بعد ما يقارب ثمان سنوات من التخبط واللعب على التوازنات، تذكر "التحالف العربي" بقيادة السعودية والإمارات، أنه يخوض حربًا في اليمن. نعم، تذكر ذلك فكثّف غاراته على صنعاء ومناطق أخرى آهلة بالمدنيين. في صنعاء قصفت طائرات التحالف "جسر المصباحي"، وحفر صاروخ آخر نصف بئر على الأسفلت في تقاطع شارع الزبيري-بغداد، حاقنًا أسرة نازحة تسكن خيمة بالقرب من مكان سقوطه، بجرعة من الرعب لا يقوى عليها قلب بشر. وفي المحويت قصف طيار أعمى برج اتصال يسكن أسفلَه حارسُه مع أسرته، فقضى على الأسرة بكاملها. كل ذلك والتحالف يبحث عن انتصار يحفظ به ماء وجهه المراق منذ 2015، على المرافق المدنية للبلد وبنيته التحتية المدمَّرة، لكن ما يحدث في الواقع، هو إراقة المزيد من دماء المدنيين والأبرياء وتدمير حياة الأحياء منهم.
إن كان لهذه الآلة الحربية الوحشية من آذان أو ضمير، فعليها أن تدرك أن كل هذه السنوات من الخراب، لم تجعل المنطقة أكثر أمانًا. كنّا بنظرها الخطر الأوحد، وها هي النيران تتمدد إلى ما وراء الحدود، ومع عربدتها تتعقد فرص السلام يومًا عن يوم، وتدخل مناطق جديدة في دائرة العنف.
كصحافة مستقلة ومجتمع مدني، نحن معنيون بالمدنيين والأعيان المدنية، وهم مقياسنا لنجاح أي فعل يدعي الانحياز للإنسان وقيمه ومكتسباته. أما غير ذلك فهو من قبيل العبث الذي لا يمكن أن يمنح للقذيفة أو للبندقية العمياء أيَّ مشروعية.
خلال الأيام القليلة الماضية، ظلت العائلات التي تسكن الأحياء الشمالية لصنعاء العاصمة، في حالة من الهلع والترويع المتواصل، وترقب الموت، فقط لأن هناك قاتلًا يحلّق فوق رؤوسهم، قرر أن إحدى المنشآت المدنية القريبة منهم تستخدم مخزنًا للأسلحة. ثم إننا أمام طرفين أثبت كلٌّ منهما في جولات هذه الحرب الطويلة وغير المجدية، لا مبالاته بحياة الأبرياء، وبالتالي لا يمكن العثور على الحقيقة لديهما، وهكذا تبدو مهمة إفزاع المدنيين وقتلهم وكأنها ورقة في هذا الصراع الباعث على الخزي والعار.
سبع سنوات، تهشم فيها زجاج النوافذ، وتناثرت أحجار البيوت ومباني المؤسسات الحكومية المدنية، والكثير منها سُوّي بالأرض؛ رأينا كيف يأتي الموت على هيئة طائرة تقذف ما في أحشائها من نار وشظايا تسحق أشلاء المدنيين بين كتل الأحجار والأسمنت.
والبلد يتهيأ لموجة جديدة من العنف والصراع، تبقى هناك فرصة داخل هذا الشتات؛ فرصة أن يصبح هذا البلد الممزق والحزين، ملكًا لجميع مواطنيه، من خلال إرساء عقد اجتماعي يضمن حقوقهم، ولا يسمح بالاستئثار الأحادي بثروته وسلطته
سبع سنوات من تساؤلات أطفالنا عن هذا الغول الذي يدفع أبواب غرفنا للداخل أو يخلعها من أماكنها، عن هذه الأصوات الماحقة التي تجعلهم يتبولون على فراشهم ويفزعون كلما أغمضوا جفونهم الصغيرة في الليالي المستعرة. سبع سنوات من تعشيش رعب الموت المتربص بالصغار والكبار على امتداد جغرافيا الحرب، ناهيك عن آلاف المدنيين الذين أزهقت آلة الموت أرواحهم بوحشية لا تتناسب مطلقًا مع مخزون البشرية من التحضر المتراكم والإنسانية المدّعاة؛ تلقى على رؤوسهم القنابل، فتحصد من أرواحهم ما يقع في مجال قدرتها التدميرية، ومن قدّر له النجاة، يُترك ليواجه الأسئلة نفسها التي لم يتجشم مسؤول واحد عناء الإجابة عنها: لماذا يتم قتلنا؟!
ولأن العبرة دائمًا بالنتائج؛ هل لدى القادة جردة حساب يتذكرون من خلالها ما الذي فعلته آلة القتل بهم وبنا؟ كيف أن مليارات الدولارات التي كان يمكن أن تُوجّه لتنمية المنطقة، تحوّلت في غضون سنوات إلى شرّ محض، ونقمة لا يمكن درء آثارها الكارثية، ولو بعد عشرات السنين القادمة. إنها الكلفة المؤجلة لتدفعها الأجيال القادمة، والتي لا يحسب لها قادة الحرب أي حساب!
وبالقدر الذي يوجِب توجيه اللهجة الشديدة لـ"التحالف"، بدولتيه الفاعلتين في مأساتنا، وتحميله المسؤولية عن مراوحة هذه الحرب مكانها وعودتها بين وقت وآخر إلى نقطة الصفر، تقع مسؤولية مضاعفة على جماعة أنصار الله (الحوثيين)، في تحكيم لغة العقل والمنطق، وترك لغة الاستقواء بالسلاح واستعراض القدرة على تصنيعه، بينما تخيم كل أسباب الموت فوق رؤوس اليمنيين. إن البندقية قد تعطيك مساحة من الأرض، لكنها لن تمنحك مشروعية حكم الناس ضدًّا على مصالحهم، والسيطرة على حياتهم وتغيير ثقافتهم.
منذ أشهر طويلة، والدعوات المحلية والدولية لإيقاف الحرب في مأرب لا تتوقف، بالرغم من كلفتها العالية على المدنيين، وحتى على المقاتلين الذين تلتهمهم جبهات القتال، مُفرِّغةً المجتمع من أفراده الأشداء وغالبيتهم من الشباب. وإلى ذلك، يجب ألَّا يغفل قادة الحرب عن حقيقة أنه لا يمكن لِلَونٍ سياسي أو فكري واحد التغولُ على دولة اليمنيين الضامنة لانتظام حياتهم بكل التنوع الذي هي عليه، ثم إن الشجاعة الحقيقية وروح التضحية التي يرتجيها اليمنيون، تكمن في مقدرة القادة على إيقاف هذه الحرب، لا على إشعالها.
والآن، والبلد يتهيأ لموجة جديدة من العنف والصراع، تبقى هناك فرصة داخل هذا الشتات؛ فرصة أن يصبح هذا البلد الممزق والحزين، ملكًا لجميع مواطنيه، من خلال إرساء عَقْدٍ اجتماعي يضمن حقوقهم، ولا يسمح بالاستئثار الأحادي بثروته وسلطته، فرصة لإعادة الاعتبار للروح الوطنية المهدورة، وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح.