مع مرور سنوات الحرب في اليمن، برزت، وبقوة، معاناةُ المعلمين جراء الظروف المعيشية والاقتصادية الصعبة؛ بسبب انقطاع المرتبات وانحسار سعر العملة، مضافًا إليهما حالة التهميش التي يعانون منها من الجهات الرسمية والحواضن المجتمعية.
معاناة المعلمين أصبحت حديث الشارع التربوي والمجتمعي في عموم اليمن، حتى وصل صداها إلى مسامع الطلاب المهتمين بدراسة التخصصات التربوية، حيث أصبح هذا الحديث مثل جرس إنذار يحذرهم من المستقبل التعيس الذي ينتظرهم، إن اختاروا مثل هذا المسلك.
ما أفرزته سنوات الحرب من وضع معيشي مأساوي لكل الشرائح السكانية، بات المعلمون أكثر هذه الشرائح تضررًا منه، بسبب الرواتب الضئيلة التي يتقاضونها، والتي لا تفي بمتطلبات العيش لأفراد أُسرهم، في ظل غلاء فاحش في أسعار المواد الغذائية الأساسية، بالإضافة إلى المواد الاستهلاكية وكل مستلزمات الحياة، في نتيجة طبيعية للتدهور الذي تعانيه العملة المحلية (الريال اليمني)، التي باتت تفقد قيمتها الشرائية بشكل متسارع أمام العملات الأخرى التي يتم تداولها عبر محلات الصرافة والبنوك وبشكل شبه يومي، دون إيجاد السلطات الحكومية الحلولَ والمعالجات المناسبة لكبح هذا الانهيار غير الطبيعي.
مأساة المعلم في اليمن ألقت بظلالها على الطلاب الخريجين من الثانوية العامة المُقبلين على الدراسة الجامعية، ممن كانوا من قبلُ يطمحون لشغل وظيفة معلم، فالكثير منهم تخلَّى عن رغبته في الالتحاق بكليات التربية بتخصصاتها المختلفة (العلمية والنظرية)، خوفًا من ملاقاة المصير نفسه الذي يعيشه المعلمون اليوم، فاتجه بعضهم إلى تخصصات جامعية أخرى غير تربوية، وبعضهم عزف عن مواصلة التعليم الجامعي واتجه نحو سوق العمل ليغطي احتياجات أسرته، بينما التحق بعضهم الآخر بجبهات القتال للحصول على مرتبات تزيد على مرتب المعلم ومرتبات بعض موظفي القطاع المدني بأربعة أضعاف.
صعوبة معيشة وانعدام فرص توظيف
يتحدث مختصون في الشأن التربوي والتعليمي في اليمن، عن أسباب عزوف الطلاب عن التخصصات التربوية، حيث يؤكّد الأستاذ الدكتور رياض عبدالرحمن منقوش، عميد كلية التربية بجامعة سيئون في وادي حضرموت (شرقي البلاد)، أنّ الظروف المعيشية الصعبة وتدني رواتب المعلمين، أدّت إلى عزوف الطلبة عن التسجيل بكليات التربية ليس في حضرموت وحدها، بل في كل الجامعات اليمنية.
وأضاف الدكتور رياض منقوش، في تصريح خاص لـ"خيوط"، أنّ السنوات الأخيرة شهدت إقبالًا ضعيفًا لتخصصات كليات التربية، وعزوفَ الطلبة عنها، مشيرًا إلى أنّ الأسباب الجوهرية لذلك العزوف، هي الظروف المعيشية الصعبة التي تقاسيها أغلب الأُسر في ظل الحرب والأزمة التي تعيشها البلاد منذ سنوات، يتابع: "حيث أصبح الكثير من الأهالي غير قادرين على تحمل نفقات الدراسة وتكاليف المواصلات لأبنائهم وبناتهم"، لافتًا إلى أنّ كثيرًا من خريجي الثانوية العامة اتجهوا إلى العمل بدلًا من مواصلة الدراسة الجامعية.
واستطرد الدكتور منقوش بالقول: "بالإضافة إلى ذلك، فإن ضعف رواتب المعلمين بشكل عام، جعل الطلبة الجدد يشعرون بالإحباط، فهم يرون معاناةَ المعلمين وعدم كفاية رواتبهم؛ لهذا كثيرٌ منهم يصرفون النظر عن الالتحاق بكليات التربية، وأصبحت لديهم قناعة تامة بأن تخرجهم معلِّمين لن يوفر لهم حياة كريمة".
من الضروري أن تقوم الحكومة بالرفع من مكانة وشأن المعلمين، والاستجابة لمطالبهم برفع رواتبهم بما يتناسب مع الوضع المعيشي الحالي، بحيث تعوضهم الزيادة عما خسروه من قيمتها بسبب انهيار العملة، أو على الأقل صرف حافز لهم يتناسب مع الوضع المعيشي وغلاء الأسعار.
من جهته، يرى الدكتور غسان ناصر محمد عبادي، مدير عام الإعلام والعلاقات العامة بجامعة أبين، أنّ من أهم أسباب عزوف الطلاب عن التخصصات التربوية هو إيقاف عملية التوظيف في قطاع التربية والتعليم منذ بداية الحرب (2015)، أي منذ نحو عشر سنوات، فيصبح الطالب الخريج عاطلًا عن العمل، في ظل استمرار توقف التوظيف.
ويضيف الدكتور غسان عبادي، في تصريح خاص لـ"خيوط": "المعلم يجب عليه أن يكتب خطة تدريسية ويُحضّر الدرس بشكل يومي، ويعلِّم أعدادًا كبيرة من الطلاب، يصل عددهم إلى أكثر من مئة طالب في الغرفة الدراسية الواحدة، يشرح لهم ويُعدّ لهم اختبارات ويصححها، ويعد النتيجة... إلخ، وفي الأخير لا يُكافأ ولا تُقدّر جهوده من المجتمع ولا من الحكومة".
ويذكر الدكتور عبادي أنّ هناك أسبابًا أخرى، منها: أنّ الآباء يفضلون التحاق أبنائهم بالكليات المهنية، مثل كليات الطب والهندسة والحاسوب التي لها قَبول في سوق العمل، والتحاق معظم الطلاب الذكور بمعسكرات وألوية عسكرية يتقاضى فيها الجندي راتبه بالعملة الصعبة تعادل سبعة أضعاف راتب معلم.
من جانبه، يقول الأستاذ محمد حسين الدباء، مدير عام الإعلام التربوي بديوان وزارة التربية والتعليم، في حديث لــ "خيوط"، إن "هناك عدة أسباب لعزوف الطلاب عن التخصصات التربوية، من بينها ضعف المرتب الذي يتقاضاه المعلم، خاصة بعد الحرب، أو توقف المرتبات في 2011 عن الزيادة، بينما بقية القطاعات الأخرى مثل النفط والجيش بدأت رواتبهم ترتفع بما يقتضيه الوضع السياسي في البلاد".
ويضيف الدباء: "وهناك سبب آخر، وهو هشاشة مخرجات الثانوية العامة وضعفها، وهذا يقود إلى حالة من التسرب؛ أي إنّ الطلاب المتخرجين من الثانوية يفضلون الاتجاه إلى سوق العمل، وهو ما تسعى وزارة التربية والتعليم لمعالجته، ولكن ينبغي ألّا ننسى أن حالة الحرب تظل السببَ الأبرز في ذهاب أغلب الطلاب إلى جبهات القتال، خاصة أن مرتبات الجنود الملتحقين بالتشكيلات العسكرية مغرية جدًّا، حيث تساوي ثلاثة أو أربعة أضعاف دخل المعلم الحكومي".
تقسيم غير عادل بين القطاعات
ويرى الدكتور رياض منقوش أنّ من أهم الحلول لعزوف الطلاب عن الكليات التربوية، هي "ضرورة أن تقوم الحكومة بالرفع من مكانة وشأن المعلمين، والاستجابة لمطالبهم برفع رواتبهم بما يتناسب مع الوضع المعيشي الحالي، بحيث تعوضهم الزيادة عما خسروه من قيمة رواتبهم بسبب انهيار العملة، أو على الأقل صرف حافز لهم يتناسب مع الوضع المعيشي وغلاء الأسعار".
وحث منقوش في ختام حديثه لـ"خيوط"، الجهات الحكومية وغير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني، على "دعم الطلبة للالتحاق بكليات التربية، وصرف مساعدات مالية لهم لمواجهة التحديات المالية التي تمنعهم من مواصلة الدراسة".
بدوره، يقول الأستاذ محمد الدباء إن انتهاء الحرب وعودة البلاد إلى الوضع الطبيعي، وعودة التقسيم العادل في جميع القطاعات، من حيث المرتبات والحقوق، هي بكل تأكيد ستكون الحل لعودة الطلاب إلى الكليات التربوية.
ويضيف: "كذلك من الحلول التي قد ترفع معدل التحاق الطلاب بالكليات التربوية، إعطاء المعلمين حقوقهم من العلاوات، كون أغلب الطلاب كانوا يتجهون إلى كليات التربية؛ لأن راتب المعلم كان الأقوى، خاصة مع سريان قانون المعلم".
ويختتم الأستاذ الدباء بالقول: "هذه الأمور لو توقفت الحرب سوف تعالج كاملة؛ لأن هذه الأسباب هي نتوءات الحرب. باختصار، بإمكاننا أن نقول إنّ عزوف الطلاب عن الكليات التربوية هو بسبب الحرب أو الوضع السياسي ما بعد 2011".