"مداهل" الجدات و"كَدِرهن" تعود إلى الواجهة

جرحٌ قديم يُطلِق مخبوزات "هديل" بأيدٍ شبابية
فاطمة العنسي
July 25, 2024

"مداهل" الجدات و"كَدِرهن" تعود إلى الواجهة

جرحٌ قديم يُطلِق مخبوزات "هديل" بأيدٍ شبابية
فاطمة العنسي
July 25, 2024
.

وَقْعُ الكلمات لا يمرّ مرور الكرام؛ إنّها كالحجر إذا سقط على الشيء يفلقه نصفين، لا سيما إن كانت ممّن نعتبرهم مقربين لنا. وقع الكلمات القاسية، والسخرية، والتعالي، جرح قديم، صنعَ إصرار وكفاح "هديل" عبر مشروع شبابي، أعادت من خلاله مخبوزات "المداهل"، و"الكَدِر"، إلى الواجهة مرة أخرى.

تتذكر الشابة هديل عصام الموقف، عندما قيل لها إنّها لا تملك طموحًا، وأنّها لن تكون أكثر من مجرد عبء على المجتمع. هي اليوم، وبكثير من الفخر، غدت من الأسماء الناجحة في إدارة مؤسسة صغيرة في حجمها، كبيرة في طموحها، إذ تعكس بذلك نموذجًا وصورة تكثف فيها إيقاع الحياة الذي تتميز به كثيرٌ من اليمنيات مؤخرًا، وكفاحهن الاقتصادي والمعيشي والنجاح الاجتماعي في ظل ظروف وأوضاع صعبة تمر بها البلاد، بفعل الحرب والصراع الذي طالت تأثيراته وتبعاته غالبية السكان في اليمن. 

مخبوزات الجدات والأمهات

وُلِدت وترعرعت هديل في صنعاء، لكن مذاق المأكولات التعزية التي كانت والدتها تُحضّره للأسرة، ظلّ حاضرًا وراسخًا في ثقافة الأسرة، التي كانت تعدّ "المداهل" و"الكَدِر" -نوعان من المخبوزات التقليدية، اشتهرت به بعض القرى اليمنية- وتهتم بتفاصيل أن يكون الغذاء ذات قيمة غذائية عالية، بعيدًا عن المأكولات المشبعة بالدهون أو النشويات.

كانت الأمهات في بعض قرى اليمن، منها تعز، تُعِدّ قرصًا سميكًا، يشبه في حجمه وشكله "الكيك الإنجليزي"، يحتوي في مكوناته على خليط من البرّ، والدّخن، والشعير، والذرة، والسمن البلدي، وزيت السمسم، بالإضافة إلى مكونات أخرى، يمكن أن يُؤكل في أيّ وجبة، وكان يطلق عليه اسم "مدهَلة"، ومن هنا اقتبست هديل اسم المشروع.

شغف هديل طفولي، حيث تتذكر، خلال لقاء بـ"خيوط"، عندما كانت تدوّن بقلمها وهي في الصف الثالث الإعدادي، الوصفات الشعبية والتقليدية، راسمةً في خيالها مدى أبعد من أن تكون مجرد طبخات تُعِدها في إطار مطبخ الأسرة.

هناك طلب مرتفع على "الكدر"، كونه وجبة كاملة بالنظر إلى احتوائه على كل أنواع الحبوب البلدية، التي تتميز بإنتاجها اليمن، وبمذاقها المختلف عن أي بلد آخر، لكن إعداده يتطلب وقتًا وجهدًا أطول؛ لذا فقد خصصت "هديل" يوم الأربعاء لإنتاج "الكدر"، إذ إن رائحة قرص الكدر بمكوناته البلدية المتميزة مع كوب من الشاي الأحمر يصنع سعادة؛ بحسب تعبيرها.

تقول هديل لـ"خيوط": "أفكر منذ سنوات في إنشاء مشروعي الخاص، حيث تطورت الفكرة من مطعم إلى بوفيه ثم إلى محل لبيع المعجنات، وأخيرًا إلى إنتاج "المداهل" من خلال تأسيس مشروع مخبز سميته "مدهلة"، حيث يُنتج أصنافًا قديمة، اعتدنا على تحضيرها من الجدات والأمهات".

منذ الساعة السادسة صباحًا، ومع إشراقة الصباح الأولى، تتجه هديل إلى مخبزها المنزلي برفقة 12 عاملًا لإعداد منتجاتها المتنوعة، المعتمِدة بدرجة رئيسية على الحبوب، حيث تشمل أصنافًا مختلفة من المعجنات، والمخبوزات، والحلويات، والكعك، يتم إنتاجها من الشعير، والدخن، والذرة (البيضاء والصفراء)، البرّ البلدي، الشوفان، وعدد من الحبوب والبذور المحلية والمستوردة ذات القيمة العالية.

تضيف هديل: "منتجات الذرة والشعير والدخن تكون هشّة، ومن الضروري الحفاظ عليها كما "الطفل"، بالاهتمام بعمليات الإنتاج والتغليف وغيرها، بعكس الوجبات المصنوعة من الدقيق والسكر".

الإصرار على تجاوز الصعوبات

كانت "المدهلة" سابقًا تأخذ وقتًا أطول؛ لأنّ الحبوب الكاملة تحتاج مدة زمنية لإعدادها على التنور الحطب، حيث كان يوضع من الصباح حتى الليل أو العكس، ومع التطور ووجود تقنيات الأفران صار يأخذ من ساعة إلى ساعتين ونصف، مع فصل المكونات وعمل كل مكوِّن نوعًا منفردًا.

في مشروع مدهلة واجهت هديل عصام، صعوبات، على غرار أيّ مشروع منزلي شخصي يقوم به الفرد، بفعل الحرب والصراع وما سبّبته من قطع للطرقات، والاستعانة بطرق بديلة وعرة، كانت أبرز التحديات التي واجهتها.

تستطرد: "نأخذ كل مكونات الإنتاج من المزارِعين الذين لا يزالون يزرعون الحبوب في قرى تعز وإب، في حين نأتي بالزيوت من حضرموت وأبين والحديدة، والعسل من مُنتجِي العسل في القرى، لكن انقطاع الطرق الرئيسية بفعل الصراع القائم في البلاد، يتسبب في مضاعفة التكلفة وتأخر الطلب".

إضافة إلى تحديات أخرى، مثل: تذبذب وضع السوق، واختلاف قيمة الصرف بين المناطق اليمنية، وانعدام الغاز، وارتفاع تكلفة الكهرباء التجارية، وقلة دخل الفرد، مع عدم إدراكه مدى قيمة ما تبذله هذه الأعمال والمشاريع من جهود مضنية لتجاوز كل هذه العوائق والتحديات.

تساهم مثل هذه المشاريع في تحفيز المزارعين على البقاء على زراعة الحبوب التي تواجه الكثير من التحديات وغزو "القات" الذي تسبّب بهجر كثيرٍ من المزارعين لتقاليدهم التي اعتادوا عليها، وترك زراعة الحبوب؛ بحجة عدم جدواها الاقتصادية والتجارية، واتجاههم إلى زراعة "القات".

يشير شاهر سعد، مسؤول الإعلام الزراعي، في محافظة تعز، لـ"خيوط"، إلى أنّ المرأة قديمًا كانت تقايض بالمحاصيل الزراعية مقابل احتياجات المنزل، ومع التطور الحديث والتعليم، ووجود العملات، اندثرت هذه العادة، لكنها اليوم عادت إلى الواجهة بوجود المشاريع المنزلية التي تقوم على المنتجات المحلية.

يضيف سعد أنّ المشاريع المنزلية والصغيرة للمأكولات والمخبوزات المتعلقة بالمحاصيل الزراعية، لبّت احتياجات الناس ووفّرت لهم دخل، لا سيما المزارعين في القرى، وعملت كذلك على إنعاش الزراعة المحلية، وهذا يمثّل ركيزة مهمة لدعم الاقتصاد الوطني والاعتماد على الذات والاستقلال المالي.

وتأتي أهمية هذه المشاريع -وفق حديثه- ممّا تجنيه الأرض اليمنية من محاصيل ذات جودة عالية، بالإضافة إلى دورها في سدّ حاجيات الأسرة وتشجيع العودة إلى الزراعة المحلية، وتحفيز المزارعين والجمعيات الزراعية على زيادة إنتاج المحاصيل، فضلًا عن فائدتها الغذائية العالية للصحة.

الشغف وأهمية "الكَدِر"

تحاول هديل من خلال هذا المشروع المتميز، الاهتمامَ بالجانب الغذائي الصحي، والتعريف بتقاليد المخبوزات في تعز وصنعاء واليمن بشكل عام، وكذا الحد من انجذاب الشباب نحو المأكولات السريعة ذات السعرات الحرارية المرتفعة؛ إذ يقدّم المشروع أصنافًا تعود بالنفع على الصحة، والعمل يسير بهمة ونشاط وانضباط تمتد ساعات قد تصل إلى أكثر من 18 ساعة في اليوم، في فترات المواسم.

يؤكّد القائمون على هذا المشروع أنهم يلمسون تجاوبًا وتغيرًا تصاعديًّا لدى الشباب واقتناعهم بأهمية الحبوب الكاملة، وأهميتها على الصحة والجسم، إذ يعتبر أصحاب "الحِميات" الفئةَ الأكثر إقبالًا على مثل هذه المنتجات، كما أنّ هناك وعيًا لدى الكثير بأهمية الحبوب الكاملة، لا سيما عقب موجة كورونا، في حين هناك أهمية من الناحية الصحية والتغذوية في الاعتماد على الحبوب في إنتاج الغذاء والوجبات الصحية.

تناسب مثل هذه المنتجات، بحسب خبراء في التغذية: مرضى السكر والضغط، وغيرها من الأمراض، وأصحاب الحِميات الغذائية، حيث استعان مشروع "مدهلة" بمجموعة من الخبراء ومختصي التغذية، في بداياته الأولى من أجل أخذ نصائحهم المتعلقة بالمكونات المفيدة لصحة العملاء. 

تشير هديل إلى أنّ هناك طلبًا مرتفعًا على "الكَدِر"؛ كونه يمثّل وجبةً كاملة بالنظر إلى احتوائه على كل أنواع الحبوب البلدية، وتتميز اليمن بإنتاجها، وبمذاقها المختلف عن أيّ بلدٍ آخر، إضافة إلى أنّ نسبة الدهون فيه منعدمة، لكن إعداده، كما تقول هديل؛ يتطلب وقتًا وجهدًا أطول؛ لذا فقد خصصت يوم الأربعاء لإنتاج "الكدر"، وتضيف: "رائحة قرص الكدر بمكوناته البلدية المتميزة مع كوبٍ من الشاي الأحمر يصنع سعادة".

فضلًا عن إبداعها في ابتكار أصنافٍ جديدة، أو تحديث وصفات قديمة بإضافة نكهات مختلفة إليها، إذ تحاول أن تستمتع بوقتها في العمل والروائح الزكية التي تنبعث من مطبخها كل يوم، كما تعمل حاليًّا في إنتاج الكعك والحلويات باستخدام دقيق العدس. 

تختتم هديل حديثها لـ"خيوط"، بالقول: "أيّ مشروع أيًّا كان حتى لو بدا لك سهلًا ومريحًا، فالكواليس غير؛ فهو يتطلب شغفًا وجهدًا لكي ينجح، وما أكثر احتياج الشباب لامتلاك الشغف والتوجه نحو مثل هذه المشاريع الصغيرة التي تستطيع من خلالها أن تجد ذاتك وتصل إلى النجاح الذي تطمح له قبل أن يكون مصدر رزق، في ظل فقر وظروف معيشية صعبة.

في حين يظلّ شعور الاستقلال المالي -خصوصًا النساء- وأن يكون لديك مشروعك الخاص ومردودك المالي المستقل، شعورًا لا وصف لسعادته الغامرة التي يستحق الوصول إليها كلَّ التعب الذي نبذله من أجلها".

•••
فاطمة العنسي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English