منذ الانعطافة الكبرى للحرب أواخر مارس/ أذار 2015، قررت العديد من الدول العربية وغير العربية، إجلاء رعاياها المتواجدين في اليمن، خاصة من المناطق الشمالية التي تسيطر عليها جماعة أنصار الله (الحوثيين). كان إجلاء الرعايا تحت مبرر الخوف على سلامتهم من جهة، ولاعتبارات سياسية، واقتصادية، من جهة أخرى، وبالفعل تم إجلاء الغالبية العظمى منهم. إذ أعلنت الصين حينها عن إجلاء 796 مواطنًا صينيًّا، فيما أعلنت الأردن عن إجلاء أكثر من 500 مواطن أردني، وبالمثل تركيا حوالي 175 مواطنًا، بينما أجلت روسيا أكثر من 300 مواطن، والهند 348، وباكستان 676 مواطنًا من بين نحو 3000 باكستاني يقيمون في اليمن، وغيرهم الكثير من مختلف الجنسيات.
غير أن القليل من رعايا بعض الدول العربية وغير العربية الذين كانوا حينها مقيمين على الأراضي اليمنية، كانت لهم وجهة نظر مختلفة عن قرارات حكوماتهم، إذ فضّلوا البقاء في اليمن، رغم إدراكهم للمخاطر المترتبة على ذلك القرار في ذلك الحين. فما هي دوافع قرارهم في البقاء داخل البلاد رغم توسع دائرة الحرب؟ وكيف هو حالهم اليوم مع دخول الحرب عامها السابع؟ وكيف ينظرون إلى مستقبل البلد الذي لم يعد سعيدًا كما كان متعارفًا على تسميته منذ زمان غابر؟
ردّ جميل
شايا ساونث طبيبة هندية في الخمسينات من عمرها، قدمت إلى اليمن قبل أكثر من 15 سنة، وتعمل في مستشفى الكويت الجامعي بالعاصمة صنعاء. تدرجت شايا في عدة مناصب إدارية حتى تم تعيينها رئيسة لقسم الباطنية في المستشفى الحكومي الكبير الذي يستقبل مئات المرضى كل يوم. وحينما اندلعت الحرب في 2014، ثم بعد انعطافتها الكبرى في 2015، غادرت المستشفى عشرات الكوادر الطبية العربية وغير العربية، وحتى اليمنية، وزادت موجة النزوح الجماعي للأطباء والممرضين بعد أن توقفت السلطات الحكومية عن صرف المرتبات، وكانت وجهتهم عدة بلدان عربية وأجنبية. غير أن الطبيبة الهندية شايا ساونث رفضت أن تغادر اليمن، لأنها تشعر بأنه من المَعيب مهنيًّا وأخلاقيًّا أن تتركه في مثل هذه الظروف الحالكة، التي يعاني فيها اليمنيون قسوة الحرب. وتضيف شايا في حديثها لـ"خيوط": "عشت مع اليمنيين أجمل سنين عمري، وكافحنا سعيًا من أجل تقديم الخدمات الصحية المثالية للشعب الطيب، الذي لا يمكن أن تشعر وأنت تعيش معه بأنك لست يمنيًّا. اليوم نبادل وفاء اليمنيين بالوفاء، لن نتخلى عنهم في وقت الشدة".
وفي صنعاء ما يزال مجاهد العشماوي (79 سنة)، الشاعر والكاتب الصحفي الذي قدم من القاهرة إلى اليمن مطلع تسعينيات القرن العشرين الفائت، يعيش فيها، رغم مشقات الحياة. عمل عشماوي مستشارًا ثقافيًّا وإعلاميًّا بجامعة صنعاء، ثم وزارة التربية والتعليم، ونائبًا لمدير المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، وقد آثر البقاء في اليمن؛ لأنه "لا مبرر حقيقي" للمغادرة، من وجهة نظره، إذ يرى أن الصورة السلبية التي ينقلها الإعلام عن اليمن خلال فترة الحرب، مبالغ فيها.
"نحن في عز الأزمات لم نستطع أن نترك هذا البلد الطيب، عشت أخصب مراحل عمري في اليمن، ونحن تربينا على مفاهيم العروبة، وأن أصلنا هو من اليمن، وقد أطلقت على اليمن في واحدة من قصائدي "تسبيحة الأجداد"، لذا نحن نفخر ونعتز بتاريخنا، وحريصون على أن نسكن في موطن قلبنا."، يقول عشماوي الملقب بـ"ابن النيل"، لـ"خيوط". ويضيف في سياق ذكرياته عن الأنشطة الثقافية التي كانت تقام في اليمن، متحدثًا عن الإصدارات الشعرية الخمسة التي توزعت بين الفصحى والعامية، التي كان جُلّها في اليمن، وعن مشاركاته في مهرجان الشعر العربي الإسباني بصنعاء، وفي فعاليات "صنعاء عاصمة الثقافة العربية"، وفعاليات المركز الثقافي اليمني، والمركز الثقافي المصري، والمركز الثقافي السوري، وبيت الثقافة. وتمنى عشماوي أن يعود نشاط تلك الفعاليات، ليعيد اكتشاف محبوبه اليمن.
طبيب فلسطيني: لا قلق على حياتنا، فأرواحنا ليست أهم من أرواح زملائنا اليمنيين الذين تطال مدنهم وقراهم الصواريخ وقصف الطائرات المستمر
واحدية المصير
متنقلًا بين منزله في صنعاء ومكان عمله في ذمار طيلة عشرة أعوام، يرى الطبيب البيطري الأردني عمر مغربي، أنه لا يمكنه أن يغادر اليمن. يقول لـ"خيوط" :"أصبح اليمن موطني وموطن أبنائي الخمسة، الذي يدرس أكبرهم في كلية التجارة بجامعة صنعاء". ولا يختلف رأي زميله الفلسطيني عماد الكومي، القادم من الضفة الغربية هو وشقيقه محمد. يقول عماد لـ"خيوط": "حينما اندلعت الحرب في اليمن مطلع سنة 2014، نصحنا أهالينا بضرورة العودة إلى مدينتنا نابلس، لكننا كنا نطمئنهم بأن لا قلق على حياتنا، فأرواحنا ليست أهم من أرواح زملائنا اليمنيين الذين تطال مدنهم وقراهم الصواريخ وقصف الطائرات المستمر".
يعمل الكثير من العرب والأجانب القاطنين في مختلف المناطق اليمنية في مهنٍ متفرقة، أبرزها التطبيب، وفي القطاعات الهندسية، والشركات التجارية الخاصة ببيع الدواجن، وتتعامل السلطات اليمنية معهم وفقًا لسياسات ميسّرة لتواجدهم في الأراضي اليمنية، خاصة مَن هم مِن أصحاب التخصصات العلمية المطلوبة، إلى درجة أن الحكومة اليمنية كانت أقرت رسميًّا مطلع العام 2010، مشروعًا يسمح بتملك الأجانب للعقارات، لأغراض السكن أو للعمل، وذلك في إطار تعزيز البيئة المناسبة والجاذبة للمستثمرين أو السياح وخدمة التنمية الاقتصادية بأبعادها الاجتماعية.
عودة إنسانية
إضافة لذلك، لا يزال آلاف اللاجئين الصوماليين والأثيوبيين والإرتريين يقيمون في اليمن، في ظل الحرب، علاوة على أن منظمات عالمية أعادت موظفيها الأجانب إلى العاصمة صنعاء، وبعض المناطق، بعد أن كانت أقدمت على إجلائهم في الأشهر الأولى من الحرب، ومن بين تلك المنظمات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي أجلت 70 موظفًا أجنبيًّا تابعًا لها، وأعادت معظمهم في العام 2018، بسبب تردي الأوضاع، وهو ما جاء على لسان رئيس بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر كارلوس باتالاس، الذي قال: "إن الوضع في اليمن أصبح أسوأ، وازدادت الحاجة للمساعدات الإنسانية".