يشهد القطاع الصحيّ اليمنيّ تدهورًا مستمرًا، تنمو تأثيراته السلبية على المرضى، نتيجة التراجع المخيف في مستوى الخدمات التي كانت تقدمها المشافي لمرضاها، وتحديدًا المستشفيات الحكومية.
ما من شك في أن الحرب هي السبب الرئيس لهذا التدهور، لكن سلسلة الأسباب تمتد إلى هجرة كبار الأطباء والاستشاريين الذين كانوا يعملون في تلك المشافي، إلى خارج الوطن، ثم التوسع غير المدروس لسوق المستشفيات الخاصة، وتحويل مهنة الطب من خدمة إنسانية إلى سلعة تجارية، الأهم فيها هو تحقيق الربح والإثراء ولو على حساب حياة المرضى المثقلة بالآلام.
حتى اندلاع الحرب في مختلف مناطق البلاد قبل أزيد من ست سنوات، انعكست تأثيراتها العميقة على القطاع الصحي بالتدهور الشامل للمستشفيات الحكومية، إذ شملت تلك الأضرار جميع الكوادر الطبية بمختلف تخصصاتهم، وبرز تضررهم للعلن بعد أن انقطعت رواتبهم في مناطق سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، منذ سبتمبر/ أيلول 2016. كان انقطاع الرواتب بمثابة تنبيه لغالبية الأطباء لكي يبحثوا عن مصادر أخرى للدخل ليتمكنوا من الإنفاق على أسرهم، وتحديدًا الذين يعملون في المستشفيات الحكومية، ومعظمهم حديثي التخرج. كانت وجهة هذا الكادر الطبي بعد انقطاع الرواتب صوب شركات الأدوية والصيدليات الكبيرة والمختبرات الطبية الخاصة، لترويج الأصناف الدوائية للمرضى، أو نصحهم بشراء الأدوية أو إجراء الفحوصات المخبرية في صيدليات ومختبرات محددة، مقابل عمولات تُمنح للطبيب الذي أرسل المريض.
العمولة جسر عبور لثراء الأطباء
في الواقع، كان مثل هذا التنسيق التجاري بين بعض الأطباء وملّاك الصيدليات والمختبرات موجودًا قبل الحرب، لكنه ازدهر بشكل كبير بعد اندلاعها وتأثيرها على مجمل حياة الناس. وازدهرت مؤخرًا مجموعة من شركات الأدوية التي نشأت خلال فترة الحرب، وقفزت إلى الواجهة، رغم أن الأصناف الدوائية التي توفرها هذه الشركات ليست ذات جودة أو فعالية عالية للمريض، لكنها عملت على تسويق بضائعها الدوائية عبر أطباء يقررون هذه الأصناف للمرضى كبدائل عن الأدوية ذات الجودة الأفضل، وذات السعر الأعلى أيضًا؛ ولأن القدرة الشرائية للمواطن اليمني انخفضت بصورة مريعة خلال سنوات الحرب، فهو يقبل بالأصناف ذات السعر الأدنى، ناهيك عن ثقة المريض بالطبيب.
(ع. ن. س، 50 سنة)، وهو مستشار طبي تم ترميز اسمه بحسب طلبه، يقول لخيوط: "تحصل عملية ثراء مزدوجة؛ الأولى تحققها شركات الأدوية وبعض الصيدليات الكبيرة من مبيعاتها لكثير من الأصناف الدوائية المهربة أو المُقلدة، والأخرى يحققها الأطباء من العمولات عند تسويقهم تلك المنتجات لمرضاهم". ونتيجة لضعف الدور الرقابي على القطاع الصحي، يتم ترويج أصناف مختلفة من الأدوية البديلة أو المهربة، وبعضها تجلب مزيدًا من المشاكل الصحية للمرضى، بحسب ما أضافه المستشار الطبي، الذي أشار كذلك إلى أن بعض الأطباء لا يأخذون بالاعتبار الحالة الصحية للمريض بصورة متكاملة، بل يسعون لتحقيق أكبر قدر من العمولات.
خالد الشجاع، طبيب أطفال، حديث التخرج ويعمل في أحد المراكز الطبية بالعاصمة صنعاء، يقول لـ"خيوط": "الظروف التي نمرّ بها دفعتني للتعامل مع شركات الأدوية، واعتماد أصنافها الدوائية في روشتات المرضى، وبالمقابل آخذ العمولة التي سبق أن اتفقت عليها مع مندوب الشركة". وتتباين مبالغ العمولات من طبيب لآخر وفقًا لعداد المبيعات، وهكذا انفتح باب العمولات على مصراعيه، متجاوزًا الحد الذي كان فيه مواربًا، أمام أطباء يستثمرون في أوجاع المرضى، متجاوزين بدورهم "قَسَم الطبيب" وواجبهم الإنساني تجاه مرضاهم.
في أحد المختبرات الحديثة بصنعاء، التقت "خيوط" مرضى أرسلهم طبيب واحد إلى هذا المختبر لإجراء الفحوصات، وجميعهم أفادوا بأن الطبيب أكد عليهم أنه لن يقبل نتائج فحوصاتهم من غير هذا المختبر.
مندوب إحدى شركات الأدوية في صنعاء (41 سنة)، تحفظ عن ذِكر اسمه نظرًا لحساسية المشكلة، يقول لـ"خيوط": "ندفع عمولات لكثير من الأطباء، وأحيانًا تصل عمولة الطبيب الواحد (800$)، وهم الذين يسوّقون أدويتنا التي تعتبر بديلة عن الأصناف الأصلية". أي إن مقدار ما يحصل عليه الطبيب، يعادل مبلغ (480) ألف ريال يمني، بالنسبة لأسعار الصرف في مناطق سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين).
المرضى لا يدركون حقيقة الأمر
يبحث المرضى عن الشفاء بشتى الوسائل، إذ يدفعون مبالغ طائلة ثمنًا لفواتير استطبابهم، حتى تعود العافية الى أجسادهم المنهكة. كثيرون منهم يضطرون لبيع مدخرات شخصية من أجل زيارة طبيب أو شراء دواء. لكن بعض الأطباء أصيبوا بأزمة في ضمائرهم وسعوا نحو المتاجرة والربح بأوجاع مرضاهم دون رحمة. في زحمة ممرات عيادات الأطباء بالمستشفى الجمهوري بصنعاء، المليئة بالمرضى من مختلف مناطق البلاد. لمحت رجلًا ستينيًّا بدت عليه ملامح القروي المتواضع، جالسًا مع عقيلته الخمسينية المنهكة التي يرافقها في رحلة تداويها، في انتظار دورها للدخول إلى عيادة الطبيب.
بحسب إفادة الرجل لـ"خيوط"، فقد جاء من محافظة الجوف- شمال شرق صنعاء، باحثًا عن علاج ناجع لزوجته. هو لا يعرف ما هو مرضها، لكنه يثق بأن الدواء الذي سوف يصفه الطبيب سيفيدها. ومع ذلك لا تجد الزوجة المريضة فرقًا إيجابيًّا في صحتها، ويؤكد أنه في كل مرة يأتي بها إلى مستشفيات العاصمة، يبيع جزءًا من مدخراتهما الشخصية. ومثلما يجهل الرجل الأمي مرض زوجته، لا يعرف أيضًا أن جزءًا من المبالغ التي يدفعها مقابل الأدوية، يذهب إلى جيب الطبيب المعالج لزوجته، مقابل عمولة تسويق أدوية الشركات التي تدفع هذه العمولة.
وتشكو امرأة ثلاثينية، كانت تتواجد في المكان لعرض طفلها المتوعك على أحد أطباء المستشفى، من أن الأدوية التي يصفها الأطباء "لا تنفع المريض". تقول لـ"خيوط" بلهجتها الصنعانية: "يصرفوا لنا علاجات ما عاد تنفع، مقصدهم غير نجلس نشتري علاج، من أين لنا فلوس نشتري كل مرة وهم عارفين حالتنا؟!".
ويبقى المرضى عُرضة للاستغلال التجاري من قبل بعض الأطباء الذين فقدوا إنسانيتهم لقاء تقاضيهم العمولات. داخل أحد المختبرات الحديثة بصنعاء، التقت "خيوط" مرضى أرسلهم أحد الأطباء إلى هذا المختبر لإجراء الفحوصات التي قررها لهم. جميعهم أفادوا بأن الطبيب تحتفظ "خيوط باسمه، هو من أرسلهم لإجراء الفحوصات في هذا المختبر، وبأن الطبيب نفسه أكد عليهم أنه لن يقبل نتائج فحوصاتهم من غير هذا المختبر.
صارت حياة معظم المرضى أقرب لطريق الموت، من بقية الطرق الأخرى التي تحيط حياتهم؛ فقرٌ نتيجة الأوضاع المعيشية الأكثر مأساوية التي خلفتها الحرب، ومرضٌ دون الحصول على تطبيب جيد ينقذهم من مخاطر الأمراض المتعددة والمستجدة، وفوق هذه المأساة الكبرى، يظهر أطباء يحنثون بقَسَمهم ويستغلون معاناة المرضى ويستثمرون فيها تجاريًّا.