كثيرة وكبيرة هي الصعوبات والعراقيل التي تواجِه الأكاديمي اليمني، طوال العشر السنوات الماضية، وبشكل لم يكن يتوقّعه أكبر المتشائمين وأقل المتشائمين، من أبناء الوسط الأكاديمي اليمني وغيرهم.
ولعلّ الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها أكثر أساتذة الجامعات في بلادنا، تقف في مقدِّمة تلك الصعوبات المشار إليها، ولا سيّما مع تدهور الوضع الاقتصادي العام، نتيجة الظروف العامة المعروفة التي يمر بها البلد.
فبعد أن كان الأستاذة الجامعيون اليمنيون يرون أنفسهم مهضومين في حقوقهم، إلى ما قبل آخر عقد، وظلّت نقاباتهم الأكاديمية تطالب الدولة والحكومة بتحسين أوضاعهم؛ أصبح الكثير منهم يحلم بعودة تلك الحقوق التي كانت لهم، بعد أن انقطعت الرواتب عن أساتذة عدد من الجامعات، في حين أن الراتب لم تعد له أدنى قيمة حقيقية في الجامعات الأخرى، وفقًا للانهيار الذي تعرَّضت له العملة.
حالات مرَضية صعبة
وقد اطَّلعنا، طوال السنوات الماضية، على الكثير من القصص التي تعكس حجم المعاناة التي يعاني منها أكاديميو البلاد، الذين يُفترَض أن يكونوا محل الاهتمام والرعاية، على المستويين الرسمي والشعبي.
تلك القصص استعرضت لجوء بعض الأساتذة الجامعيين إلى العمل في مِهَن لا تليق بهم، بل إن بعضهم مارسوا أعمالًا شاقَّةً عليهم، وهناك من اضطروا إلى العمل في "تاكسي" أو "باص"، أو في محل تجاري "بقالة"، مع إدراك ما قد ينعكس سلبًا على جانب الإنجاز العلمي والبحثي لهم، ولكنها الضرورة التي ألجأتهم إلى ذلك.
وقد سمعنا عن حالات مرَضية صعبة مرَّ بها أساتذة في الجامعات المختلفة، مع عدم قدرتهم على مواجهة الحد الأدنى من تكاليف العلاج، وبعضهم مرُّوا بضغوط شديدة، جعلتهم يعانون صحيًّا، مع محاولتهم كتم معاناتهم، فكان أن وقعوا في "ذَبَحَات" و"جَلَطَات" مفاجئة، دون أن يكون في كلامنا هذا أدنى اعتراض على أقدار الله.
وكان الوسط الأكاديمي اليمني، قد فُجِع أخيرًا بوفاة أحد أبنائه، وهو يؤدِّي رسالته العلمية الأكاديمية في الجامعة، فكان وَقْع هذا الفراق، وبهذا الشكل بالذات، شديد الألم على زملاء الدكتور الفقيد وطلبته ومحبيه وعارفي فضله عمومًا.
هذا الأكاديمي الراحل، هو الدكتور عبدالجبار طارش التميمي، أستاذ علوم الحاسوب في كلية العلوم التطبيقية بجامعة تعز- نائب عميد الكلية للدراسات العليا والبحوث، عميد كلية الهندسة وعميد الدراسات العليا في الجامعة الوطنية بتعز.
وكانت جامعة تعز وكلية العلوم التطبيقية، قد نعتا الدكتور، وتطرّقتا إلى بعض المحطَّات في مسيرته. وأشارتا إلى أن الفقيد كان مثالًا للأكاديمي المستوعِب للرسالة التي يحملها، ووصفتاه بـ"الأكاديمي المهني المتخصِّص، أحد أعمدة الجامعة في كلية العلوم"، وأضاف البيانان أن الفقيد "رحل وهو في قمة عطائه... بعد حياة حافلة بالعطاء والتفاني في خدمة العملية التعليمية"، مع التنويه بما كان يحمل من "صفات جعلته يحتل مكانةً عظيمةً في قلوب زملائه وطلبته، ومنتسبي الجامعة كافة".
كما نعَتْه الجامعة الوطنية، التي يعمل فيها عميدًا للدراسات العليا؛ إذ قالت في بيانها إن الفقيد كانت له "حياة حافلة بخدمة العملية التعليمية"، منوِّهةً بأنه كان "يتميّز بصفات وفضائل نادرة، جعلته يحتل مكانةً طيبةً في قلوب طلابه والوسط الأكاديمي بشكل عام".
بعد أن كان الأستاذة الجامعيون اليمنيون يرون أنفسهم مهضومين في حقوقهم، إلى ما قبل آخر عقد، وظلّت نقاباتهم الأكاديمية تطالب الدولة والحكومة بتحسين أوضاعهم؛ أصبح الكثير منهم يحلم بعودة تلك الحقوق التي كانت لهم، بعد أن انقطعت الرواتب عن أساتذة عدد من الجامعات، في حين أن الراتب لم تعد له أدنى قيمة حقيقية في الجامعات الأخرى، وفقًا للانهيار الذي تعرَّضت له العملة.
أحد فوارس كلية العلوم التطبيقية
وأشار الدكتور صادق الشميري، نائب رئيس جامعة تعز الدراسات العليا، إلى أنَّ الدكتور طارش كان يعاني من بعض الآلام الصحية، بيد أن إمكاناته الصعبة، كحال أكثر أكاديميي بلادنا في السنوات الأخيرة، حال دون تمكّنه من عمل اللازم. وأشار الشميري إلى أن الراحل "كان يشعر بألم خالف كتفه، ولكن لم يمنعه ذلك من التفكير في أسرته، فآثر تحمل الألم على أن يثقل كاهل عائلته بتكاليف العلاج الباهظة"، مضيفًا أن الدكتور الفقيد، صباح يوم رحيله، "انطلق كعادته بكل عزيمة إلى الجامعة الوطنية، ساعيًا لتحسين مستوى معيشته، ولكن شاءت إرادة الله أن يودِّع عائلته من مكتبه هناك، تاركًا أثرًا طيبًا وسيرةً عطرةً".
وأعرب الدكتور إلياس صادق، أحد زملاء الفقيد، عن أسفه الناتج عن ترجل فارس جديد من فوارس الحقل الأكاديمي في جامعة تعز خصوصًا، واليمن عمومًا. مشيرًا إلى أن الراحل كان بحق "أحد فوارس كلية العلوم التطبيقية بجامعة تعز، ومؤسس قسم علوم الحاسوب بشعبتيه: الأمن السيبراني، والذكاء الاصطناعي". وقال إنَّ الفقيد كان "نسمةً خفيفةً بتعامله مع الجميع".
وقال الدكتور منذر إسحاق، في مخاطبته الفقيد طارش: "على مثلك، يكون الحزن والألم والحسرة عند الرحيل"، واصفًا الرحيل المفاجئ في محراب العِلم، قائلًا: "يا له من رحيل هادئ وشامخ، من منصتك التي أحببتها، ومنبرك الذي اعتليته باقتدار"، مضيفًا: "يا له من رحيل قبل الأوان، فما زال معينك يتدفّق عِلمًا وحلمًا ورُقيًّا"، وتابع: "يا له من رحيل يفرض صمتًا رهيبًا على الحضور، وعجزًا بالغًا عن التعبير، وقصورًا غير مسبوق في مفردات اللغة".
مكانة العالِم أكبر من مكانة العابد
من جهته، لفت الدكتور محمد النظاري، عميد مركز التدريب وخدمة المجتمع بجامعة البيضاء، إلى أن مما يزيد من القهر الناتج عن رحيل الدكتور طارش، أنه غادر مقهورًا، في زمن لا مكان فيه للعلماء، في إشارة منه إلى الأوضاع الصعبة التي يمرون بها.
وتساءل النظاري تساؤلًا إنكاريًّا، مفاده: متى يتم الرفع من قدر العلماء وإنزالهم المنزلة التي يستحقونها؟!
ورأى الدكتور عبدالملك منصور، نائب عميد كلية مركز اللغات بجامعة إب، أنَّ "قدر العلماء أن يموتوا مقبلين غير مدبرين، حاملين أسلحتهم، لتنتهي حياتهم دون ضجيج ولا صخب، إلا أنهم يتركون أثرًا لا يُنسَى"، متطرِّقًا من ذلك إلى أن الدكتور عبدالجبار طارش غادر الحياة الدنيا مقبلًا في محراب العِلم، يحارب الجهل بكل ما يملك من أدوات وإمكانات.
وتطرّق الدكتور منير السروري، أستاذ علوم الحاسوب ونائب عميد كلية العلوم بجامعة إب، إلى بعض جوانب المسيرة العلمية الأكاديمية للدكتور عبدالجبار. موضحًا أنه "أسهم طوال سنواته في تطوير العقول الشابة، وتوجيهها نحو آفاق المعرفة، وأشرف على العديد من الرسائل والأبحاث التي أضاءت دروب طلبة العلم". ورأى أن الرحيل جاء لائقًا به، فقد جاء وهو يؤدي مهامه العلمية والأكاديمية في الجامعة.
وذهب الدكتور رصين الرصين، أستاذ اللغويات العربية بجامعة صنعاء، إلى أن وفاة الأستاذ الجامعي وهو يؤدي عمله التدريسي والأكاديمي تشير إلى الخاتمة الحسنة، فالحال هنا –حسب وصفه- كحال الذي يُتوفَّى ساجدًا، إن لم تكن منزلته أعلى، بحكم أن مكانة العلم أكبر من منزلة العابد.