على مدى سنوات أنجزت التشكيلية المصرية (إيمان عزت) متوالية من أعمالها المنفَّذة بتقنية الحفر على الخشب، حرصت من خلالها على أسلبة أعمالها وإكسابها معالجة بصرية ورؤيوية بالغة الخصوصية، وظّفت فيها البناءات الخطية والهندسية، وعلى الرغم من التقشّف اللوني واعتمادها على الألوان الرمادية والترابية، فقد أنشأت عالمًا تجريديًّا ورمزيًّا خصبًا (وسنعود في كتابة مفصلة قادمة، لنستقرئ هذه المرحلة وتجربة الفنانة في عمومها).
أما المقالة التي بين أيدينا، فنتناول فيها معرضها (غزل البنات)، الذي أقامته في العام 2021، والذي يمثّل واحدة من تجاربها العديدة، إلّا أنّها تجربة جديرة بالتوقف والكتابة عنها بشكل خاص، فهي خلاصة بحثٍ لونيّ في محترف (إيمان)، قدّمت عبرها مشهدية مبهرة للطبيعة في ذروة خصوبتها وبهائها.
قبل الدخول في معارج النصوص وتشاكيلها، لا بدّ من عودة سريعة إلى السنوات الأخيرة كي نفهم أنّ هذا التحول الكبير الذي وسم المعرض لم يكن فجائيًّا، فقد سبقته إرهاصات واختبارات شكّلت ذرائع سوغت هذا الاقتحام الجريء للمشهد الطبيعي الحافل باللون، فمنذ زمن لاحت مقدمات الانتقالة الفنية الراهنة في تحوّل الرسامة، بأعمال الحفر على الخشب من الصيغ التجريدية الصرفة وواحدية اللون، إلى البناءات التي تتداخل فيها السطوح، وباتت لغتها اللونية أكثر حضورًا وتنوّعًا إلى حدّ تكثيف الألوان الصريحة، مع نثر بعض الزخرفات والعلامات الدالة على صور أخذت تقترب من المحيط المادي أو تحتفظ بخيوط خفية تحيل إليه، وإن لم يكن عن طريق المشابهة الكلاسيكية بمعناها العام.
ومِن ثَمّ برزت تكويناتها التي صوّرت فيها المنازل المتراصّة على أرض ممتدة وأفق لا آخر له، هذه الأعمال وإن أوشكت على الإفصاح عن نصوص بصرية مادّتها الواقع الخارجي، إلّا أنّها كانت لا تزال تتمسك بمسحة هندسية، فالأرض في النصوص عبارة عن اندياح لخطوط أفقية متوازية في صرامة، ينجم عنها مساحات متوازية تتمايز عن بعضها بتدرجات من اللون الواحد كالبني أو البرتقالي أو الأخضر، وغلب على الصباغة اللونية الشفافية، وهي خصيصة حافظت عليها الفنّانة في تجاربها ما يقارب عقدًا من الزمن، سواء في اللوحات المندرجة ضمن تقنيات التصوير بالألوان الزيتية أو أعمال الحفر والطباعة.
صخب الألوان
وفي انعطافة تالية، استغرقت (إيمان عزت) في اشتغالها على إنتاج منظر طبيعي وسمته مرونة الخطوط، وشساعة المساحات، والحساسية العالية في مزج الألوان ومجاورتها، هنا برزت في الأعمال روح مختلفة، وتعاطٍ مغاير عن المراحل السابقة، خاصة في الصيغ اللونية التي تخلّت عن التشفيف، وأصبحت طبقات كثيفة تصبغ قاع اللوحات بامتزاجات البني والأخضر الفيروزي ودرجات من البنفسجي، فتبعث الحياة في ألوان الأرض، كما تحولت الخطوط الهندسية الصارمة إلى تموّجات شبيهة بالمدرجات الزراعية والتواءات صفوف الزرع، وفي مقدمة اللوحات شرعت الفنانة تنثر القليل من الزهور البيضاء المائلة للصفرة أو البنفسجية، وهو ما يمنح الصور المزيدَ من الحياة.
الحبكة التي تم تعيينها في بناء الشكل، عبرت -وإن بصورة غير مباشرة- عن سيرورة الحياة واستمراريتها، حيث لا مبتدأ لحيوات الزهور والنباتات في حيز اللوحة ولا منتهى، فالطقس الذي اعتمدته المصورة في تكوين الأعمال يقوم على اكتظاظ السطح كلية، وانوجاد الطبيعة في أدقّ ثنايا اللوحة. فضلًا عن ذلك سعت الرسامة إلى موضعة مشاهدها في المستوى التعبيريّ والفعل التأثيريّ لتتفادى النقل الآليّ.
هذه التجارب وإن كانت مثّلت منعطفًا مثمرًا، شكلًا ومضمونًا، إلّا أنّها دأبت على تكريس نبرة هادئة في علاقات اللون، حيث خلَت من الدرجات الصارخة ومن صخب الألوان، وتقصّدت الفنّانة أن تكرّس الدرجات العميقة في تلوين الأرض، وبعد ذلك تؤلف بقية أجزاء التكوين، بحيث تضمن ضبط إيقاعات اللون على ذات المستوى، وكأنها بهذا الاشتغال تتحسّس القيم الخبيئة في روح اللون، وتتهيّأ بواسطته لأن تنقل نصوصها إلى خضم المفازات اللونية وصخبها، والتصرف بناء على رهانات وضعتها الفنّانة بقصد إيجاد نسق فنّي يرسخ قدراتها كملونة ومصورة متمكنة، وقابضة على خيوط تقدّمها ضمن مسارات عديدة، تقنيًّا وجماليًّا، وهو ما ظهر بجلاء في عرضها (غزل البنات)، فاللوحات المعروضة تضع معالجة شديدة الجاذبية للمشهد الطبيعي تتفوق على المحامل التقليدية، حيث انصرفت المصورة عن استنساخ التمظهرات السخية الباذخة البهاء في العالم الطبيعي إلى استظهار الحياة الداخلية في قلب الطبيعة، ويبدو واضحًا أنّها قضت وقتًا تدقّق وتتأمل التحولات المبهجة في عمر النباتات وولادة الورود والزهور وتفتّحها وانتظامها في حركة الطبيعة النابضة والمحتدمة، الأمر الذي جعل الصور تنبني وتتشكّل وَفقَ صلات عاطفية بين الرسامة والطبيعة، لذلك تعج اللوحات بطاقة إيجابية.
ولا شكّ أنّ إيمان عزت بمعرض (غزل البنات)، تدشّن مرحلة فنية جديدة، ترتكز على تدابير نسقية لا نجدها في سابق أعمالها، إذ إنّ الحمولات التي لنصوصها في هذا المعرض، لا تعول على أسلوبها الذي اعتدناه في تناولاتها للعالم الخارجي، بنائيًّا ولونيًّا، فقد انصرفت إلى تمثيل الأصل بعين الفنان، واستغنت عن الفراغ الميتافيزيقي الذي ساد في تجاربها السابقة وباعد ما بينها وبين السمت الظاهري للمحيط المادي، بينما في هذا المعرض تجاورت المشاهد مع الطبيعة الفعلية، وإن حافظت المصورة على الفروقات بين نتاجها الإبداعي وبين الطبيعة الحسية.
ولعل أول ما تلتقطه العين في المعروضات، يكمن في طريقة بسط مشهد النباتات المزهرة على كامل قماش اللوحة، في تكوينات تجترح إنشائية جريئة للصور، قائمة على امتلاء المشهد بالغطاء النباتي والأزاهير، والتخلي عن الترسيمات النمطية للمنظر الطبيعي الذي يفترض التوازن بين فضاء وأرضية للعمل، وأفق يمتد في العمق، ومن المؤكّد بأنّ الفنّانة لجأت إلى هذا الحل البصري بتأثير دوافع متعددة فنية ووجدانية، فالتقاط أكبر مساحات ممكنة من تمثّلات الطبيعة المحتشدة بصنوف الخضرة والورود والزهور يعكس حالة الافتتان التي تلبّست الرسامة التي راحت تبحث في الأسلوب الأكثر قدرة على تحقيق الفاعلية الفنية لتمثيل تألق (الطبيعة) وزخم عطائها وجمالها، في أدائية كفؤة، تظهر أنّ المشاهد تتجاوز حدودها الاعتيادية، وأشكال الطبيعة البديهية لحياة النبات والوجود العياني بكل حمولاته إلى جوهر الظواهر، وحياة الأرض وطاقتها في مقاومة الزمن، وتغيير صورة العالم عندما يكتسي بالشحوب ويشيخ، فهي وحدها القادرة على مقاومة الموت والتلاشي، والعودة في دورة حياة متجددة، وإنّ توقف الفنانة عند هذه الحالة وتكثيفها في اللوحات، صار أشبه بحل إبداعي لتثبيت الزمن عند ربيع دائم.
وحدة التكوين والخصوصية البصرية
من جهة أخرى، فإنّ الحبكة التي تم تعيينها في بناء الشكل، عبرت -وإن بصورة غير مباشرة- عن سيرورة الحياة واستمراريتها، حيث لا مبتدأ لحيوات الزهور والنباتات في حيز اللوحة ولا منتهى، فالطقس الذي اعتمدته المصورة في تكوين الأعمال، يقوم على اكتظاظ السطح كلية، وانوجاد الطبيعة في أدقّ ثنايا اللوحة. فضلًا عن ذلك، سعت الرسامة إلى موضعة مشاهدها في المستوى التعبيريّ والفعل التأثيريّ لتتفادى النقل الآليّ، فالطبيعة وإن كانت الحامل المادي لموضوع اللوحات، إلا إنّ المصورة حرصت طيلة الاشتغال في التجربة على التحرك بموازاة الظاهرة الطبيعية في محاولة عنيدة للتخلص من الحسية وتجريد المناظر قدر ما أمكن من الجسامة التي تتضمنها في البيئة الخارجية.
إنّ هاجس الفنانة (إيمان عزت)، ظل يتركز بدرجة أولى، حول إخراج اللوحات بمواصفات جديدة بغية الانتقال بالمتعين من الصور إلى مرتبة أعلى يتساوق فيها التخييل وحرية الأداء وعدم الانضباط في نقل الصورة ضمن الشروط الواقعية أو المدرسية، وكذا الخلاص من سلطة المكان (المنظر الطبيعي الواقعي) المحمل سلفًا بجماليةِ منشَئِها المشهدية الخلابة لخصوبة الأرض وتنوّع غطائها النباتي المتشبع بغلالات من الأزهار والورود، وبالتالي جاهزية عالية وثرية بالتنوع اللوني، وهو ما قد يستدرج المصور إلى غواية النقل الآلي لتلك التجليات الطبيعية المغرية، إلّا أنّ المصورة ظلت واعية بضرورة إضفائها علاقتها الذاتية بهذه الحالة المفعمة بالجاذبية التي تبرز العالم الطبيعي في المستويات الأعلى من الجمال، كما أنّ الرسامة أضفت مشاعرها، وسكبت فيضًا من روحها على الصور التي اعتبرتها مادة التعبير ليس إلا، فانتزعت نفسها من غواية وهج المحيط الطبيعي متجهة إلى مستوى أدائي تتمكن فيه من تحرير محملها التشكيلي من سلطة المرئي -وهي التي كانت منذ بداياتها متمردة على القوانين المدرسية- فلجأت إلى إعادة بناء الصور وَفقَ قيمٍ بصرية تنتقي مقطعًا من الشكل الخارجي ثم تغمسه في مزيج من المعالجات التقنية فتعيد رسم تفاصيله وتنثرها على أنحاء السطح، وإن الاقتراحات التقنية التي ارتأتها المصورة خضعت لاعتباراتها الفنية المحضة، مثل نفي الخطية التي تحوط الأشكال وتبرزها واضحة، والركون إلى بلورة الأشكال النباتية وتنويعات الزهور من خلال ضربات الفرشاة، بحيث تتشكل اللوحات من بقع لونية مدهشة وموحية لا تخلو من لمسة تأثيرية، لكنها تحمل خصوصية اللغة البصرية التي طورتها (إيمان) على مدى سنوات.
في جميع الأعمال داخل المعرض، يمكن أن نرى كيف أنّ الفنانة في بناءاتها تشتغل على وحدة التكوين مهما تزاحمت بداخله المفردات والبقع اللونية، فهي تحيله إلى نسيج محبوك يصعب تفكيكه إلى أشكال منفردة، فالمشهد برمته وبكل زخمه اللوني وعناصره المحتشدة التي تشكّل مروجًا كثيفة من الزهور، يبدو كما لو أنّ الفنّانة تؤلفه بذات المنطق الذي زخرف به فنّانو المنمنمات مناظر الحدائق الغنّاء، أو كما يفرد فنّان السجّاد زخارفه في قلب نسيجه، غير أنّ المصورة تتفوّق بحمولاتها الشعورية التي تجعل من البناءات المكثفة والمركبة للصور كيانًا جماليًّا مفعمًا بالحيوية والديناميكية، ففي خضم المشهد تلوح حركة الرياح، فتتمايل الزهور وتتماوج وتتشابك، لتبقي المناظر في حالة حياة متصلة.
في المعرض ذاته (غزل البنات)، قدّمت (إيمان عزت) لوحتين تنتميان، من حيث السياق الفنّي الكلي، للمجموعة المعروضة، لكنهما مثّلتا حالة جمالية خاصة، ففي هاتين اللوحتين صورت أزهار القطن، حيث ألقت الرسامة نثارًا من زهورها البيضاء في كل الأرجاء، بدت الزهور خفيفة وشفافة تملأ سطحي اللوحتين، وتشع بهالة من الضياء والدهشة والسحرية، وبعيدًا عن النتاجات الفنّية الهامّة للفنّانة على اختلاف مراحلها، يكفي أن نتأمل براعة المصورة في توظيف الأبيض في لوحتي أزهار القطن، لندرك أنّ (إيمان عزت) تمثّل تجربة تشكيلية مبدعة واستثنائية.