موجة من التغيير تجتاح العالم على مختلف المستويات معلنة أنّ السنوات القادمة ليست كسابقاتها، والحديث هنا لا يقتصر على إمكانيات تشكيل نظام دولي جديد نتيجة التغير في موازين القوى على المستوى الدولي، ولكنه تغيير يشمل المبادئ والبنى السياسية والاقتصادية والتحديات والوسائل، وليس الشرق الأوسط إلا جزءًا من هذا العالم ولعله الجزء الأكثر تأثرًا بموجات التغيير العالمية؛ كونه يتمتع باستقلالية أقل ولهشاشة بنيتيه الاقتصادية والسياسية، ما يجعل دراسة التغييرات التي من شأنها الحدوث فيه، ضرورةً ملحة تمكِّن من فهم المسارات وأفق التغيير الممكنة والملامح الأولى لمستقبل المنطقة، في ظل التغيير الجاري على المستوى الدولي ككل، ويمكن إجمال أهم ملامح التغيير الذي تشهدها المنطقة بمجموعة من المحاور، على النحو التالي:
أولًا: سياسة الانفتاح وتصفير المشاكل
من المعروف أنّ العلاقات الدولية كغيرها من العلاقات الإنسانية، تتصف بالديناميكية والتغيير كما أنه ما من شيء ثابت في السياسة، وإذا اتفقنا بشأن هذه القواعد فلن يكون من الصعب فهم التغير الذي تشهده العلاقات بين دول المنطقة، وهي تغيرات بعضها تقودها المصلحة، والبعض الآخر تفرضها التوازنات والمتغيرات على المستوى الدولي.
ولعل العنوان الأقرب لوصف المرحلة القادمة هو مرحلة التعامل مع الخصوم وكسر القواعد تتجسد أبرز ملامحها في عهد جديد من العلاقات التركية-العربية والتركية-الإسرائيلية من جهة أولى، وتحسن العلاقات بين السعودية والدول العربية الأخرى والمساعي الرامية لتحقيق المصالحة السعودية الإيرانية من جهة ثانية، والدفء الذي تشهده علاقات كلٍّ من قطر بمصر والدول العربية الأخرى عقب سنوات من الجفاء، مع احتفاظها في الوقت نفسه بعلاقات قوية مع كلٍّ من تركيا وإيران من جهة ثالثة فـ"في الثاني والعشرين من شهر يونيو/ حزيران الماضي، وصل ولي العهد السعودي الحاكم الفعلي محمد بن سلمان تركيا في زيارة رسمية استمرت لعدة ساعات(1). وأتت هذه الزيارة عقب زيارة الرئيس التركي للمملكة العربية السعودية في أواخر أبريل/ نيسان، استمرت لمدة يومين.
وقد أنهت هذه الزيارات حالة التوتر التي شهدتها العلاقات بين البلدين على مدى أعوام تسببت بها العديد من الأحداث والمواقف، لعل أهمها موقف تركيا من حركة الإخوان المسلمين، ووقوفها في صف قطر في الأزمة الخليجية، وزاد من حدة ذلك التوتر مقتل الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بتركيا، والذي اتهمت فيه تركيا أعلى مستوى للسلطة في المملكة العربية السعودية، وهو ما دفع بالسعودية إلى مقاطعة المنتجات التركية وإغلاق المدارس التركية في المملكة، وحظر النشاط السياحي بين الدولتين، وغير ذلك من الإجراءات التي عكست حدة التوتر بين الدولتين، وقد سبق هذه الزيارات "زيارة ولي عهد الإمارات محمد بن زايد آل نهيان لتركيا في نوفمبر 2021م، وكذا زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للإمارات في الرابع والعشرون من فبراير من العام الجاري"، زيارتان أعلن من خلالهما مرحلة جديدة من العلاقات بين الدولتين أنهت أعوامًا من الخلاف والتوتر تسبّبت بها حالة التنافس والتنازع في كلٍّ من ليبيا وسوريا إبان الحرب الأهلية التي تلت ما عرف بثورات الربيع العربي والخلاف بشأن الإخوان المسلمين وقطر وغيرها من القضايا.
وعلى الضفة الأخرى، تجري مفاوضات في بغداد تهدف لتقريب وجهات النظر بين كلٍّ من السعودية وإيران الدولتين الأكثر خلافًا واختلافًا في المنطقة، وفي الوقت نفسه تشهد علاقات كلٍّ من السعودية ومصر والبحرين بقطر مرحلة جديدة عقب سنوات من المقاطعة وتبادل الاتهامات بعد تحقيق المصالحة الخليجية فيما عرف بقمة العلا.
في ظل كل هذه الإرهاصات والتغيرات التي تشهدها المنطقة تبقى اليمن الدولة الأكثر تأثرًا، فقد تسببت الحرب التي تشهدها منذ ما يزيد على سبع سنوات في تدهور الأوضاع على مختلف المستويات وإشعال فتيل حرب أهلية دامية لم يعد بالإمكان إيقافها.
في الفترة نفسها، يتسلم السلطة في اليمن مجلسٌ رئاسي مكون من 8 أعضاء، مثّلت الأطراف ذات الثقل السياسي والعسكري على الأرض بقرار أصدره الرئيس السابق عبدربه منصور هادي ليستهلّ المجلس مهامه بجولتين خارجيّتين، شملت الجولة الأولى زيارة كلٍّ من السعودية والإمارات، في حين شملت الجولة الثانية زيارة كلٍّ من الكويت والبحرين وقطر ومصر، وانتهت بالسعودية مرة أخرى كاسرة بذلك حالة الفتور التي شهدتها علاقات اليمن بكلٍّ من الكويت وقطر على وجه الخصوص، وحالة الجمود التي شهدتها العلاقات اليمنية ببقية الدول في المرحلة السياسية السابقة.
في حين مضت الدول العربية في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، غير آبهة بتبعات ذلك على القضية الفلسطينية وكاسرة حالة الإجماع العربي حول القضية الفلسطينية وسبل حلها.
المواقف المذكورة أعلاه ليست إلا جزءًا من مجمل المواقف التي شهدتها العلاقات بين دول المنطقة، وهو ما يعني أن المنطقة تتهيأ لمرحلة جديدة من العلاقات وأنماط السلوك تختلف كليًّا عن المراحل التي قبلها، وعاكسة في الوقت ذاته حجم التأثير الذي لحق بها جراء الكثير من المتغيرات التي حدثت وتحدث على المستوى الدولي.
ثانيًا: عودة الصراع بين الشرق والغرب
حاولت بعض الدول في الفترة من ستينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي بلورة نظام عدم الانحياز والذي يقوم على فكرة استقلالية الدول المنطوية فيه؛ وبالتالي عدم اللحاق بأيٍّ من المعسكرين"، لكنها لم تنجح، وظلت تابعة في سلوكها ومواقفها لأحد المعسكرين إلى حين انهيار نظام الثنائية القطبية؛ وبالتالي انتهاء الحرب الباردة وحالة الاستقطاب التي تزامنت معها ليدخل العالم مرحلة القطب الواحد ممثلًا بالولايات المتحدة الأمريكية ومن خلفها دول أوروبا الغربية وحلف الناتو، وخلال هذه المرحلة أصبح لدى مختلف دول العالم مساحة نسبية في الاختيار فيما يتعلق بطبيعة النظم ونوعية المواقف وبرزت إلى السطح قضايا كحقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب، وقضايا المناخ والبيئة، وظلت أمريكا خلال هذه المرحلة صاحبة الكلمة الفصل في مختلف القضايا، وسعت الدول إلى الحصول على حمايتها والدوران في فلكها وتبني السياسات التي من شأنها إرضاؤها باعتبارها القوة الأعظم في العالم، وتلاشى الحديث عن قوى الشرق المنافسة لسنوات، لكنه سرعان ما عاد للظهور بصعود الصين كقوة اقتصادية متقدمة وبقدرات عسكرية وتقنية هائلة، ما دفع أمريكا لوصفها بالدولة المارقة إلى جانب مجموعة من الدول الأخرى، تلا ذلك صعود روسيا كقوة عسكرية، خصوصًا في ظل الإرث النووي الذي حصلت عليه من الاتحاد السوفيتي، وهنا شرعت أمريكا بوسم الأنظمة في هذه الدول بالسلطوية الاستبدادية، وبدأت تتجه شيئًا فشيئًا، نحو الخطر القادم منهما على النظام الوليد الذي تترأسه، ومع أنّ الصين "بقيت على مدى تلك السنوات بعيدة عن الدخول في أية تحالفات ولم تتورط بالتدخل الفعلي في مختلف القضايا التي شهدها العالم"، وبما فيها منطقة الشرق الأوسط واكتفت باتخاذ مواقف معينة في المحافل الدولية من خلال حقها في استخدام حق النقض الفيتو والتصويت على قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن تلك القضايا من عدمه إلا أنها لاحقًا وقّعت اتفاقية دفاع مشترك مع كوريا الشمالية وظهرت بصورة الحليف لكلٍّ من روسيا وإيران في مختلف القضايا، بالإضافة إلى سعيها لتشكيل شبكة من العلاقات والتحالفات من خلال شركاتها المنتشرة في مختلف بقاع العالم، وهو ما عنى تحولًا في سياسة الصين الخارجية التي بدورها زادت توجس أمريكا، ومن ناحية أخرى شرعت روسيا في تحركاتها العسكرية، والحديث عن نظام دولي متعدد تحظى فيه الدول بشيء من المساواة والندّية في التعامل، واتخذت مواقف مناهضة للموقف الأمريكي في كلٍّ من سوريا وليبيا، كما أنها ضمت جزيرة القرم في العام 2014م، وسعت لبناء شبكة من التحالفات السياسية والعسكرية، واتخذت مواقف مناوئة للموقف الأمريكي في المحافل الدولية، وهو ما اعتبرته أمريكا تحديًّا واضحًا لمركزها. وانتهى الأمر بغزو روسيا لأوكرانيا والذي يمكن اعتباره بداية فعلية لعودة الصراع بين الشرق والغرب.
ومع أنّ الحرب الروسية في أوكرانيا كان بالإمكان تجنب حدوثها، إلا أنّ هناك من أراد لهذه الحرب أن تقوم لسببين؛ الأول: اختبار القدرات العسكرية الروسية والتي طالما نظرت إليها أمريكا ودول غربية إليها كتهديد وباعتبار أن قوة روسيا ترتكز وبشكل رئيسي على القوة العسكرية، والثاني، والأهم: استنزاف هذه القوة بأكبر قدر ممكن. في حين أراد الروس نشوب هذه الحرب لكسر هيبة القوى الغربية كما يعتقدون، وإثبات الوجود الروسي كعنصر فاعل في النظام الدولي، وهو ما أعاد الصراع بين الشرق والغرب إلى الواجهة".
وبينما اتخذت دولٌ دور الوسيط كتركيا وإسرائيل، سعت دول مثل إيران إلى استغلال الوضع بعرض تقارير عن كميات إنتاجها النفطي وقدراتها الإنتاجية وقدرتها على رفع حصصها في سوق الطاقة"، محاولة بذلك عرض ما يمكنها تقديمه في إطار هذه الحرب، وتحديدًا في إطار مساعدة الغرب على الاستغناء عن الطاقة الروسية في حال رفعت عنها بعض العقوبات.
وتعيش الأنظمة في الشرق الأوسط حالة من التخبط وعودة حالة الاستقطاب والتنافس بين الشرق والغرب، الذي غالبًا ما تدفع المنطقة ثمنه. ولعل المصالحة الخليجية في قمة العلا لم تكن نتيجة مسار ديناميكي معقول وإنما بإيعاز غربي. والأمر نفسه ينطبق على محاولات أمريكا دمج إسرائيل في المنطقة، وكذا مساعيها لتقريب وجهات النظر بين إيران والسعودية ومصر وتركيا...إلخ. كل هذه الجهود يمكن عدها بمثابة إعادة اصطفاف بهدف تكوين تحالفات مناهضة للشرق، وبحيث يقطع الجانب الغربي أمام الروس فرصة تشكيل تحالفات ذات معنى مع هذه الأنظمة باستغلال الخلافات بينها، فالمنطقة مهمة في صراع كهذا، وأكثر أهمية للجانب الروسي، حيث تمثل الممر الوحيد له إلى البحار المفتوحة، وهو ما يجعلنا نقرأ التغييرات التي تشهدها المنطقة في ضوء التغييرات على المستوى الدولي في جزئها الأكبر.
ثالثًا: المصالح والمخاوف المشتركة
من الإجحاف القول إن مختلف التغييرات التي تشهدها المنطقة على مستوى العلاقات ليس إلا رد فعل للتغيرات على المستوى الدولي، إذ إن هذه التغييرات، وفي جزء منها، لها أسبابها الموضوعية ويمكن اعتبار الظروف الدولية حافزًا مكّن المسؤولين في المنطقة من الإقدام واتخاذ قرارات حاسمة بشأنها، وإن لم تكن متوقعة، فالظرف برمته غير مسبوق، ومن بين تلك الأسباب على سبيل المثال: "السياسة التي تتبعها تركيا حاليًّا بغية تحقيق مجموعة من الأهداف في مقدمتها معالجة حالة التضخم الاقتصادي التي تشهدها تركيا من خلال جلب الاستثمارات الأجنبية والخليجية على وجه الخصوص"، ورفع مستوى التبادل التجاري بينها وبين هذه البلدان، وتبادل المنافع على اختلافها بصورة عامة، ويصبح هذا الهدف أكثر وضوحًا إذا أخذنا في الاعتبار مساعي تركيا تجاه كلٍّ من إسرائيل وأرمينيا واليونان وقبرص وغيرها من المناطق، ولعل هذا الهدف ذاته ينطبق على مساعي إصلاح العلاقات اليمنية القطرية، واليمنية الكويتية بعد أعوام من الجمود والجفاء السياسي، ومع أنّ هدف تحقيق المصالح ومواجهة المخاطر المشتركة يبدو أقل وضوحًا في مساعي السعودية مع كلٍّ من إيران وتركيا وكذا قطر، وبالطبع إذا ما استثنينا رغبة ولي العهد السعودي والحاكم الفعلي للمملكة بتحسين صورته للرأي العام العالمي، والأمر نفسه ينطبق على علاقات مصر بقطر واليمن، إذ إنّ الأسباب التي أبقت العلاقات في حالة من الفتور بينها وبين هذه الدول هي نفسها لم تتغير، ما يجعل هذا الحراك مستغربًا وفجائيًّا في نظر الكثيرين، ويمكن إعزاؤه إلى المتغيرات على المستوى الدولي من ناحية وإلى سعي هذه الدول مجتمعة لتجاوز تبعات انتشار وباء كوفيد-19 الذي أدخل اقتصادات هذه الدول في حالة من الركود، أضف إلى ذلك متطلبات مواجهة أزمة الغذاء المحتملة، فالخطر هذه المرة لا يتمثل بنوع من أنواع السلاح ولا بدولة مارقة، وإنما بشبح الجوع الذي يخيم وتتهيأ الدول لمواجهته أو على الأقل تخفيف حدته وهي "مصالح ومخاطر تواجهها جميع دول الشرق الأوسط بنسب متفاوتة"، وهو ما يجعلها في بوتقة واحدة. ولعل هذا ما دفعها للعمل مع بعضها والسعي لتشكيل شبكة من العلاقات تعمل من خلالها على تجاوز خلافات الماضي والمسائل الأقل أهمية من وجهة نظر سياسية، كالإيديولوجيا واختلاف المواقف وغير ذلك، وخصوصًا في ظل سياسة الإدارة الأمريكية الحالية تجاه المنطقة، والتي تقوم على قدر أقل من التدخل المباشر ما يعني أنّ أي خطر في هذه الدول ستصل تبعاته للدول الأخرى بحكم التقارب الجغرافي، وغير ذلك من الروابط المشتركة.
رابعًا: اليمن الدولة الأكثر تأثرًا
في ظل كل هذه الإرهاصات والتغيرات التي تشهدها المنطقة، تبقى اليمن الدولة الأكثر تأثرًا، وذلك كون قرار الحرب على اليمن، وضمن ما عرف بالتحالف العربي لاستعادة الشرعية في 26 مارس/ آذار 2015، قد صدر بقيادة السعودية وبموافقة أمريكية خالصة على لسان وزير الخارجية السعودي من العاصمة الأمريكية واشنطن، وهو ما يعني أنّ قرار الحرب على اليمن كان أمريكيًّا بامتياز. وخلّفت الحرب بعد مرور أكثر من سبعة أعوام عليها تدهورًا في الأوضاع على مختلف المستويات، وإشعال فتيل حرب أهلية دامية لم يعد بالإمكان إيقافها، وحوَّل اليمن إلى أكبر أزمة إنسانية على مستوى العالم، أضف إلى ذلك حالة التشظي والانقسام، فضلًا عن آلاف الضحايا من المدنيين والأعيان المدنية التي استهدفتها الغارات التي شنّها التحالف والذي لم يحقق الهدف من هذه الحرب، إذا ما أخذنا في الاعتبار أنّ الهدف منه كان استعادة الشرعية ودحر المتمردين.
ونحن نتحدث عن أفق التغيير في الشرق الأوسط، والذي يعد في جزء منه بمثابة انعكاس للتغيير على مستوى العالم، لا يفوتنا أن نتناول قضيتي الديمقراطية وحقوق الإنسان، والذي تدل مؤشرات عدة على أنهما سيحتلان مرتبة ثانوية، وإنّ المرحلة القادمة ستشهد تضاؤلًا في الاهتمام بهما، فما من خطوط حمراء أو قضايا مقدسة بارزة فيما نحن قادمون عليها من مرحلة.
بينما لاحظ الجميع "تحقيق الأهداف الخفية" باستنزاف اليمن وإنهاكه وتقسيمه وسلب ثرواته والتنافس على مناطقه الاستراتيجية، وفي طليعتها الموانئ والجزر ومناطق الثروة النفطية، مع الأخذ بالاعتبار أنّ القرار اليمني بقي على مدى الأعوام السابقة قرارًا سعوديًّا في معظم حالاته، وإماراتيًّا في الحالات الأخرى، وفقدَ استقلاليته وفاعليته كليًّا، حيث لم يكن للرئيس الأسبق هادي أي كلمة أو قرار باعتباره ممثلًا للشرعية المراد استعادتها. وعليه فقد دخلت اليمن مرحلة غير مسبوقة من الانهيار، ولحق بالمواطن اليمني أسوأ الآثار، وفقدَ أبسط حقوقه كإنسان، ولن أقول هنا حقوقه في العيش الكريم، فنحن كيمنيين على بعد مراحل من هذه المرتبة.
في ذات السياق، عملت الإدارة الأمريكية في عهد ترامب على دعم التحالف وساهمت في تأزم الوضع في اليمن ودخوله حالة من الفوضى من خلال اتخاذ ودعم سلسلة من القرارات، أثرت بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في عدم حسم الصراع ومحاسبة مرتكبي الجرائم من مختلف أطراف النزاع. وعلى العكس من ذلك تعاملت مع اليمن باعتبارها وسيلة للضغط على الجانب الإيراني والذي بدوره يتعامل مع اليمن كورقة ضغط في مفاوضاته مع أمريكا بشأن الاتفاق النووي. أما الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة بايدن فقد قدمت وعودًا عدة بشأن إنهاء الحرب في اليمن، وملفات إعادة الإعمار وجبر الضرر وتخفيف المعاناة، وذلك في إطار حملتها الانتخابية، واتضح بعد تسلم بايدن السلطة أن كل وعوده بشأن اليمن لم تكن سوى شعارات، ولم يُقْدم على اتخاذ أي قرار ذي أهمية يمكنه إحداث تغيير في الأوضاع اليمنية، وعلى عكس خطاباته قبل استلامه للسلطة القائمة على أن السعودية دولة منبوذة نتيجة لسجلها الإجرامي في اليمن وجرائمها بحق ناشطين وحقوقيين سعوديين، وباعتبار النظام السعودي نظامًا سلطويًّا استبداديًّا، والسياسة القائمة على تدخل أقل في الشرق الأوسط والمنطقة العربية على وجه الخصوص، ككل تأتي زيارة الرئيس بايدن إلى السعودية، والتي التقى خلالها كلًّا من ملك السعودية وولي عهده، ساعية من خلال هذه الزيارة إلى تحسين العلاقات مع السعودية، ودفعها للإسهام في زيادة إنتاج النفط والخروج عن اتفاق أوبك بلس، وبما يمكِّن من الاستغناء عن النفط الروسي، ومن المثير للاستغراب أنّ بايدن أثناء زيارته سيعقد قمة مع ملوك الدول الخليجية، بالإضافة إلى رؤساء كلٍّ من مصر والأردن والعراق في حين لن يحضر هذه القمة الرئيس اليمني، وذلك رغم تصريح بايدن في مقاله الذي نشره على الواشنطن بوست، أن الملف اليمني واحدٌ من أهم الملفات التي سيتم مناقشتها أثناء الزيارة، وكان الأحرى بالرئيس اليمني أن يحضرها، فالملف اليمني لم يكن سعوديًّا يومًا، واليمن ليست فناء خلفيًّا للسعودية كما صرح بعض مسؤولي اليمن في الفترات الماضية، وقضية اليمن يجب أن تناقش مع اليمنيين، فما يعني السعودية والإمارات وغيرهما من الملف اليمني هو ما يمكن تحقيقه من المكاسب وتقليل خسائرها وأعباء حربها في اليمن إلى أدنى حد ممكن، وما عدا ذلك فلا يعنيهما من أمر اليمن شيئًا، وما يحدث يعكس بصورة أو بأخرى رؤية الإدارة الأمريكية لقضية اليمن من منظور المصلحة السعودية، والذي بدوره يخدم مصالحها كما أنّ هناك مؤشرات عدة تدل على سعي السعودية والإمارات ودول التحالف ككل للتخلص من أعباء الحرب في اليمن، وسحب قواتها دون التوصل إلى خطة شاملة من شأنها ترتيب الأوضاع الداخلية، والحول دون تفجر الأوضاع وتفاقم الأزمة أو كما يقال دون أن تصلح ما أفسدت على الأقل، وما أفسدته كثير، ولعل خطوة نقل السلطة وتشكيل مجلس القيادة الرئاسي تدخل ضمن الجهود التي من شأنها تمكين السعودية من تسليم القرار ظاهريًّا للمجلس، والذي يمكن منحه صفة فعلية أكثر من سابقه من خلال قيامه ببعض الجولات الخارجية التي تجعله في نظر الرأي العام العالمي المسؤول الأول عن اليمن والملف اليمني، في حين أنها مسؤولية مفرغة من مضامينها إذا ما تخلت دول التحالف وكذا أمريكا والمجتمع الدولي عن تعهداتها تجاه اليمن، وسلّمت الأمر لليمنيين دون خطة شاملة تسهم في حلحلة الأوضاع، وهو ما يعني أن انسحابها قد يتسبب بنفس حجم الضرر الذي تسبب فيه تدخلها، وربما بضرر أكبر، وخصوصًا في ظل توجه الأنظار إلى الحرب على أوكرانيا وتداعيات أزمة الغذاء المحتملة. والجدير بالذكر أن اليمن تعتمد على الاستيراد في تغطية احتياجاتها الأساسية من القمح، في ظل عجز الدولة عن توفير أي احتياطات من شأنها المساهمة في تخفيف حدة الأزمة، أضف إلى ذلك انهيار العملة، وخصوصًا في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، وفي ظل موجات اللجوء والنزوح وانهيار البنية التحتية، وفي ظل عدم وجود سياسات واضحة ومدروسة لجبر الضرر وإعادة الإعمار، وهو ما يعني أن اليمن في ظل هذه الإرهاصات قد تبقى منفية؛ لا السلطة المتهالكة فيها قادرة على عمل شيء، ولا الجهات التي يمكن عد معظمها من المتسببين في الضرر تحملوا مسؤولياتهم إزاءها، وفي ظل تحول المساعدات وجل وسائل الدعم للأوكرانيين الذي ينظر الغرب، بل والعرب، إلى قضيتهم باعتبارها القضية الأهم والأحرى بالاهتمام من غيرها، كما أنه لم يعد من المستبعد أن يضحى باليمن في سبيل التوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني أو في سبيل التوصل إلى تفاهمات مع إيران حول تزويد الغرب بالطاقة ضمن مساعي الغرب للتخلص من الاعتماد على الطاقة الروسية، وهو احتمال وارد في ظل بقاء اليمن وأزمته الإنسانية في آخر سلم أولويات صناع القرار على المستوى الدولي والإقليمي، وفي ظل عجز صانع القرار على المستوى المحلي، ولذا نقول إنّ اليمن هي الدولة الأكثر تأثرًا في الشرق الأوسط، في ظل ما تعيشه المنطقة والعالم.
خامسًا: مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان
ونحن نتحدث عن أفق التغيير في الشرق الأوسط، والذي يعد في جزء منه بمثابة انعكاس للتغيير على مستوى العالم، لا يفوتنا أن نتناول قضيتي الديمقراطية وحقوق الإنسان، والذي تدل مؤشرات عدة على أنهما سيحتلان مرتبة ثانوية، وإنّ المرحلة القادمة ستشهد تضاؤلًا في الاهتمام بهما، فما من خطوط حمراء أو قضايا مقدسة بارزة فيما نحن قادمون عليها من مرحلة. وعلى الرغم من أن منطقة الشرق الأوسط ما زالت حديثة العهد بمفاهيم كهذه، وما من نظم ديمقراطية كاملة فيها إلا أنّ المختلف هذه المرة أنّ المستبد سيجد من يأخذ بيديه ولن يخشى من يردعه طالما وهو يقدم الفائدة المرجوة منه لهذا الطرف أو ذاك. فالمصنف مستبد وإرهابي بالأمس، من الممكن أن يعاد تصويره للعالم كبطل أو منقذ، والأمثلة كثيرة في هذا الصدد، إذ إنّ المسألة هنا لا تقاس بمدى الحفاظ على أو انتهاك حقوق الإنسان، ولا بمدى سعي مثل هذه الدول، إيران والسعودية وسوريا وغيرها، للتحول نحو الديمقراطية وغيرها من القيم اللبرالية، والتي طالما مثلت الأساس التي بنت على أساسه الدول الغربية تعاملها مع مختلف أنظمة العالم أو بدت كذلك خلال الفترات السابقة باعتبار المجتمع الغربي هو الراعي الأول والمصدِّر لهذه القيم للمجتمعات الأخرى- وإنما يقاس بكم ونوع المصلحة التي يمكن أن تحققها هذه الدول من بعضها، وبالقدر الذي ستسهم به في مناهضة المنافس الأهم والعدو الأول ممثلًا بالشرق أو الغرب، بحسب موقع الدولة ونوعية علاقاتها ونظامها. طالما كان تراجع أهمية قيم كالديمقراطية وحقوق الإنسان والقيم التي من شأنها الحفاظ على الإنسان وكرامته عامة هي ثمن حالات التنافس على المستوى الدولي والتغير في موازين القوى، وهو ما يمكّن من استغلال مفاهيم مثل حق تقرير المصير وإطلاق الصفة الإرهابية على هذا النظام أو ذاك ومفاهيم الثورة والطاعة أو الالتزام السياسي والمساءلة كوسائل لتحقيق مصالح ومآرب معينة، ومن الممكن أن يتم تجريدها من أهميتها كحقوق ومفاهيم لصيقة بالإنسان وكرامته تهدف لمنحه حياة أفضل، وهو أمر طالما حدث في مراحل التحول والصراع على المستوى الدولي، وليس بالجديد. لذا فإنّ ازدواجية المعايير والتلاعب، بل والمتاجرة بحقوق الشعوب، سيكون أحد ملامح المرحلة الانتقالية التي يعيشها العالم، وهو ما يجعل من واجب الحقوقيين والعاملين في مجال حقوق الإنسان كأفراد ومؤسسات خلق قنوات لممارسة مهامهم بعيدًا عما يريده الساسة في صراعهم، وتحديد بدائل ووضع برامج تمكّنهم من النهوض بدورهم، وهي مهمة رغم صعوبتها إلا أنّها ممكنة إذا ما أخذت على محمل الجد.
الهوامش
1- سعيد الحاج، "الأمير محمد بن سلمان في تركيا.. هل هناك حقًّا مرحلة جديدة بين البلدين"، شبكة الجزيرة الإعلامية، على الرابط : .https://2u.pw/T0iu5
2- بعد سنوات من القطيعة.. أردوغان يزور الإمارات لـ"فتح صفحة جديدة"، موقع DW، على الرابط : https://2u.pw/sVypQ.
3- عزت سعد، في عيدها الستين، حركة عدم الانحياز في عالم متغير، المجلس المصري للشؤون الخارجية، على الرابط :
4- باتريشا أم.كيم، الصين تبحث عن حلفاء، إندبندنت عربية، على الرابط : https://2u.pw/01UCP.
5- تيد جالين كاربنتر، إشارات تصويت الأمم المتحدة مشكلة لتحالف واشنطن العالمي ضد روسيا، the national interest، على الرابط: https://2u.pw/GuBGo.
6- صالح العبيدي، أثر الغزو الروسي لأوكرانيا على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، 2022 Crisis Group، على الرابط :
7- خالد بشير، تصفير المشاكل استراتيجية أردوغان التائهة، حفريات، على الرابط: https://2u.pw/wxGqK.
8- مها يحيى، عمرو حمزاوي وغيرهم، ما تعنيه الحرب الروسية في أوكرانيا لمنطقة الشرق الأوسط، مركز مالكوم كير- كارينغي للشرق الأوسط، على الرابط : https://2u.pw/t2T83.