنافذ البريّة والبحريّة للبلاد. ووفقًا للقرار، فإنّ هذا الإيقاف اتُّخِذَ بهدفِ تلبية حاجة السُّوق المحليّة من البصل، وحتّى يتم تنظيم تسويقه محليًّا وخارجيًّا مع مختلف الجهات المختصة وذات العلاقة. وحدّد القرار لجميع تجار ومصدّري البصل مدةً زمنيةً أقصاها أسبوعٌ واحد من تاريخ صدوره في 22 يناير/ كانون الثّاني 2024، لسرعة التّصرف بالكميات والشحنات الموجودة في جميع المنافذ، وتوزيعها.
ولأنّ هذا القرار الوزاري لم يتضمن أي إجراءات أو حلول لمعالجة الأضرار الناتجة عن تطبيقه، فقد أثارت هذه الجزئيّة مخاوفَ كبيرةً لدى المزارعين والجمعيّات الزراعيّة التعاونيّة وتُجار التّصدير في وادي حضرموت، والمعتمدين بشكلٍ أساسيٍّ على زراعة وتصدير محصول البصل، الذي يُعدُّ واحدًا من المحاصيل الاستراتيجيّة النقدية الخَمسة للجمهورية اليمنيّة، إلى جانب: العسل، والبُن، والذُّرة، والتّمر. إِذ تحتلُّ اليمن المرتبةَ التّاسعة بين الدّول العربية في حجم إنتاج البصل. وتعدُّ دول الخليج العربي، ومنها: السّعودية، والإمارات، والكويت، والبحرين، وعُمان، وبعض دول شرق آسيا، وجهةَ غالبية صادرات اليمن من البصل.
وكون المنتجات الزراعية تمثّل رافدًا هامًّا لتعزيز القطاع الاقتصادي للبلاد، حيثُ تساعد في توريد العملة الصعبة، وتعزز الوضع الاقتصادي بشكل عام، وتُساهِمُ في مكافحة البطالة من خلال توفير فرص العمل، فقد أقبلَ مزارعو حضرموت على زراعة البصل في الصَّيفِ والشِّتاء، وهوَ ما جعلَ حضرموت وحدها تستحوذ على ما نسبته 18% من إجمالي المساحة المزروعة منه في اليمن، حيثُ يبلغ متوسط المناطق المزروعة بالبصل في وادي حضرموت سنويًّا، حوالي (800) هكتار من مجمل الأراضي الزراعيّة.
إرباك شديد
وبحسب المهندس/ حسن باطاهر، مدير عام غرفة تجارة وصناعة وادي حضرموت، فإنّ صادرات البصل منذ بداية موسم هذا العام مطلع نوفمبر/ تشرين الثّاني 2023، حتّى وقت صدور القرار (أي خلال ثلاثة أشهر تقريبًا) بلغت حوالي (11,237) طنًّا، بقيمةٍ إجماليةٍ وصلت إلى (125,143,323) ريالًا يمنيًّا. وتوقّع باطاهر في حديثه لـ"خيُوط"، تحقيقَ توازنٍ بين العرض والطلب، عند تنفيذ آليات من شأنها تنظيم عملية التصدير مع الجهات ذات الاختصاص، فيما يتعلّق بعملية التسويق، وتحديد الكميّات الممكنة للتّصدير، وبما يسمح للمزارِع تحقيق ربحٍ مُجزٍ، وللمواطن الحصول على المنتج بسهولةٍ ويسر.
إِلَّا أنَّ تاجر التصدير محمّد علي يرى أن هذا القرار المفاجئ سيؤدي بلا شكٍّ إلى إرباكٍ شديدٍ للمصدّرين على وجه الخصوص؛ وذلك لتأثيره في آليات عملهم، وأنشطة تعاقداتهم والتزاماتهم الماليّة مع الخارج، خصوصًا أنّ هناك كميّات قد تمّ دفع ثمنها مقدّمًا، وهو ما سيُمثِّلُ مشكلةً كبيرةً وصعبةً في حال طلب المستورد استرداد أمواله. وأضافَ محمّد: "إذا استمر فعلًا قرار الإيقاف هذا من قِبل الوزارة، فكل الخيارات مفتوحة أمامنا، ومن ضمنها التّصدير إلى الخارج عبر ميناء الحديدة".
وطالَبَ كثير من تجار ومصدِّري البصل وزارةَ الزراعة والري والثروة السمكية بوضع استراتيجية زراعية لهذا المحصول، توضّح من خلالها القدرة الاستيعابيّة للسّوق المحلية منه، وقدرة المزارعين له على تحقيق فائضٍ خاصّ بالتّصدير؛ وذلِكَ من أجل تلبية احتياجات السّوق المحلية أولًا، وضبط الأسعار عندَ حدودٍ مقبولةٍ، وتاليًا من أجل تلبية التزامات المصدّرين والتُّجار؛ كي لا يقعوا تحتَ طائلة المساءلة والعقوبة القانونيّة فيما يخص الوفاء بعقودهم مع المستوردين خارج البلاد.
هذه المطالبات المشروعة والموجّهة للحكومة وأجهزتها المعنيّة تتوافق تمامًا مع ما يُسمّى بسياسة (الزراعة التّعاقدية) المتعامَل بها في عددٍ من الدول. وتقوم على أساس تحديد الاحتياجات المحلية من المحاصيل الزراعية أولًا، والاتفاق على أسعار عادلة ومنصفة مع المزارعين، ومن ثمَّ يتم تسليم المحصول في وقتٍ معيّن متفقٍ عليه؛ لتكوِّن الدّولة مخزونًا استراتيجيًّا منه، تطرحهُ في السوق المحلية بالسعر المناسب الذي يكون في متناول المواطن، وتُصدِّر المتبقي منه؛ استعدادًا لاستقبال محصول جديد، وهكذا.
من أبرز النتائج غير المدروسة والارتجالية لهذا القرار، أن كميّات كبيرة من البصل ستتلف في حقولها؛ بسبب عدم قُدرة المزارعين على تصريفها بعد الحصاد، لا سيما أنّ القرار صادفَ وقت ذروة الموسم، في ظل زيادةٍ كبيرةٍ من المساحات المزروعة بالبصل في الموسم الحالي، وهو ما يهدّد بخسارة كبيرة وفادحة.
تبعات كارثية
في السِّياق، أكّد مزارعون أن هذا القرار الوزاري ستكون له تبعاته الكارثيّة عليهم بشكلٍ خاصّ، إذ جاء توقيته بداية الموسم الذي كانوا يعولون عليه كثيرًا، في ظلِّ وضعٍ اقتصاديٍّ مُنهار، وهو ما قد يدفع بكثير منهم للتّوقف عن زراعة البصل؛ لأنّ تكاليف إنتاجه أصبحت في زيادة دائمة. "وفي حال استمر إيقاف التّصدير فإن المزارعين سيعانون كثيرًا؛ لأنهم لن يستطيعوا بيعه بسعرٍ يغطّي تكلفته"، كما يقولُ المزارع فرج بارفيد لـ"خيُوط" الذي زرعَ هذا الموسم أربعة هكتارات من البصل. مُشيرًا في حديثه إلى أنّ المزارعين هذه الأيام لا يناسبهم الوضع، وهم يصدّرون البصل إلى الخارج، فكيف إذا مُنِعَوا من التّصدير؟!
المهندس/ شكري باموسى، مدير عام مكتب وزارة الزراعة والري والثروة السمكية بوادي وصحراء حضرموت، في تصريحٍ لـ"خيُوط"، بيّن أهميّة هذا القرار الوزاري، قائلًا: "إن هذا القرار جاء من أجلِ إيجاد الآليّات المناسبة لخلق توازن بين الكميات المعروضة من البصل في السوق المحلية وبين الكميات المخصصة منه للتصدير، دونَ إلحاقِ أيّ ضرر، سواء بالمواطن أو المزارع أو التاجر المصدِّر أو الجمعيّات الزراعيّة". وأَشارَ باموسى إلى انعقاد اجتماع لمناقشة هذا القرار مع السلطة المحليّة بالمحافظة، والغرفة التجارية والصناعية، والأمن، وممثلين عن الجمعيّات الزراعية والمصدرين والمزارعين، تمّ من خلاله الاتفاق على رفع آلية مقترحة إلى الوزير بتقليص نسبة الصادرات إلى 30%؛ من أجل توفير المحصول في السوق المحلّية.
ووصفَ رئيس جمعية الفلاح الحضرمي الإنتاجية بوادي حضرموت، صالح بازقامة، في حديثٍ لـ"خيُوط"، القرارَ بأنَّهُ "مجحف وكارثيّ، وجانَبَ الصَّواب كثيرًا". مؤكدًا أنّ تبعاته من شأنها أن تشكل ضررًا كبيرًا، سواء على المزارعين أو الجمعيّات أو التُّجار، ويضيف: "كان الأجدر والأحرى بالحكومة ممثلةً بالوزارة الوقوف إلى جانب المزارع ابتداءً، والعمل على وضع مصفوفة معالجات وحلول؛ للمساهمة في استقرار أسعار المدخلات الزراعية المختلفة والأسمدة والبذور قبل إصدار مثل هذا القرار".
وختم بازقامة حديثه منوهًا بأن من أبرز النتائج غير المدروسة والارتجالية لهذا القرار، أن كميّات كبيرة من البصل ستتلف في حقولها؛ بسبب عدم قُدرة المزارعين على تصريفها بعد الحصاد، لا سيما أنّ القرار صادفَ وقت ذروة الموسم، في ظل زيادةٍ كبيرةٍ من المساحات المزروعة بالبصل في الموسم الحالي، وهو ما يُهدِّد بخسارة كبيرة وفادحة.
والخلاصة، فإن قرار وزارة الزراعة والري والثروة السمكية هذا، يُعيدُ إلى الأذهان الحديثَ عن فوضى الأسعار التي تضربُ بين الحين والآخر قطاعات ومحاصيل رئيسيّة أخرى في البلاد، ومنها ما حصلَ في وقتٍ سابقٍ من ارتفاعٍ جنونيٍّ في أسعار الأسماك، وهو ما جعلَ الوزارة نفسها تصدر قرارًا مشابهًا في 19 فبراير/ شباط من العام المنصرم 2023، قضى بإيقاف تصدير الأسماك والأحياء البحرية المختلفة إلى خارج اليمن؛ بهدف توفيرها للأسواق المحلية؛ نظرًا لما تمر به البلاد من ظروفٍ صعبةٍ في شح الإنتاج السمكي.