جمعية (تنمية الموروث الشعبي) جمعية أهلية ثقافية تأسست في 23 أغسطس 1996م، تحت مسمى (جمعية الموروث الشعبي) وتهتم بالتراث الشعبي في مختلف مجالات الحياة .
وُلد هذا المشروع الثقافي الأهلي في منزل الشاعر الغنائي والمؤرخ الفني الراحل أحمد بومهدي الذي تحول إلى منتدى ثقافي وفني وغنائي، أسماه (منتدى بومهدي)، ضم في جنباته نخبة من الفنانين والمثقفين والمهتمين والشخصيات الاجتماعية .
منتديات عدن حاضنة غير رسمية للثقافة
ظاهرة المنتديات الثقافية بدأت في التأسيس والانتشار في عدن في التسعينيات من القرن الماضي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: (منتدى الكاف) في منزل الصحفي والقاصّ المخضرم المرحوم إبراهيم الكاف، ومنتدى (باصديق) نسبة إلى القاصّ والروائيّ المرحوم حسين سالم باصديق، ومنتدى (بن شامخ) نسبة إلى الفنان الراحل محمد سالم بن شامخ وغيرها من المنتديات القليلة العدد.
كانت هذه المنتديات في الأصل مقايل في أيام محددة، وأكثرها يومي الإثنين والخميس، يلتقي فيها نخبة المجتمع من الأدباء والفنّانين والإعلاميين والصحفيين والرياضيين يتداولون الشأن الثقافي والأدبي والرياضي والفني الغنائي.
يبدو أن هاجس التفريق بين الفنون المكتوبة والمعاصرة باعتبارها تراثًا وبين الفنون الشفاهية والشعبية الجماهيرية باعتبارها موروثًا، هو ما جعل تسمية الجمعية تستخدم اسم الموروث الشعبي لا التراث الشعبي، من وجهة نظر الراحل بومهدي
وهذه المنتديات صارت تعويضًا عن دور الجهات الثقافية الرسمية التي تحولت بعد (الوحدة) من وزارة إلى مكتب إداري ضعيف وهامشي في أداء دوره الثقافي والأدبي، بعد أن كانت وزارة رسمية في عهد دولة (اليمن الديمقراطية) تشتغل في الشأن الثقافي والفني والأدبي لصالح دولة متكاملة في مشاريعها الثقافية.
كما يُعزى ظهور المنتديات النخبوية إلى انخفاض منسوب النشاط الأدبي والثقافي لفرع اتحاد الأدباء والكتاب في عدن، وانتقال مركزه وأمانته العامة إلى صنعاء، وضعف نشاط اتحاد الفنانين بسبب عدم اعتراف الوزارة به، وحدوث شللٍ كامل لكل الأجهزة الثقافية الرسمية من دور المسرح إلى المعارض الفنية إلى إغلاق دور السينما... إلخ.
ولنا وقفة، في مقال لاحق، عن هذه المنتديات الأهلية التي خرجت إلى النور بمبادرات فردية من نخب مجتمعية وأدبية وثقافية فاعلة، أرادت أن تردم الهوّة التي خلّفها نقل مركز الثقل الثقافي من عدن إلى صنعاء، وبدت فيه عدن بعد حرب 1994م الظالمة مدينة مهجورة ومهمشة ومسلوبة الفعل الإبداعي.
وبالرجوع إلى منتدى (بومهدي) أشير إلى أنني كنت زائرًا غير منتظم فيه؛ بسبب انشغالاتي الصحفية، كان الشاعر أحمد بومهدي ومعه قرينه الثقافي الشاعر الغنائي أحمد سيف ثابت، يواصلان في المنتدى طرح مشروع ما كانا يشتغلان عليه في وزارة الثقافة لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وهي توثيق التراث الشعبي.
ومهمة توثيق التراث الشعبي كان أحد مشاريع وزارة الثقافة الجنوبية، واشتغل فيها بومهدي، وأحمد سيف، والشاعر المؤرخ سالم الحجيري، والشاعر الغنائي علي عبدالله الغلابي، والملحن أحمد صالح بن غودل، وأحمد صالح عيسى، والشاعر الغنائي صالح نصيب، والأديب حسين سالم باصديق، وقبلهم جميعًا الفنان الكبير محمد مرشد ناجي، وكلفوا بزيارة المحافظات الست لتوثيق الموروث الشعبي الحضرمي واللحجي واليافعي والشبواني والأبيني والعدني وغيره.
وكانت مهمة التوثيق هدفًا استراتيجيًّا لوزارة الثقافية الجنوبية ومهمة وطنية وجماهيرية تبنتها الدولة آنذاك.
وقد تجلّى هذا الجهد الرسمي للدولة في زيارات رسمية قام بها هؤلاء الموثقون إلى محافظات الجنوب الست، وعملوا على تسجيل الأغاني والرقصات والإيقاعات في شرائط وفي وثائق مكتوبة ومصورة، ولا ندري اليوم أين ذهبت هذه التوثيقات التراثية المهمة، وما هو مصيرها؟ إلا ما تجلى منها في كتب أصدرها البعض من المشتغلين في وزارة الثقافة، ومنهم: بومهدي، وأحمد سيف ثابت، وسالم الحجيري، وغيرهم.
توثيق الموروث الشعبي، ومنه الغنائي، مجال آخر يحتاج إلى متابعة وبحث منفصل لا مجال لنا للخوض فيه الآن أو الاسترسال حوله في هذا المقال.
لقد كان بومهدي من خلال منتداه الذي أسسه في منزله بالمنصورة في عدن، أكثر ما يشغله هو مواصلة هذا المشروع (توثيق الموروث الشعبي)، ولطالما كان بومهدي في منتداه في خضم اللقاءات التي تجرى وتناقش فيه من الجمع الحاضر بحرقة الأديب أو الفنان الذي يبحث عن تراثه المحلي، غناءً وشعرًا وإبداعًا فلا يجده، ويشكو من الوضع المزري لواقع الثقافة والمثقفين والفن والفنانين في عدن، وإهمال السلطة الرسمية في صنعاء، بعمد تارة، ومن غير عمد تارة أخرى .
ولقد كانت ظاهرة الفيد والإهمال والإقصاء والتهميش التي طالت الحياة العامة في عدن والجنوب، قد طالت أيضًا الشأن الثقافي والإبداعي والفني والغنائي، وكما طالت المبدعين والمثقفين والفنانين كنتيجة من نتائج الحرب السيئة الصيت في 1994م، التي لم تستثنِ نتائجها المدمرة حتى هذا المجال الإبداعي.
صارت الحوارات والنقاشات والأحاديث العفوية والجدل المستمر تدور حول :
- إلى أين تؤول بنا الحال كمثقفين ومبدعين وفنانين...؟
ومن هنا ساد الالتقاء والاتفاق على تحويل مشروع توثيق الموروث الشعبي الفني والغنائي الذي كان هاجسًا يراود بومهدي وسيف ثابت وآخرين، إلى كيان ثقافي وفني .
وهكذا رأى النور هذا الكيان تحت مسمى (جمعية الموروث الشعبي) يوم 23 أغسطس 1996م، حيث اجتمع الجمع المؤسس من الحاضرين، وعلى رأسهم :
أحمد بو مهدي، وأحمد سيف ثابت، وفرحان علي حسن رئيس اتحاد الفنانين المعطل، والشخصية الرياضية الاجتماعية علي أحمد العلواني، والشاعر الراحل عبدالرحمن إبراهيم، والشاعر الغنائي علي حيمد، والفنان نجيب سعيد ثابت، وآخرون.
وتمخّض الاجتماع التأسيسي الأول عن هيئة إدارية مكونة من :
- أحمد سيف ثابت رئيسًا، وعلي العلواني أمينًا عامًّا، وعبدالرحمن إبراهيم مسؤولًا ثقافيًّا، وعلي حيمد مسؤولًا داخليًّا، ونجيب سعيد ثابت مسؤولًا فنيًّا، وأنور خان مسؤولًا للعلاقات.
وانتخب الشاعر المؤسس أحمد بو مهدي رئيسًا فخريًّا للجمعية.
كانت الجمعية تحت مسماها القديم مخلصة لعنوان وأهداف الجمعية، ألَا وهو توثيق الموروث الشعبي، وبالأخص في مجالي الفن والغناء الشعبي، ومحصورة نشاطاتها في منازل ومقايل ومنتديات محدودة وعلى رأسها (منتدى بومهدي).
عن تسمية الجمعية وتعديله
ثار جدل في البدايات عن تسمية الجمعية (جمعية الموروث الشعبي): موروث أم تراث شعبي؟ وكان هذا النقاش يتصدره مرتادو منتدى بومهدي من المثقفين والمبدعين الذين يهمهم التفريق بين المصطلحين.
وفي ظني أن هذه التسمية (الموروث) ناتجة عن التسمية التي كانت متداولة في زمن بومهدي وعهده بالتوثيق في وزارة الثقافة بعدن السبعينيات، حيث كان متداولًا كلمة (الموروث) باعتبارها تشير إلى كل ما هو شعبي وجماهيري ومتصل بالناس والمجتمع، بكافة تجلياته الشفاهية (الشعر الشعبي، الغناء الشعبي، الرقصات الشعبية، والأزياء والملبوسات والأدوات المنزلية... إلخ).
وكل هذه الاصطلاحات المرتبطة بكل ما هو شعبي ومرتبط بالجماهير كانت لغة سائدة في عهد دولة الاستقلال الجنوبي في السبعينيات من القرن الماضي، ورائد هذا الاتجاه يومها من كان يسمى: شاعر الجياع، الشاعر الشعبي علي مهدي الشنواح، الذي كان يرى في الشعر الفصيح وكل منتجات الثقافة العامة، نمطًا برجوازيًّا .
وهذه نظرة ثوروجية كانت سائدة في سبعينيات القرن الماضي، وظل صداها مسيطرًا على جيل بومهدي الذي اشتغل في وزارة الثقافة تحت هذا المسمى، وظل شاغلًا له حتى يوم تسمية اسم الجمعية.
ويبدو أنّ هاجس التفريق بين الفنون المكتوبة والمعاصرة باعتبارها تراثًا وبين الفنون الشفاهية والشعبية الجماهيرية باعتبارها موروثًا، هو ما جعل تسمية الجمعية تستخدم اسم الموروث الشعبي لا التراث الشعبي، من وجهة نظر الراحل بومهدي.
من ناحية أخرى، تجدر الإشارة إلى أنه قد طرأ على تسمية الجمعية تغيير جوهري، فبدلًا من اسم (جمعية الموروث الشعبي) عند التأسيس، تحول تسمية الجمعية منذ بداية الألفية الثالثة إلى تسمية (جمعية تنمية الموروث الشعبي) بإضافة كلمة تنمية.
وأصدق القول بأنني كنت وراء هذه التسمية الجديدة حين اقترحتها، وتم الموافقة عليها من قبل الزملاء في قيادة الجمعية، حيث رأيت أن من الواجب إضفاء الصفة المجتمعية (تنمية) على تسمية الجمعية باعتبارها ليست مشتغلة فقط في الجانب الثقافي والفني بصورة منفصلة عن الدور الاجتماعي، حيث رأيت أن للنشاط الثقافي والفني دورًا في رقي المجتمع وتطوره على المستوى الروحي.
فتنمية المجتمع روحيًّا جزء من تنميته المادية. والعكس صحيح.
وأنا سعيد بأن هذه التسمية الجديدة اعتُمدت لإضفاء مشروعية إبداعية وثقافية وفنية للجمعية مترافقة مع دور تنموي واجتماعي يجب أن يتجسد في أهدافها وطموحاتها وتطلعاتها.
مرحلة ما بعد التأسيس
كان المقر الرئيس لنشاط الجمعية في منتدى (بومهدي) وبعض النشاطات الأخرى كانت في منزل أحمد سيف ثابت.
استقطاب شامل لنخبة المثقفة
لقد جلب هذا الكيان الثقافي والفني المعلن عنه عددًا من الفنانين والأدباء والشعراء والإعلاميين، ومنهم:
الفنان المبدع عصام خليدي كمهتم بتاريخ الغناء، والشاعر عبدالله باكدادة كرئيس للأندية الثقافية، وكاتب المقال كرئيس للقسم الثقافي لصحيفة (14 أكتوبر) وملحقها الثقافي، وباعتباري المتواضع أديبًا وشاعرًا.
إلى جانب أدباء وفنانين آخرين أمثال الشاعر هاني جرادة، والإعلامي صلاح بن جوهر، وغيرهم ممن كانوا في مرحلة التأسيس؛ أمثال الشاعر الغنائي علي حيمد، والفنان نجيب سعيد ثابت، وآخرين.
ودخلت على الخط شخصيات سياسية، من أمثال: أحمد القعطبي عضو مجلس النواب حينها، ومحسن النقيب محافظ محافظة لحج، وشخصيات فنية أمثال: الفنان الكبير محمد مرشد ناجي، ومحمد محسن عروش، وعبدالكريم توفيق، ومحمد سعد عبدالله، وشخصيات اعتبارية ساهمت في رفد الجمعية بالنصح والمشورة لتطوير نشاط الجمعية.
وكان لهؤلاء الرواد والشخصيات العامة شأنًا في تغيير بوصلة الجمعية من العمل المغلق في المنتديات والمقايل المحصورة إلى إقامة نشاطات وفعاليات عامة وذات نوعية إبداعية.
بومهدي ورحلة شاقة مع المرض وانحسار الدور القيادي
أصيب المؤسس أحمد بومهدي عام 1998 -أي بعد عامين من تأسيس (جمعية الموروث الشعبي)- بمرض السكري المستفحل حتى أصابه بمرض الغرغرينا، وبُترت إحدى ساقيه، وأصبح قعيدًا في فراش المرض بمنزله .
لكنه استمر من فراش المرض يجمع أعضاء الجمعية وكل المبدعين والمهتمين، ويدير منتداه بكل ما أوتي من أريحية المبدع المتطلع بكل حب وإخلاص لاستكمال رسالته الثقافية النبيلة.
ولقد كان لي شرف الحضور إلى منتداه والجلوس بجانبه، متنحّيًا عن الجميع ليساررني بمخطوطات كتبه التي كتبها بخط يده الأنيق والجميل، ويعرضها عليّ بأمل النشر .
وبالرغم من أنني كنت قليل الحضور إلى منتداه بحكم عملي الصحفي، إلا أنني كنت أحاول اقتناص الفرص للحضور؛ وذلك لدواعٍ واهتمامات شخصية إبداعية أجد صداها في هذا المكان، ولدواعٍ عملية في أن أجد مادة ثقافية للنشر في صفحتي الثقافية وملحقي الثقافي الأسبوعي، وأن ألتقي ثلة المبدعين والنخب المجتمعية والإبداعية، وأتواصل معهم وأمحو سلبية الجلوس المكتبي في الصحيفة في انتظار مواد للنشر، بل الاستفادة من هذا الحضور في طرح أفكار ورؤى ثقافية كمادة للنقاش والحوار تصلح من بعد كمادة للنشر، إلى جانب تحفيز الكتّاب والمبدعين الحاضرين بالمشاركة بإبداعاتهم وكتاباتهم لنشرها على صدر الصحيفة (14 أكتوبر)، خصوصًا أن مكافآت النشر يومها قلَّت أو انعدمت؛ وبالتالي فإن هذا الوضع يتطلب الذهاب إلى الكتّاب والمبدعين لإغرائهم بالنشر دون مقابل.
إذن، حضوري إلى المنتدى له بعد ذاتي في المشاركة الإبداعية في الحوارات والنقاشات وطرح الأفكار والرؤى في مثل هذه المنتديات الأدبية، وبالمقابل هناك جانب عملي في اجتذاب النشر الثقافي في الصحيفة.
ومن هذا المكان الثقافي (منتدى بومهدي)، كان استقطابي واندماجي كعضو فاعل في نشاط الجمعية مع هذه النخبة المثقفة بصورة شبه منتظمة، حتى جاء الأجل لراعي ومؤسس الجمعية الأستاذ أحمد بومهدي في فبراير 2000م، فكان لي وزملائي في قيادة الجمعية عهدٌ جديد في نشاطات الجمعية كمًّا ونوعًا.
الجمعية بعد رحيل المؤسس بومهدي
بعد وفاة المؤسس أحمد بومهدي بأشهر، انعقد المؤتمر الثاني للجمعية في 13 نوفمبر 2000م، برئاسة الشاعر أحمد سيف ثابت.
ثم انعقد المؤتمر الثالث للجمعية في عام 2004م، وتمخّض المؤتمر عن قيادة جديدة شابة، لعل أبرزهم:
عبدالله باكدادة رئيسًا، ونجيب مقبل نائبًا للرئيس، وعلي حيمد أمينًا عامًّا، وعبدالرحمن إبراهيم مسؤولًا ثقافيًّا، وأعضاء آخرون في الهيئة الإدارية للجمعية.
ثم عقد الاجتماع الرابع في نوفمبر 2005، وخرج بقيادة جديدة مكونة من الأساتذة: علي حيمد رئيسًا، ونجيب مقبل أمينًا عامًّا.
وصار نشاط الجمعية بعد رحيل المؤسسين بومهدي وأحمد سيف ثابت، يتنوع ما بين النشاط الخاص إلى فعاليات خارجية في قاعات مخصصة .
ويمكن القول، وبدون مواربة وحيادية تامّة، إنّ تسنّم الثلاثي: عصام خليدي ونجيب مقبل وعلي حيمد، كلٌّ في مجال اختصاصه، لحركية النشاط الثقافي للجمعية ومبادرتهم بإقامة أنشطة نوعية وضمن حركية مدروسة وتوجهات إبداعية، وخلق أجواء حوارية وحلقات نقاش تعيد نشر وتجديد غناء وفنّ الرواد الأوائل- جعل من الجمعية منبرًا لنشاطٍ تنويري في الشعر والغناء والفن والأدب، وصارت محط أنظار المهتمين، ومحطة متابعة من أطراف عدة، منهم الفنانون الكبار، أمثال: المرشدي، ومحمد محسن عطروش، وعبدالكريم توفيق، وفيصل علوي وغيرهم، ومن شخصيات اعتبارية وسياسية، أمثال: الأستاذ أحمد القعطبي عضو مجلس النواب حينها، ومحسن النقيب محافظ محافظة لحج، وشخصيات وازنة أخرى وقفت إلى جانب هذا الثلاثي، تدعمه وتؤازره وتمدّ له يد التوجيه والتسهيلات.
ويمكنني القول بلا تحيز، إن الأستاذ أحمد القعطبي كان أشد المعجبين والمؤازرين من الناحية العملية، فيما كان المرشدي البوصلة الفنية التي كنا نهتدي بها .
كان المرشدي والقعطبي الأبوين الروحيين، اللذين بهما ومن خلالهما نستنير بآرائهما ونمتلئ فخرًا بكلمات الإطراء والثناء، من دون أن يتدخلا، شكلًا أو مضمونًا، في هذه الحركية التي كنا نرسي بناءها بأفكار جريئة وخطط بناءة وعمل منهجي، ورائدنا عزيمتُنا التي لا تكل.
وهذا لا يعني أنّ العمل لا يشترك في صناعته الآخرون من قيادة وأعضاء الجمعية، فهم في الغالب مشاركون بفعالية وحاضرون لإنجاح النشاطات ومتممون لتنظيم وتنسيق الفعاليات .
وكان هذا تكاملًا فريدًا، ومثلث نجاح ضلعه الأول الراعيان الروحيان (المرشد والقعطبي)، وضلعه الآخر أعضاء الجمعية والمهتمون المشاركون والمتمّمون للنجاح، بينما كان قاعدة هذا النجاح هم المخططين للأنشطة والمديرين للنقاشات والحوارات: نجيب مقبل، وعلي حيمد، وعصام خليدي.
فعاليات ثقافية وفنية عوّضت الغياب المستقر
يمكن سرد بعض أو أهمّ الفعاليات الثقافية التي قامت بها الجمعية، كما يلي:
- فعاليات ثقافية وإبداعية حول دور الفنان الكبير محمد مرشد ناجي في الساحة الغنائية وتوثيق الغناء المحلي.
- فعالية تكريمية واحتفائية ثقافية للفنان الكبير محمد سعد عبدالله، حضرها عدد من الفنانين الكبار، وعلى رأسهم الفنان الكبير محمد مرشد ناجي، وشخصيات سياسية واجتماعية مرموقة، وعدد غفير من الجمهور، وجرى فيها تقديم عدد من المداخلات حول سيرته الفنية، وتقديم بعض من أغانيه بأصوات الفنانين عصام خليدي وعبود خواجة (2004).
- فعالية تكريمية لآخر عقود كبار ملحني وفناني لحج الفنان والملحن: سعودي أحمد صالح، في حوطة لحج.
- فعالية احتفائية وثقافية متنوعة لسيرة الفنان المخضرم: أحمد سالم بن شامخ الغنائية في محطاته الثلاث؛ عدن وأبين وحضرموت.
- فعالية ثقافية وندوة إبداعية حول الموسيقار اللحجي: محمد سعد الصنعاني، ودوره الريادي في الحركة الفنية والغنائية في لحج وعموم الوطن.
-فعالية أدبية حول ذكرى الشاعر الراحل: لطفي أمان، ودوره في الحركة الغنائية في عدن والوطن.
- لقاء ثقافي وفني مع الشاعر الكبير: أحمد الجابري، وسيرته الشعرية والأدبية.
- لقاء ثقافي وفني مع الشاعر الغنائي المخضرم: مصطفى الخضر، وسيرته الثنائية مع الفنان الكبير محمد عبده زيدي.
- لقاء ثقافي وفني مع الفنان الكبير: فيصل علوي.
- ندوة حول الشاعر: عبدالرحمن السقاف .
- ندوة حول الفنان والقاضي الراحل: شريف ناجي.
- فعالية أدبية مع الشاعر الغنائي: علي حيمد حول ديوانه (أحلى ابتسامة).
- فعالية مع الشاعر الغنائي: حسن عبدالحق.
- مشاركات في برامج أدبية وغنائية وسهرات فنية في قناة عدن، مع الفنانين الكبار: فيصل علوي، ومحمد سعد عبدالله، مثالًا.
- التحضير لفعالية فنية حول الفنان والمربي: حسن عطا.
- لقاء فني وإبداعي مع الفنان البلبل: عبدالكريم توفيق.
- فعالية فنية وشعرية مع الشاعر الغنائي: حسن عبدالحق.
- لقاءات إبداعية وفنية وتحليلية وجلسات غنائية يقودها الفنان: عصام خليدي، حول رواد الفن المعاصر، أمثال المرشد وأحمد قاسم ومحمد صالح عزاني وأبو بكر سالم بلفقيه، وغيرهم، ومناقشة تحليل موسيقي لأهم أغنياتهم، وشرح وغناء لقطوف من الفن العربي الأصيل ورواده الأوائل .
- حفل استقبال للفنان الكبير: عبدالرب إدريس، أثناء زيارته لمدينة عدن.
- مشاركات فنية وتحليلية ونقاشات فنية مع الفنان: نجيب سعيد ثابت .
- حوارات ونقاشات حول علاقة الفن والغناء بالحركة الثقافية العامة، يقدمها الأديب والشاعر: نجيب مقبل.
- مداخلات فنية وغنائية في الشعر الغنائي، قدمها الشاعر الغنائي: علي حيمد.
- زيارات ميدانية لشعراء وفنانين ومبدعين، منهم الفنان الكبير محمد مرشد ناجي، والشاعر الغنائي علي أمان، والفنانة أمل كعدل، وغيرهم.
وعدد لا يحصى من الفعاليات الفنية والإبداعية، استهدفت رواد الغناء الحديث وإسهاماتهم ودورهم في خلق ذائقة إبداعية وفنية، أثرت في الأجيال الفنية اللاحقة والذائقة العامة، وما زال إبداعهم حاضرًا في وجداننا، وشكّلت بعدًا ثقافيًّا وجماليًّا ووجدانيًّا في ذاكرتنا الإبداعية.
الفعل المشين
إنّ مختلف النشاطات الفنية والغنائية والأدبية والشعرية هذه، أرادت أن تصنع جسرًا بين جيل الآباء والجيل الجديد الذي كان يعيش لأسباب سياسية قهرية ومعطيات في الواقع جنوبًا بعد (الوحدة) تسببت في قطيعة قسرية فصلته عن معرفة مسيرة الفن والغناء المحلي، واجتاحته موجة الغناء الخليجي والعربي على حساب الفن والغناء الوطني، فصار في حالة أميّة إبداعية وفنية لا يزال واقعها المؤلم إلى يومنا هذا.
ظاهرة نسب الغناء التراثي والمعاصر الخاص بفنانينا إلى فنانين سعوديين وخليجين، زاد من مستوى القهر الإبداعي وأنت ترى أغاني بلادك ينتحلها فنانون من الخارج، تارة باسم الفنان الخليجي وتارة تحت يافطة من التراث القديم
لماذا الاحتفاء بعمالقة الفن في فعاليات الجمعية؟
أخذت الندوات حول عمالقة الفن والغناء المساحةَ الأكبر من فعاليات الجمعية، وتوجّه تفكيرنا بعيدًا عن جوهر تأسيس الجمعية باعتبارها مختصة بالموروث الشعبي في العموم.
وعندما أسأل نفسي اليوم: لماذا هذا الإكثار من الندوات التي كرسناها حول رواد الغناء والفن الحديثين ومنهم المعاصرون؟
لا أجد جوابًا سوى أن دواخلنا كانت نارًا تلتهب حسرة لضياع وطمس روائع رواد الغناء في عدن!
في غمرة انشغالنا أثناء التحضير أو تنفيذ الكثير منها، كان شغلنا الأساس وهاجسنا يقول: إن التراث الغنائي الحاضر يندثر، وقلة من الشباب من يعرف فنانًا باسم المرشدي أو أحمد قاسم أو العزاني أو الزيدي!
وفي تحليلي اليوم لهذا الانشغال المكثف وغير المسبوق لتوجهنا جميعًا في قيادة الجمعية بإقامة ندوات متخصصة لتلك القامات الفنية الرائدة، كان مبعثها الآتي من الأسباب :
داخليًّا..
كان هناك فعل مشين للقيادات الإعلامية في صنعاء بحجب أو بث الأغاني المسجلة في إذاعة وتلفزيون عدن. بل إن هناك سرقات محمومة قامت بها هذه القيادات التي ترأست هاتين الوسيلتين الإعلاميين المهمتين (إذاعة وتلفزيون عدن) اللتين كانت مكتباتهما الإذاعية والتلفزيونية ذات تاريخ عريق وفن أصيل يمتد من الخمسينيات حتى ما قبل مايو 1990.
هذا الإغلاق والطمس وسرقة المكتبة الفنية جاء ضمن هاجس الفيد الذي استولى على كل من جاء من الشمال ليتولى منصبًا في الجنوب.
ولم تسلم الإذاعة والتلفزيون العدني من هذا التيار العاصف الذي أهلّ التراب على أغنى مكتبة فنية في الجزيرة العربية.
ربما هؤلاء الذين تولوا قيادة إذاعة وتلفزيون عدن بعد حرب 1994م، كانوا يستلمون تعليمات سياسية صارمة بعدم بث أي منتج إذاعي أو تلفزيوني إلا ما ينتج في زمن ما بعد الوحدة ونتائج حربها، مع استثناء ما صور أو أذيع في قناة صنعاء لهؤلاء الفنانين الكبار من عدن وحضرموت.
لذلك كانت المكتبة الإذاعية والتلفزيونية في عدن نهبًا لمن هب ودب؛ بعضها بيع للخليج، وبعضها حفظ وسرب لمشروع إنشاء قناة يمنية خاصة تولاها من كان يتولى قيادة إذاعة وتلفزيون عدن.
ويمكن سؤال هذه القناة من أين لكم هذه الأعمال النادرة التي كانت تبث من إذاعة وتلفزيون عدن؟
لقد سرى على هذا الفن الأصيل والتاريخي للمرشد وأحمد قاسم ومحمد سعد عبدالله والعزاني والزيدي والعطروش، مثلما سرى في عقلية الضابط العسكري الذي تولى مسؤولية الإذاعة المصرية بعد ثورة يوليو 1952م، حين منع بث أغاني أم كلثوم باعتبارها من العهد البائد، فجاءه رد الزعيم عبدالناصر :
- "إذن، عليك بهدم الأهرامات لأنها من العهد البائد!".
لقد تصور قادة إعلام سلطة 7/7 هذا الشعور التصفوي بمنع نشر أو بث أي تسجيل من إذاعة وتلفزيون عدن، باعتباره من ماضي الاستعمار الأجنبي أو الحزب (الشيوعي)، أو لأنها مرتبطة بالانفصاليين الشيوعيين الذين هزمناهم في حرب 1990م!
وبذلك الفعل الإقصائي المشين، حُرم المستمع والمشاهد في عدن والجنوب من التواصل مع جيل العمالقة الكبار، بل تربّى جيل كامل على الاستماع ومشاهدة كل ما يأتي من الخارج، وبالخصوص من الخليج ومصر.
هكذا عملت سلطة 7/7 الإعلامية على طمس كل ما يأتي جنوبًا، ولو كان فنًّا غنائيًّا أصيلًا، لا صلة له بالحرب والانفصال.
ولكنه كان عملًا ممنهجًا يستهدف ضياع الجيل الجديد في عدن، والجنوب عمومًا، لتكريس ثقافة شمالية بحتة، وتصوير أنْ لا ثقافة أو فن في عدن والجنوب.
وهذه كارثة أخلاقية ارتكبتها وزارة إعلام سلطة الحرب، حرمت الناس جميعًا، شمالًا وجنوبًا، من تراث فني عظيم، وقادت إلى أميّة فنية وغنائية وثقافية في أوساط الشباب والجيل الجديد!
خارجيًّا..
بقدر ما كانت المأساة داخلية، كما أوضحنا سلفًا، فإن ظاهرة نسب الغناء التراثي والمعاصر الخاص بفنانينا إلى فنانين سعوديين وخليجيين، زاد من مستوى القهر الإبداعي وأنت ترى أغاني بلادك ينتحلها فنانون من الخارج، تارة باسم الفنان الخليجي وتارة تحت يافطة من التراث القديم.
وهذا ما زاد الأمية الفنية والغنائية لدى الجيل الصاعد وانغماسه في الاستماع للغناء المصري أو الخليجي حتى يومنا هذا.
وبهذين السببين، الداخلي والخارجي، قطعت أوتار الغناء العظيم الذي كانت إذاعة وتلفزيون عدن صوتها الصادح، وحذفت من الوجود الذائقة الفنية المتواصلة من خمسينيات القرن الماضي، لتتوقف عند أعتاب حطام وأطلال حرب 1994 وسلطتها السياسية والإعلامية والثقافية القاهرة.
ويبدو لي أنه من هنا جاء تفكيرنا بعَقد هذه الندوات عن عمالقة الفن الغنائي وترديد أغانيهم الجميلة في المنتديات والمقايل والجلسات الخاصة والعامة، كاستعادة وتذكير للجيل الجديد الذي حُرِم عنوة من ذائقة التواصل مع فنانين عظماء توقفوا قسرًا عن الغناء أو ماتوا قهرًا كالفنانين محمد سعد والزيدي، فتوقف نبض الغناء وشلت الحياة الفنية إلا من بقايا مشوّهة أو تكريس مغتصب لفن لا ينتمي إليهم، فذهبوا إلى الخارج يستمعون إلى أغاني الآخرين وكأنها ملكهم وهي ليست إلا من خارج لبوسهم الغنائية والثقافية، ولا يشعرون أنهم في حالة اغتراب ثقافي يوازي اغترابهم من أجل لقمة العيش.
ولذا لن نقول على فنّ العظماء أمثال: المرشد، وأحمد قاسم، والزيدي، والعزاني، والعطروش، وإسكندر ثابت، وبامدهف، وخليل محمد خليل، وغيرهم نقول: السلام!
كما في وداع جنائزي !
وإنما سنواصل المقاومة الناعمة لإيصال صوت الفن والغناء الأصيل إلى كل الأرجاء.
ربما كان هذا في "لا وعينا" النابه أن تكون هذه الفعاليات التكريمية لرواد الغناء الكبار، هي مقاومة ناعمة وهادئة لسلطة طمس الهُوية الثقافية والدمج القسري .
وتكون إعلاء من شأن الذات والهُوية الثقافية والغنائية المغدور بها محليًّا وخارجيًّا، فصارت إرثًا وموروثًا يتقاذفه المتلاعبون ويطمسه الجلادون ويعبث به الناهبون في الداخل والخارج.
خاتمة
توقف نشاط الجمعية بعد أكثر من عقد كامل من الزمن، استطاعت فيه أن تؤسس لتواصل فني وغنائي بين الأجيال، وأن تحافظ على مكانة الرواد الأوائل للفن والغناء الأصيل.
كل هذا حصل والجمعية افتقرت طوال عهدها إلى مقر يأوي نشاطاتها، أو دعم مالي ينفذ فعالياتها.
لقد كانت العزائم أقوى من سلطة القهر والسلب والتهميش الإبداعي!