الكثير من علماء الفيزياء والفيزياء النظرية يعتقدون، وربما يؤمنون، بوجود حياة على كوكب شبيه بالأرض؛ أبرزهم ألبرت أينشتاين الذي قال إنه "لا بد من وجود حياة أخرى في عدة أماكن في المجرة التي فيها ملايين النجوم والتي تحوي بدورها كواكب، ولا بد أن بعض الكواكب هنا وهناك صالح للحياة، وإلا فإنها معجزة أن تكون الأرض وحدها من تحوي حياة"!
ولا نجد أحدًا يفكر أو يدرك أو يعي كم هو مخيف ومرعب أن نكون نحن الوحيدون الأحياء في الكون، أن يكون كوكب الأرض الخطأ الوحيد، الغلطة الوحيدة، النقطة الوحيدة، بل ذرة الهباء الوحيدة الحاملة للحياة، وأن كل الامتداد حوله موات لا يكفّ عن الحركة والتوسع!
وحتى لو كان ثمة حياة وكائنات حية تواصلنا معها واتصلنا بها ووصلنا إليها، فإن ذلك سيتم بأخلاق الحشرات وغرائزها التي اكتسبناها وتعلمناها منها، واعتبرناها من قوانين الطبيعة والحياة، ومعظم أفلام الخيال العلمي عن كائنات فضائية ما هي إلّا تعبيرٌ عن ذلك، عن حشراتياتنا.
إن فكرة وجود حياة وكائنات حية، غبية أو أذكى من إنسان الأرض، يجب أن تظل مجرد فرضية لألف سنة قادمة، على الأقل، من عمر التطور العلمي للبشرية، والتي في غضون خمسين سنة ستتخلى عن كل المفاهيم المتعلقة بالإنسان. بل حتى التعريف القانوني للإنسان نفسه سيزول، لأن الميكرو والنانو تكنولوجيا ستكتسح جسده، بل ستنتقي جيناته حسب الطلب، وستضاعف الكثير من قدرات دماغه؛ كل ذلك يجعل منه كائنًا فوق البشر، فوق الإنسان. فلا عُمر يحدّه ولا شيخوخة تصيبه ولا مساواة يدعو إليها ولا عدالة فرص. فكل من يدفع أكثر يكون هو الأذكى والأقوى والأغنى والأجمل، ولا ذكر ولا أنثى ولا عائلة ولا أخطاء يرتكبها. باختصار، سيصبح العالم قسمين: الأول نخبة تتوارث كل شيء، والثاني لا يهمّ، ولا حاجة أو ضرورة لوجوده[*].
أقول، حتى في هذه الوضعية، يجب أن تظل فكرة وجود حياة وكائنات حية خارج الأرض، وقابلية الكواكب للسكن، مجرد فرضية، لا أن تصبح -وهذا حالها اليوم- هوسًا وعقيدة وأيديولوجيا تجتاح علماء وساسة من يملك القدرة على المعرفة من الدول والشركات، في الشرق والغرب على نحو خاص: "إننا قادرون على العثور على حياة خارج الأرض في مدة قد لا تتجاوز العقدين من الآن، وهذا حسب مقدار العمل والبحث والتمويل، أو عن طريق المصادفة بعثور غيرنا علينا"[**]. وها هو "ستيفن هوكينغ في عام 2010، يحذّر من خطورة المحاولات البشرية للتواصل مع حضارات فضائية أخرى، مما قد يسبب خطرًا على كوكب الأرض المحتمل أن يتحول إلى مطمع لهم مثلًا، أو غير ذلك من المغامرات غير المحسوبة."
باتت القناعة دفينة، في المجتمع العلمي الغربي، بنهاية الأرض أو بنهاية الحياة فيها، بمساهمة الإنسان، وأصبح البحث عن حياة في الكون أو عن كوكب صالح للسكنى مشروع ضرورة لغريزة البقاء.
ما هذا الجنون؟ ما هذه الوثنية العلمية؟ من يقف خلف هذه الهلوسات ويموّلها ويدعمها؟ ولماذا؟
مع بداية الثورة الصناعية في الغرب، أصبح الإنسان يتعامل بغرور وقسوة مع الطبيعة وثروات الأرض. وكان الفكر الأوروبي، في حينه، يستخدم لغة القوة والعنف (انتزاع الأسرار، قهر الطبيعة، السيطرة عليها...)، وبعد قرون من تراكم نتائج التطور الصناعي، بدأت تظهر أعراض المرض على كوكب الأرض، من نفايات وتلوث واضطراب المناخ وتهديد بانقراض فصائل أو أنواع، وربما أجناس كاملة من الكائنات الحية، بل إن تهديد النفايات والتلوث قد وصل واستقر في مدار الأرض الخارجي.
يبدو أن أحد قوانين الصناعة هو هذا: كلما زادت الصناعة زاد التلوث والتدمير. ولم يخلُ الأمر من وجود جذر في الثقافات والحضارات والأديان. وهي عقيدة نهاية الحياة ودمار العالم، ويؤمن بها المسيحيون الصهاينة، والتي كشفت عنها روايات وأفلام أمريكية، المشترك فيها هو ذلك الدمار والفناء من فعل الطبيعة وليس الإنسان. ناهيك عن أن علماء الفضاء يقرّون باحتمال وقوع كوكب الأرض في بطن ثقب أسود، وأنه لا يمر عام إلّا وتعلن وكالات الفضاء عن اقتراب أجسام صخرية ضخمة أو كويكبات من كوكب الأرض، وطبعًا لا ينسون التصريح باحتمال اصطدامها بالأرض، لكأن حدوث ذلك الاقتراب هو مناسبة لتصريحهم.
كيف لا، وقد استحالت فرضية تفسير انقراض واختفاء شكل لحياة كانت تسودها الديناصورات، باصطدام كوكبيّ بالأرض، إلى عقيدة، بل إن الاصطدام أصبح نظرية لتفسير كل شيء حتى لو كانت متناقضة:
(الاصطدام هو سبب ظهور الحياة على الأرض؛
وهو سبب انفصال ووجود الأرض من الشمس؛
وهو الناقل للخلية الحية إلى الأرض؛
وهو سبب وجود بعض العناصر في الأرض؛
وهو المسؤول عن وجود تلك الفجوات أو الحُفر الجيولوجية الدائرية على سطح الأرض؛
وهو الاحتمال اليومي لتدمير الأرض).
هذه الفكرة عززت من ارتكابية واقترافية الدور الإنساني في حق الحياة والطبيعة على كوكب الأرض.
يجدُر بسادة التطور العلمي وأباطرة العلوم وتكنولوجيا الفضاء، ومع كل أبحاثهم المحمومة، الاتفاق معنا على أن كوكب الأرض سيظل بيتنا الوحيد، بيضة الحياة الوحيدة في الكون حتى ألفي عام
لقد باتت القناعة دفينة، في المجتمع العلمي الغربي، بنهاية الأرض أو بنهاية الحياة فيها، بمساهمة الإنسان (تناقُص الموارد ونفادها مقابل الانفجار السكاني، إمكانية وقوع حرب نووية، قرار أو خطأ في التعامل مع منتج أو ابتكار فتاك)، وأصبح البحث عن حياة في الكون أو عن كوكب صالح للسكنى، مشروعَ ضرورةٍ لغريزة البقاء.
يجدُر بسادة التطور العلمي وأباطرة العلوم وتكنولوجيا الفضاء، ومع كل أبحاثهم المحمومة، الاتفاق معنا على أن كوكب الأرض سيظل بيتنا الوحيد، بيضة الحياة الوحيدة في الكون. تلك أُمّ الحقائق، أولها وآخرها ما دامت البشرية تنتظر توصلكم إلى تحقيق السفر في الفضاء بنصف سرعة الضوء. الأرض هي بيتنا الوحيد، حتى ألفي عام.
لا أقلل أبدًا من قدرات وإمكانات وطفرات التطور العلمي، بل أشدد على أنه يجب النظر، بتواضع وموضوعية، إلى ما حققه البشر من إنجازات خارج الغلاف الجوي للأرض؛ فخروج الإنسان من مدار الأرض يشبه إلى حدّ بعيد خروج بكتيريا واحدة أو أكثر من شق حبة رمل، لتقف على حبة رمل أصغر (=القمر)، وتعرف أن بضعة حبات تدور حول حبة مشعة ساخنة (=المجموعة الشمسية)، التي بدورها تستقر على مقدار ملعقة رمل معلّقة (=مجرة درب التبانة)، وحين استخدمت وسائطها المتاحة، بدا لها أن ثمة ملايين من ملاعق أو عناقيد رمل معلّقة في ظلام لا يُحدّ، بارد، وبلا جهات.
تلك هي خلاصة ستة عقود فقط، من الاستكشاف الفعلي للكون، مسبوقة بعقائد عن نهاية العالم ومصدر الحياة، وبفرضيات مشحونة بالشخصانية والهيمنة والمواجهة والاحتكار، وأن بعضها لا عقلانية قد تدعو أحيانًا للسخرية؛ (أتذكر أن بعض الصحف اليمنية تداولت خبرًا، في مطلع تسعينيات القرن العشرين الماضي، عن عدة أشخاص رفعوا دعوى قضائية ضد الولايات المتحدة الأمريكية، لمنعها من الهبوط على كوكب المريخ، باعتباره ملكية خاصة ورثوها عن أسلافهم، وأن لديهم وثائق تثبت ذلك! وبعد أيام، أذاعت راديو (بي بي سي) العربية، أن السفير الأمريكي في صنعاء -كان آنذاك آرثر هايدن هيوز (Arthur Hayden Hughes)- أرسل إلى النائب العام حينها، محمد البدري، مذكرة أو طلبًا استيضاحيًّا عمّا نُشر. وقالت (بي بي سي) إن النائب العام أجاب السفير بأن الأمر لا يعدو عن مزحة ثقيلة تمادى فيها أشخاص مستهترون، وأن النيابة ستتخذ في حقهم الإجراءات الرادعة).
أخيرًا، إن حجم تمويل برامج البحث عن وجود حياة وكائنات وكواكب شبيهة بالأرض، هو كفيل بإبقاء الأرض نظيفة، وبحماية الحياة عليها.
نحن أمام قرار أولوية:
تمويل الوهم، الاحتمال، والإمكانية.
أم حماية الحقيقة، المتحقق، والمؤكد.
________
* للمزيد عن هذا الموضوع، انظر كتاب "نهاية الإنسان" لفوكوياما.
** إعلان سيف شولتز أمام الكونغرس الأمريكي.