أسرار اللعبة في "العمائم الليلكية"

رواية غارقة حتى أذنيها في الهمّ السياسي
د. قائد غيلان
June 12, 2024

أسرار اللعبة في "العمائم الليلكية"

رواية غارقة حتى أذنيها في الهمّ السياسي
د. قائد غيلان
June 12, 2024
.

انطلق جُلّ مَن تناول رواية "العمائم الليلكية"(*)، للدكتور أحمد السري، من أنها رواية تاريخية، وهي ليست كذلك من وجهة نظرنا، فهي بعيدة كل البعد عن الرواية التاريخية، بل إن ذلك الكتاب/ الرواية حسب الراوي الثاني: "كأنه كتاب أيامنا، وليس فيه من القِدَم إلا الخيل والسيف" (الرواية، ص:231).

لقد تحرّرت هذه الرواية من مفهوم الزمان والمكان، وخلقت لها عالَمًا متخيّلًا بأحداثه وزمانه وأمكنته، وكل ما ورد من ذكرٍ للزمان أو المكان مجرد لعبة فنية، كما جاء في الفصل الأخير (البداية)، كل ما ورد فيه عبارة عن حِيَل فنية تبعد الرواية من مجال التفسير السياسي وتحمي الكاتب من المساءلة البوليسية. ولكن هذا الفصل رغم ذلك، فصلٌ مُقْحَم على الرواية، زائد على الحاجة وغير ضروري، إنه من باب التفسير الذي يفسد النص، وكانت الرواية بدونه ستكون أجمل وأكمل، بل كانت ستكون من أفضل الروايات اليمنية الصادرة في السنوات الأخيرة.

تغرق الرواية حتى أذنيها في الهمّ السياسي، تفعل ذلك بحذق فني يتجنب المباشَرة أو الدفاع الأيديولوجي الذي تورّطت فيه جُلّ الروايات اليمنية، ومع ذلك فإنّ الرواية ملغّمة بالإشارات السياسية التي لا تخفى على لبيب، ابتداء من اسم الملك "شوكة الدين" والوزير "ولي الدين" وغيرها من الأسماء المضافة إلى الدين، هذا الربط بين الأسماء والدِّين له دلالة لا يخطئها اليمني، وعندما تضع لك الرواية منذ البداية "شوكة الدين" اسمًا لملك فإنها تضعك أمام مفارقة تُحَرِّك قرون الاستشعار التأويلي عندك، فتجعلك تحس "بشوكة الدين" تطعنك من كل مكان وليس فقط من تحت قدميك، ولا يمكن لتلك الشوكة أن تكون حادثة تاريخية بل هي واقع معيش.

لا تقدم الرواية أحداثًا تاريخية ولا تقدم حلولًا لمشاكل العصر، ولكنها تقدم عالَمًا موازيًا يشبه هذا الواقع ولا يشبهه؛ ذلك لأنّ الآداب والفنون فائدتها جمالية محض، فهي تنطلق من الخيال وتخاطب العواطف، ولأنها كذلك فهي بالضرورة لا تعطيك معلومة صحيحة أو خاطئة، إنها تقدم لك مادة للمتعة الجمالية.

عنوان يغري بالاسترسال 

إنك وأنت تقرأ الرواية تعيد تغيير قناعاتك التأويلية كلما ظهرت لك معلومة جديدة، وهو ما يعرف عند "إيزر" بـ"وجهة النظر الجوالة" فأنت تغير فهمك وقناعاتك باستمرار، فتعطي مثلًا فَهمًا خاصًّا للصفة (الليلكية) التي كنت قد أعطيتها للون، ثم تصبح للجارية ليلك التي أصحبت أميرة فيما بعد، إلى أن تجد لها تفسيرًا خاصًّا في الربع الأخير من الرواية، وكذلك دلالات قلعة القمر ومدينة الشمس، ووادي الرمان الذي ينصرف لمحافظة يمنية تشتهر بجودة هذه الفاكهة، فتسارع إلى ربط شوكة الدين ومحافظة يمنية تشتهر بهذه الفاكهة، لكنك تعدّل قناعاتك في نهاية الرواية عندما تظهر لك معطيات جديدة فيما يتعلق بهذا الوادي. العنوان نفسه "العمائم الليلكية" يغريك بالتسرع في التأويل، بل إن هذا العنوان وحده يغريك بالاسترسال، لو توقفت عنده لأخذ مني مساحة كبيرة في المقالة؛ ذلك لأن الغلاف والإهداء والمقدمة، تعتبر عتبات ضرورية، وقد أصبحت تحتل مساحات كبيرة ودراسات تفصيلية معمَّقة في النقد الأدبي المعاصر، ولم تعد شيئًا شكليًّا أو إضافيًّا أو ثانويًّا أو هامشيّا، فأنت من خلال تلك العتبات قد تصل إلى نتائج وأحكام نقدية مهمة ضمن الدراسات السيميائية المعاصرة. العمامة (رمز السلطة الدينية)، والتاج (رمز الملك)، والحذاء أيضًا، يتشابهون في أشياء كثيرة؛ فالتاج والعمامة يحميانك ممن هم تحتك، والحذاء يحميك من كل ما هو تحتك أيضًا. التاج والعمامة والحذاء يشتركون في نفس الوظيفة، غير أن الحذاء يجعلُك فوقَه، أما التاج والعمامة فيجعلانك تحتَهما، ومن هنا أصبحت العمائم الليلكية محور هذه الرواية وعنوانها.

لا تقدّم الرواية أحداثًا تاريخية ولا تقدّم حلولًا لمشاكل العصر، ولكنها تقدّم عالمًا موازيًا يشبه هذا الواقع ولا يشبهه؛ ذلك لأن الآداب والفنون فائدتها جمالية محض، فهي تنطلق من الخيال وتخاطب العواطف، ولأنها كذلك فهي بالضرورة لا تعطيك معلومة صحيحة أو خاطئة، إنها تقدم لك مادة للمتعة الجمالية. وإن من أكبر الأخطاء التي يقع فيها الروائيون حشرَ معلومات تاريخية وسياسية في رواياتهم، فالروائي الذي يجعل روايته سجلًّا أمينًا وصادقًا للأحداث التاريخية والسياسية كما حدثت أو كما هي في كتب التاريخ والذاكرة السياسية، هو روائي فاشل لا يعرف طبيعة الرواية ولا يدرك حدود لعبته الفنية. كثيرًا ما يقع الروائي اليمني حين يعتقد أنه بروايته يؤرخ لمرحلة معينة بطريقة مباشرة، خاصة حين يغرق في تفاصيل الأحداث التاريخية. لا ينبغي للرواية أن تكون تاريخًا، الرواية عمل تخييلي، وكلّما تورّطت في التاريخ ابتعدت عن الأدب. بعض الروائيين ينفق الكثير من الجهد والوقت لجمع مادة تاريخية يوظفها في روايته، ظنًّا منه أنه بعرض تلك الحقائق وبذلك الإجراء قد أرّخ للمرحلة، وهو لا يعلم أنه قد غادر مهمته وحدود عمله وهو الأدب، ودخل في ميدان آخر وهو التاريخ، وأن عملية المواءمة بينهما شديدة الصعوبة، إذ ينبغي أن تدخل إلى التاريخ وأنت ممسك بخيط الأدب لا تغادره، فكلّما غاصت رجلك في أرضية التاريخ نزعت الأخرى من أرضية الأدب.

تتخلص الرواية من النزعة الذكورية، فتوزع الأدوار بعدالة بين الذكور والإناث، بل تُظهِر الأميرة (ليلك) التي كانت في الأصل جارية، بعقل وحكمة أكثر من الرجال، إضافة إلى أن المرأة الفاتنة الأكثر إغراء في الرواية (ميكا)، عاشت بينهم باعتبارها امرأة بدون فرج، فتتمكن من السيطرة والتغلب على الجميع، وخداعهم جميعًا، رغم افتقارها للموضوع الجنسي.

غزوة مدينة الشمس

يمثّل الراوي "شعيب المسكين" الرجل السوي في كل شخصيات الرواية، فهو لا يعرف ولا يجيد إلا التفكير والكلام والكتابة (ص: 51)، وهو ما يفتقر إليه الزعيم والوزير ومن سار في فلكهما، لكنه مع ذلك يظل شخصية مستقلة عن الكاتب، وإن كان هو الراوي الرئيسي للأحداث أو مؤلف الكتاب، حيث إن الرواية بمجملها هي خلاصة ما كان يكتبه من ملاحظات وهو يرافق الزعيم، هذا الراوي الرئيسي يتم تجاوزه براوٍ آخر يظهر في الفصل الأخير من الرواية، ليعلّق عليها ويطرح بعض الملاحظات التوضيحية التي تبعد الرواية إلى زمن آخر ومكان بعيد، وهذه مجرد حيلة فنية من المؤلف، كما ذكرنا في بداية المقالة، وهذا ما جعل أحدهم يفسر المكان بأنه في أرض الأندلس، وليس في الرواية ما يشير إلى ذلك غير الاسم "حفصون"، اسم منحوت على الطريقة الأندلسية، وذكر محمود بن أبي عامر في الفصل الأخير من الرواية. وحتى لو كانت هذه الإشارة تحيل إلى الأندلس، فليست تلك الأندلس المفقودة إلا هذا البلد الذي خسرناه.

مجموعة من اللصوص الذين كانوا يسكنون الكهوف لا يعرفون شيئًا إلا القتل والسلب والنهب، غزوا مدينة الشمس وعبثوا بكل شيء فيها (انظر ص: 85، 86)، يقتحمون البيوت، يصادرونها ويعبثون بكل شيء فيها: "مثل هذا البيت الذي اقتحمه عشرون شخصًا من المقاتلين صغار السن: "استغربت أن يحمل مثل هؤلاء السلاح، ويركبون الخيل ويقاتلون، وخلال أسبوع واحد فقط، أكلت خيولهم أشجار الزيزفون، وداست حوافرها أزهار الليلك، وملأ روث خيولهم فناء البيت وممراته، وفي الداخل تمزّقت ستائر الغرف، دنسوا بنعالهم المتسخة حصائر البيت" (ص:87). هذه الأحداث ليس فيها من التاريخ إلا الخيول، كما ذكرنا في الاقتباس، في بداية المقالة.

اعتمدت هذه الرواية على تقنيتها الخاصة في جذب القارئ، فهي لم تمارس الابتزاز في توظيف عنصر التشويق لتحتفظ بالقارئ، كانت تطرح العقدة أو المشكلة ثم تصل إلى الحل بعد ذلك بوقت قصير، لا تترك القارئ ينتظر إلى نهاية الرواية؛ ذلك لأنّها لا تعتمد على عقدة واحدة تربط القارئ، فما يشدّك ليس اللغز أو الغموض بل تسلسل الأحداث وتسارعها وطريقة السرد، والتشويق -كما قلنا مرارًا- مسألة معقدة وخطيرة، فكثيرًا ما تسقط الرواية في الابتذال بسببها، وهو ما تجاوزته هذه الرواية، لقد تخلّصَت أيضًا من البوح الذاتي الذي يغرق في الأسلوب الشعري فيجعل الرواية أقرب إلى التداعي الحر منها إلى العمل المحكم المدروس، كل شيء في هذه الرواية مدروس بدقة وفي مكانه الصحيح، كما تخلّصَت من التسطيح والشعارات والتعبير المباشر أو ادعاء تصوير الواقع والدفاع عن قضايا الأمة، وهي إن كانت تفعل ذلك فهي تفعله بطريقة ساخرة وغير مباشرة مثل توظيف أسماء الأعلام المضافة إلى الدِّين، وأهمّها الاسم المعبّر بدقة (شوكة الدين).

تتخلص الرواية من النزعة الذكورية، فتوزع الأدوار بعدالة بين الذكور والإناث، بل تُظهِر الأميرة (ليلك) التي كانت في الأصل جارية، بعقل وحكمة أكثر من الرجال، إضافة إلى أن المرأة الفاتنة الأكثر إغراء في الرواية (ميكا)، عاشت بينهم باعتبارها امرأة بدون فرج، فتتمكن من السيطرة والتغلب على الجميع، وخداعهم جميعًا، رغم افتقارها للموضوع الجنسي، فقوة المرأة كما تقدمها الرواية، ليس في عضوها التناسلي بل في وسائلها العلمية والتقنية. جميع نساء الرواية يمتلكن قِيَمًا نبيلة، بما في ذلك ميكا، احتفظت النساء بقيمهن مهما تغيّرت الظروف، بينما غرق الرجال في المؤامرات والقتال والسلب والنهب، حتى بشير، الشخص الورع الواعظ الوحيد في الرواية، انخرط في القتال والسلب والنهب تحت مسوغات المحافظة على الحياة، نستثني من ذلك (شعيب)، بقي سجله نظيفًا، وربما لأنه هو راوي الأحداث وهو مؤلف الكتاب الذي أصبح فيما بعد رواية، حرص أن يقدم نفسه المثقف والمفكر والكاتب النظيف الذي يعفّ عن الانخراط فيما يُغري مَن هم دونه معرفةً وثقافة.

(*) عناوين بوكس، القاهرة، 2024.

•••
د. قائد غيلان

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English