من المتعارف عليه أنّ هناك سماسرة لتأجير الشقق وبيع وشراء البيوت والأراضي، وسماسرة للأطباء والمرضى، ومنذ زمن بعيد كتبت مقالًا بعنوان "المرضى اليمنيون في مصر وسماسرة الموت"، أوضحت فيه كيف تتم متاجرة سماسرة يمنيين ومصريين بالمرضى اليمنيين.
أما سماسرة لتزويج الفتيات فقد صارت ظاهرة متفشية، ومهنة تدرّ دخلًا على مزاوليها، فقديمًا ارتبطت المهنة بالخاطبة، ولكن ليس بشكل علنيّ ورسميّ وإنما بصورة ودّية، وتكون الخاطبة معروفة لدى أهل الفتاة وأهل الفتى، ومع ذلك فما زال الكثيرون يرفضون التدخل في الزيجات، ملتزمين بالمثل القائل: "تدخل في جنازة، ولا تتدخل في زواجة".
والإشكالية هنا ليست في أن يسعى أحدهم بحسن نية في تزويج ابنته أو ابنه من خلال توسط بعضٍ ممن يثق بهم في مثل هذه الزيجات، بل الإشكالية حين يتحول تزويج الفتيات إلى تجارة رائجة ومربحة، يمارسها سماسرة محترفون لهذه المهنة ويتقاضون عليها مبالغ من الطرفين، حسب نوع العروس من حيث العمر والشكل ومستوى أهل الفتاة المادي ومركزهم الاجتماعي، وبالمقابل الشاب المقبل على الزواج بهذه الطريقة، مواصفاته من حيث المستوى الاجتماعي والاقتصادي للأسرة، ووظيفته ونوعها، وهل هو مقيم في اليمن أو في دولة خليجية، وكم سيدفع مهرًا، وهل يمتلك بيتًا.
وبحكم خبرة السماسرة بزبائنهم الحاليين والمحتملين، فلكلِّ فئة من هؤلاء الزبائن شروطٌ خاصة بهم، وغالبًا ما يكون الرجل متزوجًا أو مطلقًا أو أرمل، ولا يشترط في الرجل غالبًا السن، ولا الجمال، ولا خُلقه، ولا أن يكون متزوجًا أو عازبًا أو مطلقًا، وإنما يتم التركيز من قبل السمسار وأهل الفتاة على وظيفته ومركزه الاجتماعي ومستواه المالي، وهل سيوفر المهر المطلوب، والمؤخر والسكن والحياة المترفة لابنتهم.
فعلى سبيل المثال، أقدم رجل متزوج ولديه ثمانية أطفال، ويعيش في دولة خليجية، وعمره يقترب من بداية العقد الخامس، على البحث عن زوجة عن طريق سماسرة الزواج، وقدم شروطه الصعبة للسماسرة، فهو يريدها صغيرة السنّ من سن الرابعة عشرة إلى الثامنة عشرة كحدٍّ أقصى، ولم يسبق لها الزواج، وتكون فائقة الجمال؛ بيضاء، ذات شعر أملس وطويل، ورشيقة القوام وطويلة، وأن تكون هادئة ومطيعة، وتعليمها لا يتعدّى الثانوية العامة، وتلبس النقاب والجلباب، ولا تشاهد التلفاز، ولا تسمع الأغاني ولا تتابع المسلسلات.
وحين يبدأ السمسار في البحث عن المواصفات المطلوبة للفتاة من طالب الزواج، فإنه لا يجد كل المواصفات المطلوبة، فيضطر للتحايل عليه بأن يوهمه بتوفر المواصفات التي طلبها، بل ويبالغ في الوصف، فيعيش الزبون في عالمٍ خياليّ ساحر، وتنطلي عليه الكذبة. ومن الأمور المضحكة في هذا الأمر، أن يتفق السمسار مع الفتاة بأن تبعث صورتها سرًّا عبر الواتس أو الماسنجر للعريس، فتقوم بفلترتها كي تأتي على هوى العريس، ويكتفي العريس بالصورة، وسرعان ما يدغدغ السمسار مشاعره، ويقنعه بسرعة توكيل قريب له لكي يتم العقد عن بعد، ورغم أنه ضدّ الصور فإنّ لسان حاله يقول: "الضرورات تبيح المحظورات".
وبعد أن يحصل على إجازة يتجهز للزواج، وحالما يصل ويتزوج تكون المفاجأة غير المتوقعة، حين يرى الأصل عكس الصورة المفلترة تمامًا، فيصطدم، ويُطلّقها بخسارة مادية ومعنوية كبيرة. وهناك آخر يتزوج عن طريق صديق له، يتعامل معه أهل الفتاة بكرم ولطف شديد، ولا يغالون في المهر، فيستغرب، لكن السمسار يؤكّد له أنّ أهم شيء لديهم أنه سيحافظ على بنتهم، ويكرمها. وبعد الزواج وحين تبدأ بالحمل يكتشف بأنه تم خداعه، فالبنت مريضة بمرض مزمن لا شفاء منه، ويؤثر على علاقته الزوجية، فيصاب بالخذلان، وبأنهم تخلصوا من ابنتهم كي يزوّجوها له، ويحدث انفصال نفسي بينهما، فيضطر لطلاقها.
زواج الفتيات الصغيرات بالإكراه ينتج عنه، خيانات زوجية، أو يؤدّي بالكثيرات إلى ممارسة عنف مضادّ، أو قد تؤذي نفسها بالانتحار؛ لأنّ الزواج هنا يتحول لاغتصاب، أو تصاب بحالة نفسية لا يجدي معها أيّ علاج، وقد تودع بعضهن في المصحات النفسية في أحسن الأحوال.
ويظل السماسرة يقدّمون للزبائن طالبي الزواج صورًا معاكسة للواقع، ووصفًا فوق الخيال للفتيات اللواتي يدلونهم عليهن، ويلفون بهم من بيت لآخر ومن منطقة لأخرى، وقد تكون الفتاة المطلوبة تنطبق عليها أغلب المواصفات، لكن قد يوافق الأب، وترفض أو تتخوف الأم، أو يعارض العم أو الخال، أو يفرضون على المتقدم شروطًا تعجيزية.
وحدث أن أوصل السمسار الزبون (طالب الزواج) إلى بيت أهل العروسة، هو وقريبته، كي ترى العروسة عن قرب، خاصة أنهم رفضوا إعطاءه صورة، وعندما دخلت قريبته فوجئت أنّ الفتاة ما زالت صغيرة لم تتجاوز الرابعة عشرة، وقالت لقريبته بأنها لا ترغب في الزواج برجل متزوج، وتريد أن تكمل دراستها، وأبوها سيغصبها، فما كان منها إلا أن قالت لقريبها: "لا تناسبك"، وقالت له إنّها مريضة بمرض مزمن؛ حتى لا تضر الفتاة.
والغريب بالأمر أنّ الكثير من طالبي الزواج بدَؤُوا يطالبون السمسار بعد أن يوافق ولي أمر الفتاة على زواج بنتهم، دون أن يهتم الكثير منهم برأي الفتاة فيهم، بأن يلقوا ما يسمى بالنظرة الشرعية، وهي نظرة خاطفة لا يكاد يتمعن فيها بما فيه الكفاية، وكأنها مجرد شكل خارجي ولا ترقى حتى للسلعة التي يفحصها بدقة، فتسلب منها روحها، ولا يسأل عن أخلاقها وطباعها، ورغباتها، وغالبًا ما تكون تلك الفتيات ضحايا لزيجات بالإكراه من قبل أهاليهن، الذين قد يظن بعضهم أنهم يسترونهن، حسب مفهومهم للستر.
كما أنّ زواج الفتيات الصغيرات بالإكراه ينتج عنه، خيانات زوجية، أو يؤدّي بالكثيرات إلى ممارسة عنف مضادّ، أو قد تؤذي نفسها بالانتحار؛ لأنّ الزواج هنا يتحول إلى اغتصاب، أو تصاب بحالة نفسية لا يُجدي معها أيّ علاج، وقد تودع بعضهن في المصحات النفسية في أحسن الأحوال.
ولذا ينبغي ألّا نعتمد على السماسرة الذين يمتهنونها مهنة مربحة لهم، وكأنهم يؤجرون شققًا أو يبيعون أراضيَ أو سلعًا، فيستفيدون من الطرفين ماديًّا، ولا يتحمّلون أيّ نتائج من جراء خداعهم للطرفين.
فمن تجربة، قامت إحدى قريباتي بطلب يد طفلة لم تتجاوز الرابعة عشرة لرجل قريبها متزوج ولديه أبناء وميسور الحال، ولكنه يكبرها بأكثر من عشرين عامًا، وظروف أسرتها المادية صعبة جدًّا، فهم نازحون يعيشون في دكان، فظنت قريبتي أنها ستعمل خيرًا معها، لكنّ أمها وأباها رفضا، مؤكّدين أنّ ابنتهم ما زالت طفلة وهو رجل متزوج.
ولعل هذا يدل على أنّ هناك الكثير من أولياء الأمور يمتلكون الوعي الكافي، ولا يمكنهم بيع بناتهم، ولكن الإشكالية في السماسرة الذين يستخدمون الحيل، والأكاذيب، ويخدعون أولياء الأمور.
وأعتقد أنّ هناك ضحايا كثر لفتيات تم تزويجهن عنوة وطمعًا عن طريق سماسرة التزويج، ولو تم إجراء تحقيقات استقصائية، فسنكتشف هول المأساة.