أبطال إنقاذ حضروا حين غاب الدفاع المدني

قصص لتخليد الحياة على وقع كوارث السيول
أحمد الكمالي
September 4, 2024

أبطال إنقاذ حضروا حين غاب الدفاع المدني

قصص لتخليد الحياة على وقع كوارث السيول
أحمد الكمالي
September 4, 2024
.

لم يكن الشابان أيهم الأرحبي ورفيقه وديع قناف (16 و18 عامًا على التوالي)، قد تلقيا تدريبًا على التعامل مع كوارث السيول من قبل، لكنهما لم يترددا لحظة واحدة عن المغامرة بحياتهما في سبيل إنقاذ طفلين كانت السيول التي شهدتها منطقتهم "الذهوب" الواقعة في مديرية الظهار بمدينة إب، بعد ظهيرة الخميس الماضي الموافق 15 من شهر أغسطس الجاري، قاب قوسين من جرفهما معها بلا رجعة، لولا تدخل الشابين وانتشالهما من الخطر.

نجحت عملية الإنقاذ البطولية، لكن القصة لم تنتهِ هنا، بل بدأ فصلها الأكثر تراجيديةً وتأثيرًا، فعقب نجاح الشابين بانتشال الطفلين وإبعادهما عن الخطر، فشلا –للأسف- في مقاومة السيول الجارفة والخروج منها بسلام، ليُعثر على جثة الشاب أيهم الأرحبي بعد ساعات من الحادثة، في سائلة وادي زبيد التابع لمحافظة الحديدة، أما رفات رفيقه وديع قناف، فما زالت مفقودة حتى اليوم الرابع من وقوع الحادثة، بحسب شقيقه رداد، في حديثه لمنصة "خيوط".

تصدر مواطنون عملية الإنقاذ في حوادث السيول وفيضانات الأمطار الأخيرة التي شهدتها عدة محافظات يمنية، وأودت بحياة العشرات، ففي محافظة تهامة على سبيل المثال، دفع الشاب (عبده المسعودي) حياته في سبيل إنقاذ طفلين من الغرق في أحد أودية منطقة الحيمة بمديرية الخوخة.

تؤكد مصلحة الدفاع المدني أن احتياجاتها كثيرة، وفي مقدمتها زيادة عدد القوة العاملة للمصلحة، وتزويدها بالمزيد من معدات الإنقاذ بكافة أنواعها من سيارات وونشات وشيولات وسُتر خاصة، وتوفير غواصات للمياه خاصة بإنقاذ حوادث الغرق، وتوفير ثلاث طائرات لحالات الطوارئ، وجميع تلك الاحتياجات تتطلب تمويلًا كبيرًا.

الأمر نفسه حدث في مديريات الحديدة الأخرى، ومحافظات حجة وتعز ومأرب، ووصاب في ذمار، مع اختلاف القصص والضحايا والأبطال، ويتكرر سنويًّا عند وقوع كوارث السيول والفيضانات والحوادث بمختلف أنواعها في كافة محافظات الجمهورية اليمنية. 

والظاهرة بما تحمله شهادة على شجاعة المواطنين وسلامة تصرفهم في اللحظات الحرجة، إلا أنها تكشف في الوقت ذاته، نقصًا كبيرًا في وعي المبادرين بواجب الإنقاذ، بالتصرفات السليمة للتعامل مع المخاطر التي تواجههم، ممّا يؤدّي أحيانًا إلى تحولهم إلى ضحايا لتلك الكوارث، علاوة على كون المبادرات الفردية لا تفي بالتعامل مع الكوارث الكبيرة، كتلك التي شهدتها مديرية ملحان في محافظة المحويت، وأودت بحياة وفقدان 42 شخصًا، معظمهم ما زالوا في عداد المفقودين بعد مرور خمسة أيام من الحادثة، وفشل فرق الإنقاذ في الوصول إلى عزلة همدان، التي تعد المنطقة الأكثر تضررًا.

البطل وديع قناف- إب

إنقاذ وشهادة

ويوضح رداد، الذي تواصلت معه "خيوط" أثناء بحثه عن رفات شقيقه في مجرى سائلة منطقة "القفر"، بالقول: "لليوم الثالث على التوالي وأنا مع فريق الهلال الأحمر اليمني، نبحث عن جثة شقيقي قناف، لكن دون جدوى، فالسيول كانت كبيرة ومجراها يتجه من منطقتنا المشنة بالظهار إلى وادي جنات ثم وادي مفرق حبيش، وناحية القفر، وحتى مديرية زبيد والجراحي في الحديدة، وهذه مناطق واسعة، تحتاج لأكثر من فريق بحث".

ويطالب شقيق الشاب قناف السلطات المعنية ببذل جهود مضاعفة، وإرسال أكثر من فريق بحث، موضحًا: "وذلك للعثور على جثة أخي، حتى ندفنها تكريمًا له، ويرتاح بالنا لذلك". بالنسبة لأسرة الشابين اللذين تربطهما قرابة، ورغم مشاعر الحزن والأسى الكبيرة على فقدانهما، فإنها تجد في تصرفهما النبيل والأخلاقي عزاءً كافيًا يخفف من حسرة الخسارة والفقد، ويبعث على الرضا والافتخار والاعتزاز، بحسب سليم الأرحبي، والد الشاب (أيهم)، وعم الشاب (وديع).

 يقول الأرحبي: "ما قام به سليم ووديع، هو واجبهما الذي سيقوم به أي شخص يحمل مشاعر الإيمان بالله، والشعور بالإنسانية ويمتاز بأخلاق الشهامة والجود، فعلى الرغم من عدم معرفتهما المسبقة بهوية الطفلين، بادرا بإقدام لتلبية نداء الاستغاثة".

البطل أيهم سليم- إب

أماكن خطرة

في اليوم ذاته لوقوع حادثة الإنقاذ والتضحية للشابين أيهم وديع، شهدت محافظة إب (وسط اليمن) حادثتَي إنقاذ مشابهة، إحداهما عملية إنقاذ أسرة كاملة من الغرق في سائلة مدينة جبلة، كان أبطالها شابين من أسرة واحدة، هما: الشاب عبدالمجيد الفخري، وقريبه باسم محمد، بمشاركة بعض أفراد الحي.

الحادثة التي وُثقت مشاهدها التي تحبس الأنفاس بعدسة المواطنين، راج تفاعلها عبر منصات التواصل الاجتماعي، وتحولت صورة الشاب عبدالمجيد الفخري، وهو يتسلق جدران المنزل صعودًا ونزولًا لإخراج الأطفال والنساء، إلى أيقونة ورمز معبر عن الشجاعة والتضحية.

ويروي الشاب عبدالمجيد الفخري، في حديثه لـ"خيوط"، اللحظات الأولى لوقوع الحادثة وكيف جرت عملية الإنقاذ بالقول: "بدأت السيول تتدفق وتدخل إلى المنزل، فقمت بإخراج زوجتي وأطفالي الثلاثة قبل اشتدادها، وعدت إلى منزل قريبي الذي يسكن بجواري تمامًا، لكن ما هي إلا لحظات حتى كانت السيول قد اشتدت أكثر، وبدأ السيل يدفع باب المنزل، والمياه تغطي أجسادنا، وأصوات الأطفال والنساء تعلو بالصياح، عندها كان من غير الممكن الخروج من الباب، فقمت بكسر نافذة والتسلق منها، وطلب المساعدة من الناس".

ويتابع: "لحسن الحظ، هب بعض الجيران وقدّموا لنا حبالًا، فقمت بربط نفسي والتسلق والعودة لإنقاذ عائلتنا، حينها كان قريبي باسم يقوم بربط الأطفال والنساء داخل المنزل، وأنا بدوري أتسلق وأصعد بهم إلى الأعلى، والمنقذون من الجيران يقومون بسحبهم، حتى تمكنّا من إخراج كامل الأسرة (13 فردًا) سالمين، دون تسجيل أي ضحايا أو إصابات". 

وحول سؤال "خيوط" عن سبب اضطرارهم إلى السكن في مكان خطر، يجيب الفخري: "بالنسبة لي ولأسرتي، لم يمر على مكوثي بهذا المنزل غير شهرين بعد انتقالنا من صنعاء إلى جبلة، ولم أكن أدرك طبيعة الأخطار بهذا الشكل، وأنه قد سبق أن مُنع مالك المنزل من تأجيره بسبب بنائه في مجرى السائلة، لكن كما تعرفون تكلفة إيجار المنزل (12 ألف ريال)، بدت لي ولأقربائي ممكنة السداد مقارنة بتكلفة منزل في منطقة آمنة".

رمز للبطولة

لم يكن يتوقع الشاب عبدالمجيد الفخري، الذي يتخذ من العمل بجمع مخلفات البلاستيك، مصدرًا أساسيًّا للعيش على زهد العائد الذي يجنيه ومشقة العمل، أن تتحول شخصيته إلى رمزٍ للبطولة الفعلية والمستحقة، ويحظى بالتكريم الرسمي من السلطات والمجتمع. ولم يكن يخطط لذلك، لكنه يوجّه عبر "خيوط"، تحيته لكل المشيدين والمتفاعلين بقصته، ويؤكّد استعداده للعمل كرجل دفاع مدني إذا ما أتيحت له الفرصة لذلك.

بالنسبة للحادثة الثالثة التي شهدتها محافظة إب، فقد كان بطلها سائق شاحنة يدعى (نجم الدين العامري)، حيث تنبه بفطنة لجرف السيول باصًا صغيرًا (دبّاب)، فبادر مسرعًا إلى قيادة شاحنته ووضعها كحاجز أمام الباص، فتوقف الأخير عن الحركة، وجنب مالكه الذي لم يكن حاضرًا لحظة الحادثة خسارةَ مصدر دخله الأساسي والوحيد، بحسب تعبير مالك الباص، محمد الثالث، في حديثه لـ"خيوط".

بالمقابل، يؤكّد حمدي المذاب، شخصية اجتماعية في المحويت، في حديثه لـ"خيوط": "قمنا نحن المواطنين بالمبادرة للبحث عن الضحايا وانتشالهم، لكن الكارثة تفوق قدراتنا، وتستلزم وصول فرق مدربة ومجهزة بمعدات للتعامل مع ركام المنازل والبحث في الشعاب والأودية عن الضحايا".

السيول التي ضربت ملحان، دمرت 40 منزلًا بالكامل، وألحقت أضرارًا بنحو 230 منزلًا، وتضررت بسببها مئات العوائل؛ بحسب مكتب صندوق الأمم المتحدة للسكان، وغالبية تلك الأسر المتضررة التي تسكن في عزلة همدان، المعزولة عن محيطها؛ بسبب تقطع الطرقات إليها، تحتاج لتقديم مساعدات إنسانية وإغاثية عاجلة؛ بحسب المذاب.

البطل عبدالمجيد الفخري- إب

قانون وقصور

في القانون اليمني، ينص القانون رقم (24) لسنة (1997)، على أن مسؤولية مواجهة الكوارث الطبيعية والعامة، ووقاية المجتمع منها، وتأمين وسائل السلامة والاتصال في وقت السلم والحرب، تقع على عاتق الدفاع المدني الذي يتكون من مجلس أعلى يضم عضوية وزارة الداخلية ومصلحة الدفاع المدني وفروعها، ويخول له في الظروف الاستثنائية والكوارث والطوارئ استخدام الموارد العامة والخاصة، اللازمة لقيامه بواجبه.

وحول سؤال "خيوط"، لمدير العلاقات العامة لمصلحة الدفاع المدني التابعة لوزارة الداخلية في صنعاء، العقيد خالد الشراحي، حول أسباب القصور التي تحول دون حضور رجال الدفاع المدني كما ينبغي في أماكن الحوادث بالوقت المناسب، يوضح العقيد الشراحي، أن "مصلحة الدفاع المدني بكل رجالها ومعداتها تعمل بكل طاقتها لمواجهة تداعيات كارثة السيول التي تشهدها بلادنا هذه الفترة، لكن المشكلة تكمن في النقص الكبير بطاقم المصلحة الذين لا يزيدون عن 500 شخص بمختلف جوانب عملهم، وذلك يقصر نطاق عملنا الرئيسي على المناطق الحضرية دون الأرياف إلا عند الاستدعاء والبلاغات، إضافة إلى النقص في الآليات والمعدات".

تصاعد حدوث الكوارث الطبيعية التي تضرب اليمن خلال السنوات الأخيرة، يضع البلاد أمام تحديات كبيرة لمواجهة تلك الكوارث والتكيف معها، وفي مقدمتها تلك المتصلة بجهود الإنقاذ والإغاثة، إذ تتطلب وضع استراتيجية وطنية شاملة للتعامل في حالات الطوارئ، تتضمن نشر الوعي بقضايا البيئة وتضمينها في التعليم المدرسي، لتدريب أكبر قدر ممكن من الناس على التصرف في لحظات الخطر. 

ويُرجع الشراحي العوامل والأسباب التي تعيق عمل مصلحة الدفاع المدني إلى التهميش الكبير الذي تعرضت له المصلحة ودورها، من الحكومات الماضية طيلة الفترة السابقة، مشيرًا إلى أن "المصلحة حتى عام 2018، لم تكن تمتلك حتى سيارات إنقاذ، وقد قمنا بتوفير 16 سيارة حاليًّا، لكن ما زالت الاحتياجات كثيرة، وفي مقدمتها زيادة عدد القوة العاملة للمصلحة، وتزويدها بالمزيد من معدات الإنقاذ بكافة أنواعها من سيارات وونشات وشيولات وسُتر خاصة، وحتى توفير غواصات للمياه خاصة بإنقاذ حوادث الغرق، وتوفير ثلاث طائرات لحالات الطوارئ، وجميع تلك الاحتياجات تتطلب تمويلًا كبيرًا".

وحول احتساب المنقذين الذين قدّموا حياتهم أثناء مبادرتهم بعمليات الإنقاذ شهداء واجب، وضم الشباب الذين أثبتوا جدارتهم في الميدان إلى طواقم العمل، يؤكّد مدير علاقات مصلحة الدفاع المدني، أن القانون ضمن للشهداء المنقذين وأسرهم حقهم في ذلك، مضيفًا: "نحن نبحث فعليًّا في استقطاب الشباب لتأهيلهم وضمّهم للعمل إلى طواقم الدفاع المدني خلال الفترة القادمة، وكذلك تأهيل غيرهم من المتطوعين، كما أهلنا 120 متدربًا في الأمانة مؤخرًا، ونطمح بتعميم التجربة في محافظات يمنية عدة".

تحديات كبيرة

في السياق، يرى الناشط المناصر لقضايا البيئة، والمدير الإداري للمنتدى الوطني للبيئة والتنمية المستدامة -منظمة أهلية عاملة في مجال البيئة- غمدان الأغبري، لـ"خيوط"، أن "تصاعد حدوث الكوارث الطبيعية التي تضرب اليمن خلال السنوات الأخيرة، يضع البلاد أمام تحديات كبيرة لمواجهة تلك الكوارث والتكيف معها، وفي مقدمتها تلك المتصلة بجهود الإنقاذ والإغاثة، التي تتطلب وضع استراتيجية وطنية شاملة للتعامل في حالات الطوارئ، تتضمن نشر الوعي بقضايا البيئة وتضمينها في التعليم المدرسي، لتدريب أكبر قدر ممكن من الناس على التصرف في لحظات الخطر، ولا تنتهي بدعم الأجهزة المعنية بالاحتياجات والتمويل اللازم لتمكينها من عملها لحظة الطوارئ".

ويلفت الأغبري إلى أنّ مواجهة الكوارث الطبيعية والتكيف معها، يجب أن تكون جهودًا مشتركة من الدولة والمجتمع، ولا يمكن تحقيق ذلك بالشكل الذي ينبغي إلّا بعد تجاوز مرحلة الحرب التي يمر بها البلد منذ قرابة عقد.

•••
أحمد الكمالي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English