يقال إن معدل سعر الصرف ومعدل التضخم يمثلان ترمومتر لقياس مدى اعتلال جسم الاقتصاد الوطني أو تعافيه، فالتقلبات في تلك المعدلات أو استقرارها ترتبط بمدى الاختلال والجروح الغائرة في جسم الاقتصاد أو بسلامة أدائه خلال فترة معينة من الزمن، وفي التحليل الاقتصادي، فإن التقلبات في سعر الصرف تؤدي إلى تزايد معدل التضخم في أسعار السلع والخدمات، خاصة إذا كان الاقتصاد يعتمد على الواردات الخارجية لسد معظم احتياجاته، كما هو الحال في الاقتصاد اليمني.
ويتحدد معدل سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأخرى بناء على تفاعل مصادر العرض ومصادر الطلب للعملات الأجنبية في سوق الصرف المحلي، ففي ظروف الاستقرار التي سادت قبل الحرب، كانت عوامل العرض للعملة الأجنبية (الدولار والريال السعودي، مثالًا)، تتمثل، حسب أهميتها، في عوائد الصادرات من النفط والغاز، وتحويلات المغتربين إلى الداخل، والسحوبات من القروض والمساعدات الخارجية، والاستثمار الأجنبي المباشر وعوائد الصادرات غير النفطية، بينما مصادر الطلب على العملة الأجنبية تشمل تمويل تجارة الواردات من السلع المختلفة، وأقساط سداد القروض الخارجية، وتغطية نفقات العلاج والتعليم والسياحة في الخارج، وتحويلات الأجانب إلى الخارج.
ففي ظل استقرار مصادر العرض والطلب للعملة الأجنبية، فإن ذلك يؤدي إلى استقرار سعر صرف الريال مقابل الدولار أو الريال السعودي أو غيرهما من العملات الأجنبية، وبالمقابل إذا حدث اختلال في تلك المصادر، سواء في جانب العرض أو جانب الطلب، فإن ذلك يقود إلى اضطرابات في سعر الصرف وتدهور لقيمة الريال أمام العملات الأخرى.
ومنذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، انتهج البنك المركزي اليمني سياسة سعر الصرف المدار وتخلى عن سياسة سعر الصرف الثابت، بناء على مقترحات برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي الموقع مع كلٍّ من صندوق النقد والبنك الدوليين، بعد أن عجز البنك المركزي في المحافظة على السعر الثابت للريال مقابل العملات الأخرى.
مما زاد من الضغوط على سعر الصرف، بروزُ مصادر جديدة للطلب على الدولار، تتمثل في قيام الأفراد أو الشركات التي لديها أرصدة نقدية كبيرة بالريال بشراء الدولار بهدف حماية ثرواتهم أو لتغطية نفقاتهم في الخارج
وخلال عقدين من الزمن، كان البنك المركزي قادرًا على إدارة سعر صرف الريال مقابل الدولار والعملات الأخرى بكل يسر واقتدار، فقد كان لديه احتياطيات كافية من العملة الأجنبية، كانت تأتي من عوائد صادرات النفط والغاز والمسحوبات من القروض والمنح الخارجية، إضافة إلى تدفق تحويلات المغتربين إلى الداخل، مما مكّن البنك المركزي من المحافظة على سعر صرف الريال مقابل الدولار عند مستوى 215 ريال للدولار طوال حوالي 10 سنوات قبل الحرب، وكان يتدخل بشكل دوري لاستقرار سعر الصرف عن طريق المزاد العلني الدوري للدولار وبيعه على البنوك والشركات وغيرهم، وساهمت تحويلات المغتربين في استقرار سعر الصرف في السوق الموازي، مع اختلاف بسيط جدًّا بين السعر الرسمي وسعر الصرافين.
وخلال السنوات الستة الماضية للحرب، خسر الاقتصاد معظم الاحتياطيات من النقد الأجنبي، فتوقف تدفق العوائد من الصادرات، وعوامل أخرى ساهمت في تهاوي سعر صرف الريال مقابل الدولار حتى وصل إلى ثلاثة أضعاف ما كان قبل الحرب الدائرة في البلاد منذ 2015.
ومما زاد من الضغوط على سعر الصرف، بروز مصادر جديدة للطلب على الدولار، تتمثل في قيام الأفراد أو الشركات التي لديها أرصدة نقدية كبيرة بالريال بشراء الدولار بهدف حماية ثرواتهم أو لتغطية نفقاتهم في الخارج.
وعندما تم نقل بعض صلاحيات البنك المركزي إلى عدن عجز هو الآخر عن إدارة سعر الصرف، بل ساهم في تدهور قيمة العملة؛ بسبب تمويل نفقات الحكومة في عدن عن طريق الإصدار النقدي للريال دون وجود غطاء من الاحتياطيات الدولية، باستثناء الوديعة السعودية، والتي تبخرت هي الأخرى مصحوبة بشبهات فساد في صرفها.
وبالمقابل، فقد البنك المركزي بصنعاء قدرته في إدارة سعر الصرف؛ بسبب عدم امتلاكه الاحتياطيات الكافية من العملة الأجنبية للقيام بذلك، والسؤال الذي يطرح نفسه، كيف استقر سعر الصرف في مناطق حكومة صنعاء، بينما ظل متقلبًا ومرتفعًا في مناطق حكومة عدن...؟!
الإجابة عن ذلك التساؤل، تكمن بالآتي:
- خلال سنوات الحرب، ظلت تحويلات المغتربين تمثل المصدر المستدام للعملة الأجنبية، سواء في شكل تحويلات بالريال السعودي أو الدولار أو أي عملة أخرى، وتؤكد تقارير البنك الدولي أن حجم هذه التحويلات تصل إلى حوالي 4 مليار دولار سنويًّا، بينما التقديرات غير الرسمية تعطي رقمًا أعلى من ذلك، وهذا المورد غير المنظور، والذي يمثل الجندي المجهول في معركة الحفاظ على القوة الشرائية للريال اليمني، امتد تأثيره إلى كل محافظات الجمهورية، بغض النظر عن جهود بنك صنعاء أو بنك عدن.
- الثبات النسبي لسعر الصرف في مناطق حكومة صنعاء، يعود إلى حقيقة اقتصادية، مفادها أن التغير في حجم العرض النقدي من الريال قد يؤثر سلبًا أو إيجابًا على معدل التضخم، وبالتالي على سعر صرف العملة الوطنية.
وما يحدث في مناطق حكومة صنعاء، هو أن البنك المركزي لا يمتلك أي فائض من احتياطيات العملات الأجنبية، وبالتالي فليس لديه القدرة على إدارة سعر صرف الريال مقابل العملات الأخرى، وما قام به هو منع استخدام العملات النقدية الجديدة من الريال والاكتفاء بالتداول بالعملة القديمة، حتى وإن كانت تالفة، وفي لغة الاقتصاد، هذا يعني أن التغير في العرض النقدي من الريال في مناطق صنعاء مساوٍ للصفر، إن لم يكن سالبًا، وفي ظل ركود النشاط الاقتصادي، فإن ذلك يعني استقرار الأسعار أو تراجعها في بعض الحالات، وهو ما يفسر استقرار سعر الصرف أو تراجعه بعض الشيء.
استمرار الحرب، وتشطير البنك المركزي سيؤدي إلى تدهور قيمة العملة الوطنية وقد يرتفع سعر الصرف إلى مستويات قياسية في المستقبل المنظور، ولتحقيق الاستقرار في سعر الصرف يتطلب شروطًا مسبقة، أهمها إيقاف وتيرة الحرب المدمرة، وبسط السلام في عموم البلاد، واتخاذ خطوات جادة لدعم البنك المركزي
وبالمقابل، فإن البنك المركزي في عدن يفتقد القدرة على إدارة سعر الصرف واستقراره، بل إنه قام بتمويل نفقات الحكومة عن طريق طباعة نقود جديدة دون وجود احتياطيات من العملة الأجنبية كغطاء لها، وبلغة الاقتصاد، فإن بنك عدن يساهم في زيادة العرض النقدي من الريال بمعدلات عالية، وفي ظل ركود النشاط الاقتصادي في مناطقه، فذلك يعني زيادة مستوى الأسعار (ارتفاع التضخم)؛ مما أدى إلى زيادة المضاربة على العملة الأجنبية، وهذا يقود إلى ارتفاع متصاعد في سعر صرف الريال مقابل العملات الأخرى.
وللأسف، فإن الإجراءات المتخذة من البنك المركزي في كلٍّ من صنعاء وعدن، وسّعت الانقسام الاقتصادي بين صنعاء وعدن، وهو ما يفسّر التباين في سعر الصرف بين مناطق صنعاء وعدن، والذي استغله الصرافون والبنوك أسوأ استغلال، وجعلوا من منع تداول الطبعة القديمة ذريعة لامتصاص أموال المواطنين والتجار بالباطل، وإذا استمرت الأوضاع كما هي عليه، فإن سعر صرف الريال قد يتجاوز عتبة الألف ريال في مناطق عدن، ويعمق الفجوة بينها ومناطق صنعاء.
وبغض النظر عن التباين في سعر الصرف في كلٍّ من صنعاء وعدن، فإن تدهور قيمة العملة الوطنية يؤثر سلبًا على العديد من شرائح المجتمع، وخاصة الموظفين والعمّال، فتزايد سعر الصرف يخفض القوة الشرائية للريال، وبالتالي يؤثر سلبًا على القيمة الحقيقية للمرتبات والأجور، وهذا يعني تدهور المستوى المعيشي لتلك الفئات، ووقوعهم في براثن الفقر والحاجة، كما يؤثر على الموقف المالي للنظام المصرفي، حيث تنخفض قيمة الأصول المالية للبنوك، وخاصة القروض المقدمة للعملاء، بمقدار حجم التراجع في قيمة الريال، مما يجعل الملاءة المالية للبنوك في موقف خطير، إضافة إلى تأثيره على قيمة القروض الخارجية على اليمن مقيمة بالريال، إذ تتضاعف قيمتها بمقدار تضاعف سعر الصرف، مما يجعل الحكومة في وضع حرج للوفاء بسداد الديون عليها، ناهيك عن تآكل ثروة الأفراد والشركات، والموجودة في شكل أرصدة نقدية بالعملة الوطنية (الريال)، وبالمقابل، فإن تزايد سعر الصرف يستفيد منه شرائح أخرى في المجتمع الذين عليهم التزامات مقيمة بالريال، مثل أرباب العمل والمدينين للبنوك والشركات والأفراد.
وإجمالًا، فإن استمرار الحرب، وتشطير البنك المركزي سيؤدي إلى تدهور قيمة العملة الوطنية، وقد يرتفع سعر الصرف إلى مستويات قياسية في المستقبل المنظور. وتحقيق الاستقرار في سعر الصرف يتطلب شروطًا مسبقة؛ أهمها إيقاف وتيرة الحرب المدمرة، وبسط السلام في عموم البلاد، واتخاذ خطوات جادة لدعم البنك المركزي، من خلال:
- الحصول على وديعة بمبلغ 3 إلى 4 مليار دولار، حتى يتمكن البنك من السيطرة على سعر الصرف واستقرار الأسعار.
- قيام الحكومة بتصدير النفط والغاز، واستخدام العوائد لرفد الاحتياطي الخارجي للبنك المركزي.
- توقف الحكومة عن تمويل الميزانية عن طريق الإصدار النقدي، والذي يؤدي إلى تدهور العملة والتضخم في الأسعار.
وهذه شروط يجب توفرها في الأجل القصير لوقف التدهور في قيمة الريال، بينما في الأجل المتوسط يحتاج الاقتصاد إلى توفر الاستقرار السياسي والأمني، ووجود البيئة الحاضنة والملائمة لجذب الاستثمارات، وتعزيز الحوكمة في مؤسسات الدولة، وخاصة في مؤسسات القضاء والعدل وفي أجهزة إنفاذ القانون، وتبني برنامجٍ وطنيّ لإعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي.