يكرس العالم بصورته المؤنسنة تقليدًا سنويًّا، يحتفي فيه باليوم العالمي للتعليم. ولعل الحق والواقع يفرضان أن نتعاطى مع الحق بالاحتفاء بمراعاة بعض الحقائق التي تساعد على فهم وتفسير تفاعل أي دولة، أو دول معينة، مع هذا اليوم، على قاعدة النظر للتعليم، كحق وواجب.
ولعل من أهم تلك الحقائق أن نفرق بين دول امتلكت فلسفات تربوية تعليمية، (بعضها يمتد عمر تجربتها لأكثر من قرن)، كفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا واليابان وغيرها، وبين بعض آخر تتوزع دوله بين المتقدمة، كالصين وروسيا، والنامية، كسنغافورة وماليزيا والهند... إلخ، ويجمع بينها جميعًا أن كلًّا منها أدركت أهمية التعليم بصوره ومستوياته المختلفة، والسعي الدائم لتجويده، وذلك لعظم تأثيره على صعيد تنقية ثقافة المجتمع من الشوائب التي تعلق بها نتيجة تأثرها السلبي بالثقافات الأخرى، سواء عبر مفردات اللغة، أو العادات، أو القيم، حتى تصبح جزءًا من بنيانها وتكوينها وأدواتها، أو على مستوى تحقيق التنمية المستهدفة في مختلف مجالات الحياة، أو على مستوى توطين المعرفة وإنتاجها والقدرة على تحقيق السبق والتفوق فيما ينجز من أدواتها، بما يعكسه ذلك من فرص الرخاء من جهة، وبما تتيحه من إمكانات تعزيز الأمن القومي من جهة ثانية.
في عصر فرض فيه الانفجار المعرفي وثورات التكنولوجيا وتقنيات الاتصالات، تجاوز بعض قواعد وعوامل تحصين الأمن القومي التي كانت سائدة، وأوجبت قواعد وبدلت عوامل أخرى لضمان الأمن القومي عبر بوابة توطين المعرفة وإنتاجها والتنافس في سباق محموم لتعزيز التفوق وتأمين السلامة، أو على مستوى تأهيل الناشئة بمتطلبات تحقيق الرضا الذاتي، والمساعدة على اكتشاف الذات وتنمية أفضل ما لديه للمشاركة في الإنتاج، وتسهيل الاندماج الاجتماعي، وتمكينه من احتلال المكانة المناسبة المبنية على دوره، وبتمكينه من امتلاك عوامل وأسس المنافسة مع غيره، وطنيًّا وخارجيًّا.
ولذلك فإن احتفاء هذه الدول يغدو منطقيًّا ومبررًا؛ لأن كلًّا منها ترى في احتفائها ذاك إعلانًا لتميزها من جانب، ومن جانب آخر، تأكيدًا لالتزامها بواجباتها التي تتخذ من الوفاء بها مبررات للبقاء والاستمرار المبني على القناعة بجدوى النظام السياسي القائم، والعمل على حمايته واستمراره بضمان توسيع قاعدة الحاضن الاجتماعي المالك لهذا النظام بمؤسساته المختلفة، وبالدور المخطط لمكونات المجتمع السياسي لتحقيق الشراكة فيه.
كما أن هذه الدول، وهي تؤكد على حيوية دورها المعرفي والحضاري، تعيش حالة تنافس، ليس على مستوى تجويد الفلسفة بصورتها العامة –فتلك من المسلّمات– بل على مستوى كل مادة على حدة، وأصبحت جودة ما يقدم للمستهدفين في إطار مكونات منهج مادة ما، من أهداف ومحتوى وأنشطة وأساليب تقويم، قادرة على تحقيق الأهداف الخاصة والعامة الممكنة من تحقيق مقاصد وغايات فلسفة التعليم من جهة، والقادرة على تمكين ما لا يقل عن 10% من المستهدَفين من تحقيق تفوق فيها. وتشمل هذه المواد: الرياضيات، والعلوم الطبيعية، كما تضيف كل دولة منها ما يهمها من مواد للحفاظ على هوية المجتمع وثقافته التي يجب أن تكون قادرة على التعامل الإيجابي مع الثقافات الأخرى تأثرًا وتأثيرًا في عالم ثقافات القرية الكونية التي باتت كل دولة فيها تسعى لبسط سيادتها وسيطرتها بزيادة تأثيرها على ما عداها من ثقافات.
يحدث هذا منذ أن غدت الثقافة بوابة ووسيلة من وسائل السيطرة الاقتصادية، وغدا الاقتصاد بمنجزاته المختلفة مصدر إثراء للثقافة وقوة إسناد لفاعليتها وسيادتها وقدرتها على التأثير في ثقافة الآخرين، حتى إن العديد من علماء الاجتماع والاقتصاد في الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ عقود، راحوا يحرضون الإدارة الأمريكية على تعزيز نفوذ وسيطرة الثقافة الاستهلاكية على أطفال العالم باعتبارهم رجال المستقبل في بلدانهم، والمصلحة تقتضي بدء السيطرة عليهم من الآن بتمكين الثقافة الأمريكية من العمل على تشكيل عاداتهم ووجدانهم وخياراتهم.
كمثال على التنافس عبر التعليم، ما نلمسه اليوم من صراع شرس بين الصين والولايات المتحدة حول إطلاق تقنية "الفايف جي" ومجالات تطبيقاته المختلفة، وتأثير ذلك على الاقتصاد والثقافة والأمن القومي وغيرها
وبالتالي تصبح مواد اللغة الوطنية مع مواد أخرى، كالتاريخ والتربيات الوطنية والاجتماعية والدينية، مسهمة في تحقيق التوازن والفاعلية المطلوبة للثقافة الاجتماعية السائدة.
كما غدا التنافس على مستوى امتلاك قواعد التعليم الحواري الفاعلة، في أنساقه المتعددة (عن قرب، عن بعد، التعليم المفتوح، والتفاعلي)، وكذلك على طرق التدريس، وأساليب التقويم، وحول نوع المدرّس المناسب، وحول أهمية إعداد المناهج على قواعد تراعي حاجة المستهدَفين، وقدراتهم، وخبراتهم، ومراحل وخصائص نموهم العقلية والنفسية والجسمية والوجدانية، وهل ذلك أجدى أم باعتماد مساقات محددة لكل مادة وترك الفرصة للمتلقّي (محور العملية التعليمية والتربوية) يتعلم تحت إرشاد معلّم معدّ لقيادة عمليات تربوية وتعليمية ديمقراطية، يتشارك في قيادتها مع المتلقي نفسه، مع ربطها بالبيئة المحلية والوطنية.
كما شمل هذا التنافس المدى الممكن استيعابه من ثورات التكنولوجيا وتقنيات الاتصالات والمعلومات المرتكزة على حاجة الدولة لتعزيز قدرتها على التفوق والتميز. وكمثال على ذلك، ما نلمسه اليوم من صراع شرس بين الصين والولايات المتحدة حول إطلاق تقنية "الـ5 جي" ومجالات تطبيقاته المختلفة، وتأثير ذلك على الاقتصاد والثقافة والأمن القومي وغيرها، حتى بتنا نقترب حينًا، ونبتعد حينًا آخر من صراع عسكري وحصار وعقوبات، نشاهد وسائله في البر والبحر والجو وحتى الفضاء. (فما بالنا بعالم الـ6 جي، الذي تؤكد الصين امتلاك ناصيته)، كما أن من تلك الحقائق أن تلك المجتمعات ما كان لها أن تنتج فلسفاتها التربوية والتعليمية بدون توافق مجتمعي، تقره قواه السياسية والمدنية، والقوى المكونة لتركيبته الاجتماعية بكل ما فيها من تباينات (عرقية ودينية ومذهبية أينما وجدت)، وبأن يتاح المجال لبقائها وتفاعلها مع البيئة المحيطة بها، شريطة عدم تقديم مصالحها على مصالح المجتمع الوطني، وأن تعيد تموضع أي ولاء أو مصالح لتكون تالية ولا تتقدم على الولاء للوطن والمجتمع، أو أن تسعى لتحقيق مصالحها بالإضرار بمصالح غيرها، أو أن تغلّب ثقافتها الإثنية أو الخاصة على الثقافة الوطنية.
وبمعنى آخر، خصوصيات المجتمعات الأصغر، لها أن تنشئ أجيالها بما يحافظ على خصوصياتها الدينية واللغوية أو، مع مراعاة عدم تجاوزها لخصوصيات الآخرين، أو التقليل من شأنها، أو للخصائص العامة المميزة للمجتمع الوطني؛ لأن ذلك يحكمه الدستور والقوانين النافذة التي لا تتوانى عن التصدي الحازم لأي خرق أو إساءة لثقافة المواطنة المتساوية. (وتلك ثابتة في ماليزيا، وسنغافورة، والصين، والهند، كأمثلة).
كما تبرز أمثلة أخرى مشابهة في أفريقيا، حيث لم يكن متوقعًا أن صراعًا داميًا أجهز على حياة ما يقارب 800 ألف نسمة من قبيلتي التوتسي والهيتو في راوندا، يمكن لهم أن يتناسوا ما خلفته الحرب ببشاعتها تلك في سنوات قليلة، وأن تتوافق إراداتهم الغائرة الجروح، ليبنوا دولة ونظامًا سياسيًّا على أنقاض رماد الحقد والرغبة بالثأر، نظامًا يمكّنهم من ردم هوة التخلف، ويضعهم على الطريق السريع للتنمية الشاملة المستدامة، ويضع بلادهم في مقدمة الدول الأفريقية من حيث معدلات النمو، لولا اهتمامهم بالتعليم وتوطين المعرفة والعمل على إنتاجها أيضًا.
وحقيقة أخرى تتجلى في أن التنافس بين تلك الدول على توطين المعرفة وإنتاجها، لم يكن ليتحقق لولا ضمان وجود بيئات حاضنة تتسع دومًا لاستقبال ورعاية كل جديد، وتكفل وجود إمكانيات البحث العلمي (وكل دولة بحسب اهتماماتها)، كما تعيد ترتيب أولوياتها وعلاقاتها وفقًا لاهتماماتها تلك؛ لأن نتائج ذلك تمس مستوى المعيشة وتؤثر فيه، وتؤثر على مستوى النمو السنوي أيضًا، كما أنها تفتح أبوابًا جديدة للأمل في المستقبل، وتعزز عوامل الثقة بالقدرة على تحقيق شراكة إيجابية في بناء الحضارة الإنسانية، وتسهم بتعزيز عوامل الأمن القومي، وخاصة عبر ما تحققه من قدرات في مجال الأمن السبراني، سواء بتحصين برامجها الوطنية، أو باختراق برامج غيرها والعمل على إفشالها وإرباكها كضرورات حرب استباقية. وبات نجاح وتفوق ما ينجز معرفيًّا يقاس بنسب التنمية المحققة، وبالتالي غدت الصين (مثلًا) أولى تلك الدول بتحقيق أعلى معدلات نمو تراوحت بين 6 و9% سنويًّا، بالرغم من التحديات الناتجة عن زيادة السكان، وحداثة التنمية، قياسًا على غيرها، والمزاوجة بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، بالإضافة إلى تحديات خارجية في مقدمتها صراع اقتصادي ضروس مع الولايات المتحدة، وما يعكسه ذلك من تحديات أمنية كثيرة، وإثارة قلاقل وفتن داخلية و... إلخ. ومع ذلك تمكنت في العام 2015، من تسجيل أكثر من ثمانين ألف براءة اختراع، وها هي أخيرًا (بحسب ما ورد في خطاب رئيسها بمناسبة حلول العام 2021)، حيث أشار إلى نجاح الصين في تحقيق نجاح موصوف في مواجهة وباء كورونا وتجاوز آثاره السلبية على الاقتصاد، وتحقيق استكشافات علمية من خلال المسبار "تيان ون 1"، والمسبار "تشانغ آه 5" والغواصة "فن دوتشه"، وجميعها -كما قال- حققت اختراقات مهمة. كما أن العام 2027، سيشهد احتلال الصين المركز الاقتصادي الأول في العالم.
في الوقت الذي تنظر فيه بعض الدول التي عانت من الاستعمار أو الحصار والتبعية، بقدر من التعاطف إزاء حق الحصول عليه للجميع مجودًا، نجد أخرى -وخاصة من شاركت في ممارسة الاستعمار بمختلف صوره ومستوياته- تقر به كحق أيضاً، ولكنها تسعى لتدجينه لدى الآخرين
ويبقى القول من جهة ثانية بأن هذه الدول، وهي تحتفي بالتعليم، سواء بمناسبته السنوية في 24 يناير/ كانون الثاني من كل عام، أو بالتأكيد على أهميته عملانيًّا مع كل فتح معرفي أو إنجاز، تتباين بنظرتها لأهمية التعليم كحق إنساني يجب كفالته. إذ في الوقت الذي تنظر فيه بعض الدول التي عانت من الاستعمار أو الحصار والتبعية، بقدر من التعاطف إزاء حق الحصول عليه للجميع مجودًا، نجد أخرى -وخاصة من شاركت في ممارسة الاستعمار بمختلف صوره ومستوياته- تقر به كحق أيضاً، ولكنها تسعى لتدجينه لدى الآخرين. وهي تفعل ذلك إما خدمة لمصالحها التنافسية عبر وسائل شتى في مقدمتها (إغراء المبدعين للهجرة إليها لاستثمار جهودهم وخبراتهم وإمكاناتهم من جهة، وحرمانًا لمجتمعاتهم من جهة ثانية، ومنعًا لدول منافسة أخرى من استقطابهم من جهة ثالثة، أو تسعى إلى قتلهم أو تدميرهم معنويًّا، كما حدث في العراق ومصر وإيران مؤخراً)، وإما للمزاوجة بين مصالحها من جهة، ونزولًا عند ولاءات تفرضها الشركات العابرة للقارات والحدود بما يخدم مصالح القوى النيو ليبرالية والصهيونية الساعية لتحقيق أهداف شتى، ومنها إبقاء هذه المجتمعات عاجزة عن استثمار إمكاناتها وقدراتها، فتبقى متخلفة مجزأّة ومخترقة الثقافات ليسهل على هذه القوى إعادة صياغة أي مجتمع عاجز، بما يخدم مصالحها وأهدافها، سواء بنهب خيرات الشعوب والأمم المتخلفة، أو بإبقائها سوقًا استهلاكية لمنتجاتها وغير ذلك.
ويبقى من نافلة القول التأكيد على أن هذه الدول، بمختلف نماذجها وتباين تجاربها المحكومة بفلسفاتها، قد وفرت أسباب تحقيق التعليم المجوّد، ومن أهمها:
وجميع ما تقدم يؤكد على أن هذه الدول والأنظمة أدركت قيمة الإنسان، فأعلته دونما حاجة حتى لتمثُّل قيم الأديان الداعية لذلك، ولا غرابة في الأمر؛ لأنها أدركت بأن الإنسان وسيلة التنمية وغايتها، من منطلق أن السعي أو الحديث عن التنمية بدون جهود وخبرات وقدرات وإمكانات الإنسان، هو سعي وحديث في الفراغ، وبالتالي لا يمكن تحقّقها. كما أن التنمية بمختلف صورها ومستوياتها لا بد أن تعود على الإنسان بمكاسبَ يسعد بها ليحيا حياة أفضل.
وإلى ذلك، فإن الدول التي أدركت أهمية التعليم، تعلم يقينًا بأن الإنسان (المجتمع) هو من يملك السلطة، ويعين عليها من يريد، ويعزله منها متى ما يريد، وأن من يمارس الحكم يجب عليه أن يحترم إرادة المجتمع؛ لأن شرعية بقائه في الحكم مرهون برضا المجتمع، وأنه يتقاضى أجره مقابل أدائه لمهام تعهد القيام بها، وبذلك فمن يملك يحق له التصرف بما تحت يده، وفقًا لإرادته وما تقتضيه مصالحه بما في ذلك من يستخدمهم أيضًا، وبالتالي فلا يجوز لمستخدم أن يتنكر لمصالح وإرادة سيده.
ثم إن من تستخدمهم الأنظمة السياسية، يدركون بوعي وقناعة بأن بقاءهم في السلطة مؤقت ومرهون برضا المجتمع عما ينتجون بنزاهة، وبذلك تتحدد المكانة الاجتماعية لكل منهم، وهم في الحالين يخدمون أنفسهم وأهليهم، وتلك مهمة تقتضي الحرص على اكتساب القبول الاجتماعي أيضًا.
وهم، كأفراد ومكونات سياسية، لا يقبلون ابتسار حقوقهم أو مصادرتها، ولذلك عليهم أن يحترموا ويصونوا حقوق المجتمع، وعليهم أن يعملوا على تأهيل الأجيال والقوى الاجتماعية بشكل عام، ليشكلوا الحاضن الاجتماعي للنظام السياسي القائم ليضمنوا بقاءه، وأن تحقيق هذا الهدف وغيره لن يتحقق بدون تأهيل مواطن مستنير يدرك حقوقه ولا يقبل مصادرتها أو الانتقاص منها، وعليه واجبات لا بد أن يؤديها طواعية وبأفضل مستوى وصورة، كما يتمتع بتأهيل كافٍ يمكّنه من التعامل مع دوره في الحاضر والمستقبل؛ لأنه لا كرامة لجائع ولا حرية لأميٍّ، وكل ذلك يقتضي حسن التأهيل والتدريب. فالنصر عمل، والعمل حركة، والحركة فكر، والفكر فهم وإيمان، وهكذا فكل شيء بدأ بالإنسان.
ومن الحقائق التي يجسدها الواقع، للوقوف على حق اهتمام الدول المتخلفة باليوم العالمي للتعليم، (وهي هنا أكثر من أن تحصى، واليمن واحدة منها)، أن هذه الدول لا تمتلك حجة مشروعة للادعاء بالاهتمام، لا بالمناسبة ولا بالموضوع ذاته (التعليم)، وهذا أمر يقتضي الإفاضة فيه بمقدار مظلومية الأجيال المنتهَكَة الحقوق، وفي مقدمتها حق التعليم المجوّد، ومأساوية ما يصيب الثقافة الوطنية من جمود وشلل، ورِدّة بائسة تعمل معاولها الهدامة للنيل من محاولات تنوير وتنقية امتدت لأكثر من خمسين عامًا مضى.
برغم وضوح النصوص الدينية الحاضّة على الحق بالحياة وحرية الاختيار والمساواة، لا يزال بيننا من يدعي احتكار حق فهم الدين وتفسيره، والحكم، بالبناء عليه، بتكفير الآخر إن لم يكن معه، وفق علاقة الولاء والبراء، أو يدعي حق الاصطفاء ووراثة الولاية
ولو أردنا إبراز أهم ملامح التجربة الوطنية -إن لم أقل التجارب- لتطلب الأمر مساحة أكبر بكثير، وذلك ما لا تتيحه الفرصة والمناسبة. ومع ذلك يمكن القول بأن هذا النموذج من الدول، واليمن إحداها، إن أرادت على الصعيد الرسمي الاحتفاء بهذه المناسبة، ففيه استمراء للغيّ، وإصرار على تزييف الوعي، وتنكيل بالحق في التعليم المجوّد، وإنكار لحق أفراد المجتمع فيه، وتحايل على قيم الدين الحنيف المؤكِّدة على حق الحياة والحرية والكرامة والمساواة.
إذ من الحقائق الدامغة، التي تنزع هذا الحق عن النظام السياسي القائم وما سبقه أيضًا، أنه من حيث يدري ويعي كان يكرس:
بعد مضي 60 سنة على قيام ثورة سبتمبر 1962، لا يزال 63% من المعلمين العاملين في الميدان من حملة الشهادة الإعدادية أو الثانوية أو من خريجي المعاهد الدينية والأولية للمعلمين، وأكثر من 36% من المدراء أميون وبلا تدريب، و40% فقط من التلاميذ يلتحقون بالمدارس الثانوية، وأقل منهم بكثير يلتحقون بالتعليم الجامعي
وبناء على ما تقدم وغيره، فهي لا تتيح مجالًا ولا فرصة لوجود تعليم محكم ومجوّد؛ لأن ذلك يلغي مبررات بقائها كقوى ذات مصالح خاصة تتصادم مع مصالح المجتمع.
3- لم تكتفِ بما يعتور التعليم من تشوهات، كما لا تزال تصر على تقديم خدمات تعليمية مشوهة، ثم تصر على التنكيل به عبر ممارسات لا إنسانية لتجني مزيدًا من التمكين كما تعتقد، وهو اعتقاد مفرغ من كل القيم الدينية والإنسانية والوطنية، ومن تلك الممارسات:
أ – تسييس الوظائف التعليمية والتربوية وفقًا لمصالحها، وعلى حساب حيادية الوظائف المفترضة. ولذلك ووفقًا لكتب الإحصاء التربوي، وبحسب أ.د. أحمد الحاج، وبعد مضي أكثر من نصف قرن على قيام ثورة سبتمبر 1962، لا يزال هناك 63% من المعلمين العاملين في الميدان هم من حملة الشهادة الإعدادية أو الثانوية أو من خريجي المعاهد الدينية والأولية للمعلمين، وأن أكثر من 36% من المدراء أميون ولا تدريب لهم، بالإضافة إلى أنهم مع كثير غيرهم لهم ارتباط بالأجهزة الأمنية، وهناك آلاف من المعلمين الوهميين، وأن 40% من التلاميذ فقط يلتحقون بالمدارس الثانوية، وأن أقل منهم بكثير يلتحقون بالتعليم العالي (الجامعي)، الذي ما زال أغلب خريجيه من خريجي الكليات النظرية، ولا فرص عمل لهم، إلا فيما ندر وبعيدًا عن تخصصاتهم. كما إن خريجي كليات التربية -على كثرتهم وكثرتها- لا تزال سياسة القبول البائسة وبرامج إعدادهم تؤثر في جدوى تأهيلهم، ثم إنهم يتحولون إلى قطاع البطالة، ولا تتاح لهم فرصة العمل كبدائل (وفق قاعدة الفرص المتكافئة).
ب– بالرغم من ادعاء السلطة منذ عقود خلت بعملها على اعتماد تكنولوجيا التعليم، إلا أنها لم تنجز سوى تخصيص مبنى صغير رفعت على جوانبه يافطات كبيرة "القناة التعليمية"، التي اقتصرت إنجازاتها على تقديم بعض دروس من علوم مختلفة للشهادتين الأساسية والثانوية مع نهاية كل عام دراسي، عبر القناة الفضائية اليمنية، وباستخدام وسائل بدائية، وباعتماد الطريقة الإلقائية.
كما أن الوزارة عند حصولها على بضعة آلاف من أجهزة الكمبيوتر خلال سنوات مضت، أساءت توزيعها، فبدلًا من تأسيس معامل في بعض المدارس وتقرير إدخال بعض علوم متصلة بتشغيل الأجهزة وبعض التقنيات المرتبطة بالاستفادة من الشبكة العنكبوتية، وتوفير متطلبات التجهيز والتشغيل، قامت بإعادة توزيعها على بعض المدارس الخاصة المملوكة لبعض موظفي الوزارة أو من يديرونها، كما قامت بتوزيع جهاز أو اثنين -في الغالب- على بعض المدارس الحكومية وُظّفت في الأعمال الإدارية فقط، [للتأكد من صحة ذلك، يتم مراجعة العديد من كتب الإحصاء التربوي]، وكل ذلك لا يمت بصلة للتعليم التكنولوجي.
وفي مجال التدريب، وبالاستفادة من بعض الهبات الخارجية، أقدمت الوزارة على تدريب عشرات المدربين وبضع مئات من معلمي أمانة العاصمة صنعاء تدربوا على تشغيل وإدارة أجهزة الكمبيوتر في مستواه الأول، في الوقت الذي يبلغ فيه موظفو الوزارة أكثر من 300 ألف موظف وموظفة، وبينهم ما لا يقل عن 200 ألف معلم ومعلمة يعملون في الميدان.
ج – ما زالت الوزارة تكرس نظرية التعليم من الكلي إلى الجزئي (وهي نظرية حديثة، ولكنها لم توفر لها البيئة التحتية اللازمة من الحضانات ورياض الأطفال ومتطلباتهما)، فأصبحت سببًا لإعاقات مضافة أسهمت بتنامي ظاهرة التسرب المدرسي.
د – ما زالت الوزارة تكرس النظرية البنكية في التعليم بدلًا من التعليم الحواري، وهي نظرية لا تساعد على تقديم ما يحتاجه المتعلم في حياته في أغلب الأحيان، ولا تكشف عن قدرات وميول الناشئة. في الوقت الذي أضحت فيه كثير من الدول تعتمد التعليم الحواري القائم على تقديم ما يحتاجه المستهدف، ويساعده على تحقيق النمو الديمقراطي، وتعزيز القناعة لديه بأنه يستطيع تغيير العالم (بحسب باولو فرايري في كتابه "تعليم المقهورين")، كما يرتكز على قاعدة اعتبار المستهدف محور العملية التعليمية والتربوية، وإثارة الدافعية لديه للتعلم، ومشاركته في قيادة وتوجيه عمليات التعليم والتعلم مع تمكينه من الاستفادة مما يتعلم في حياته، ومنها عبر الأنشطة المصاحبة- أساسًا لا ينبغي تجاوزه.
ه– لا يزال المعلمون والمعلمات والموجهون والمدراء، يعانون من أمية في اللغات الأجنبية ومن الأمية التقنية، مع قصور معرفي، خاصة في مجال التخصص، وذلك ما يجعلهم عاجزين عن التعامل مع قواعد التعليم التكنولوجي، إن وجد.
و– هذه السلطات لم تهتم بما يعانيه المجتمع بأجياله المتعاقبة من التأثيرات السلبية للثقافات الوافدة عبر مختلف الوسائل والوسائط في العالم الافتراضي والشبكة العنكبوتية والفضائيات. بل إنها تتجاهل -إن لم أقل تتواطأ- مع ما تفرضه بعض المنظمات والجهات المانحة عبر برامجها التدريبية، وتصر على شطب مواضيع ذات صلة بالهوية العقائدية والوطنية والقومية، وبالصراع مع العدو الصهيوني (على سبيل المثال). ومنها ما عشته شخصيًّا (كعضو فريق إعداد دليل تدريب معلمات الريف لمادة التربية الوطنية في العام 2013). حيث أصرت منظمة (جي.تي.زد) الألمانية على شطب موضوعي "الوحدة العربية، وقضية فلسطين" من الدليل، ورفضنا ذلك، ومورست علينا ضغوط من مسؤولين كبار في الوزارة لشطبهما. ولأننا رفضنا الخضوع للضغوط وهددنا بعدم استكمال إعداد أدلة التدريب، اضطر الجميع لاحترام إرادتنا والقبول بأفكارنا. (لم أقصد هنا إلا بيان مدى تجاهل أو تواطؤ الجهات المسؤولة وسكوتها عما يضر بحماية الثقافة الوطنية، وانعكاس ذلك على مستوى وعي المستهدفين والمستهدفات، وإعادة تشكيل وجدانهم، وتأثير ذلك على معتقدات وخيارات وميول ووجدان الناشئة). (في وقت تتدخل فيه السلطات الفرنسية لتخفيض عدد الأفلام الأمريكية المعروضة في فرنسا بنسبة 30% خشية تأثيرها على الثقافة الفرنسية!).
4- سعيها لإعادة توظيف ما يكرس في التنشئة الاجتماعية، عبر مؤسسات التعليم والإعلام والأوقاف و...إلخ، لخدمة أهداف خاصة (لا تمت للمصلحة الوطنية بصلة)، وذلك ما يتجلى حتى اليوم في اصطفافات تمارس التكفير والتخوين والشيطنة للآخر المختلف، بل وتؤذيه ماديًّا ومعنويًّا، لدرجة تصل حتى إلى القتل إن اقتضى الأمر، كما تمنعه من التعبير عن الرأي، وحتى المجاهرة بالوجع، فأضحى من يطالب بمرتبه خائنًا ومتآمرًا و...إلخ. وكل ذلك فوق أنه طوال العقود الماضية منذ ثورة سبتمبر 1962، وما تلاها لم يورث للمجتمع سوى خسائر مركبة في الأرواح والإمكانات والقدرات والخبرات وفي الزمن المهدر وفي مزيد من الإعاقات للثقافة الاجتماعية، فإنها أفادت في المقلب الآخر أعداء المجتمع والأمة. وبات استمرار هذه الممارسات يمثل خدمات مجانية تصب في مجرى التطبيع، وتضر بعقيدة المجتمع والأمة ووعيهما وقدرتهما على استعادة الإرادة المخطوفة، ولا تمكِّن من وقف إهدار الخيرات ونهبها.
منذ سبتمبر/ أيلول 2014، برزت مهزلة جديدة ذات صلة بما سبق. وتمثلت بالتوجيه السنوي لنائب وزير التربية بضرورة منح شهادات نجاح (أساسية وثانوية) لمن تشملهم كشوفات ترفق بالتوجيه بدعوى وجودهم في جبهات القتال التي تحول دون مشاركتهم في الامتحانات، وبنسب تتراوح بين 75 و90%، بالرغم من التأثيرات الكارثية لذلك
5- سمحت هذه السلطات بوجود مؤسسات رسمية ومدنية وأفرغتها من مبررات وجودها، ومنها على سبيل المثال:
أ– مركز البحوث التربوية، إذ بالرغم من عمره الممتد لأكثر من خمسين عامًا، إلا أنه ظل أسير توظيفه، بحسب مصالح القوى المسيطرة على النظام السياسي، وفي ثناياها قوى تحمل أجندات تضر بالمصلحة الوطنية، وتسعى لإعادة بعث أنظمة حكم باتت في متحف التاريخ، وظلت تحول دون تمكينه من وظائفه الحقيقية، وفي مقدمتها تحديث المناهج وتجريبها، وتقييم جدواها وإمكانيات استمرارها في ظل استمرار غياب وجود فلسفة للتعليم، وكذلك بالتنسيق مع نقابات المعلمين، بحيث يُهتَم بإعداد برامج التدريب المناسبة لرفع كفاءة المعلمين في سلك التعليم وغير ذلك.
ب– نقابات المعلمين –بلغت خمس نقابات– مُكِّنت نقابتان من اقتسام المصالح والمنافع، وتتبعان حزبا المؤتمر والإصلاح. واستقطعتا إجباريًّا الاشتراكات من العاملين في قطاع التربية والتعليم، وأضحت قيادتهما عبارة عن مجموعة مصالح تخضع لجهات أمنية في الغالب، ولم تهتما بمصالح المعلمين والدفاع عنها، وإن حدث ذلك في حالات متقطعة، فتتم بتوظيف سياسي مؤقت، ولم تمارس أيٌّ من النقابتين دورها في رفع مستوى العمليات التعليمية والتربوية، سواءً على صعيد فلسفة التعليم، أو على صعيد المساهمة بتحديد سياسات القبول في كليات التربية، أو في التدريب أثناء الخدمة، أو بلعب دور في تمكينها من وضع معايير لاختيار المعلمين للعمل في سلك التدريس، وفي تقييم الأداء و...إلخ.
ج – وجود مبانٍ تسمى جامعات، وأخرى معاهد ومراكز أبحاث. ولكن حيل بينها وبين إنتاج برامج الإعداد والتأهيل المناسبين لتخريج الشباب القادر على تلبية احتياجات سوق العمل وللإسهام في الإنتاج. كما منعت، وما زالت، منحَ مراكز البحوث ما يمكنها من تأسيس بنوك المعلومات اللازمة، وما يترتب عليها من وضع خطط وبرامج تتناسب مع متطلبات التنمية المفترضة والحاجة لتوطين المعرفة وإنتاجها، ولم توفر لها الميزانيات الكفيلة بتلبية احتياجاتها البحثية، أو حتى بأجور العاملين. (رصدت الحكومة لجامعة صنعاء في 2008، ميزانية للبحوث مبلغ خمسين ألف ريال؟)، كما لم تتوسع بتأهيل من لم يتمكنوا من الالتحاق بالتعليم الثانوي أو الجامعي بالمعاهد الفنية والعالية.
6- تلهت عن مواجهة ظواهر سلبية كثيرة، ومنها الحاجة لمكافحة الأمية (بالمناسبة 8 يناير/ كانون الثاني من كل عام هو اليوم العربي لمحو الأمية؟ ولا تعليق!)، والتسرب الدراسي، وأطفال الشوارع وتشغيلهم، ودونية النظرة للمرأة وحقوقها في التعليم والمشاركة في شتى مجالات الإنتاج وحقها في الميراث وحقها في الزواج والإنجاب، وظواهر الفساد والثأر، وازدواجية الولاء لدى البعض بتقديم الولاء للكيانات الاجتماعية الأصغر على الولاء الوطني وغيرها من الظواهر التي لا تزال تشكل عوائق خطيرة سواء أمام التنمية الشاملة المتوازنة، أو أمام الحق بالمساواة والعدل والشراكة في السلطة والثروة، أو حتى أمام الحق في الحياة الحرة الكريمة.
7- استمرأت:
أ– استشراء ظاهرة الغش حتى كاد أن يكون مقننًا، وهي ظاهرة ندرك جميعًا مخاطر استمرارها، وخاصة مع بقاء ما يكرس من سياسات تعليمية تربوية (مشوهة). بل إنها كانت وما زالت تتدخل في نتائج التقويم المتبعة على مساوئها (امتحانات الشهادات العامة)، وتحرص على تسييس نسب النجاح، كما تصر على تحديد المراكز الأولى العشرة لتشمل كل محافظات الجمهورية (دونما اهتمام بمعايير الاستحقاق).
ب– منذ سبتمبر/ أيلول 2014، برزت مهزلة جديدة ذات صلة بما سبق. وتمثلت بالتوجيه السنوي لنائب وزير التربية بضرورة منح شهادات نجاح (أساسية وثانوية) لمن تشملهم كشوفات ترفق بالتوجيه بدعوى وجودهم في جبهات القتال التي تحول دون مشاركتهم في الامتحانات، وبنسب تتراوح بين 75 و90%، بالرغم من التأثيرات الكارثية لذلك، سواء بإلحاقهم في المؤسسات العسكرية أو بتنسيبهم في الجامعات (ولذلك حديث يطول).
8- إصرار السلطات المتعاقبة على عدم تطبيق مبدأ إلزامية ومجانية التعليم بالرغم من الادعاء بأن ذلك كان مطبقًا في عهود ما قبل ثورة سبتمبر 62، وبالرغم من القوانين النافذة ودستور دولة الوحدة، ومن بعض شروط الهبات والمنح التي تقدم تحت هذا المبرر كالأغذية المدرسية، وجميعها تؤكد على أهمية تطبيق ذلك.
الحديث لا ينتهي، والوجع يجبر على الخروج عن الصمت، ولكن هل ما تقدم يكفي لدحض حق السلطات بالاحتفاء باليوم العالمي للتعليم؟ (أوقن بذلك).
أفما آن الأوان لأن يتوافق الجميع على إزراء وتجريم استمرار تأهيل وتنشئة أجيالنا وفقًا لما سبق؟ وأن ندرك جميعًا حجم الجرم المقترف بحق المجتمع وأجياله، وأن نرعوي ونثوب إلى الرشد وننتج فلسفتنا التربوية التعليمية الوطنية، وأن يتوافق الجميع على صيانتها من الاستغلال السياسي مع تحييد الوظائف التربوية. أما الحديث عن التفاصيل المهمة المتعلقة بها، فلذلك تناولة أخرى.